<%@ Language=JavaScript %> حمزة الحسن الرهائن

 

 

 

 الرهائن

 

 

حمزة الحسن

 

قد لا نكون مخطوفين من قبل عصابة مسلحة، لكي نسمى رهائن، بل نكون أسرى معتقلات التردد وضعف القدرة على الحسم:
نصبح معلَّقين وأسرى بين قبول ورفض الاخرين، لأن نظم العقاب الجماعية في المجتمعات المغلقة لا تقل قسوة عن نظم العقاب السلطوية، وهو أمر منطقي لأن السلطة السياسية نتاج السلطة الاجتماعية وليس العكس كما في التفكير الانقلابي.

في المجتمعات الديمقراطية يتم تعليم الصغار والكبار على وسائل الحسم في الحياة الخاصة،
وتنظم دورات تدريبية من قبل أخصائيين لتطبيق استراتيجيات الحسم وانهاء التردد عندما تتعرض الحياة الشخصية للتهديد الجسدي او المعنوي،
أو عندما تُهدر حقوق الفرد الخاصة وتتعرض كرامته للأذى سواء من قبل أفراد أو هيئات أو سلطات أو منظمات أو علاقات انسانية تقوم على جعل الاخر صورة مطابقة لنا في الفعل والتفكير وفي المشاريع أيضا، أو عندما تصل علاقة ما الى طريق مسدود.

كلما أعدت قراءة كتب تنمية الذات وبصورة خاصة كتب تعليم الحسم وانهاء التردد في انهاء علاقة أو التوقف عن مشروع أو الدفاع عن الذات في ان تكون نسخة من الاخرين، وعلى نحو خاص كتب الاخصائية الانكليزية جيل لندنفيلد( مؤلفة كتاب: كن حاسماً، وغيره) لا تحضر في البال غير كلمة

( رهائن) في وصف حالتنا التي تستعصي على الوصف في كثير من الأحوال.

لماذا تدفع ثقافة معينة على التشجيع على الحسم في أمان وسلام بلا عنف وبكل هدوء وعقلانية،
في حين تدفع ثقافة بلد آخر الى الاندماج والتساهل والاذعان وقبول الاخر حتى عندما يصبح عبأً أو خطراً ماديا أو نفسيا؟

ما الذي يجعل شخصية من ثقافة مبنية على احترام الحقوق الفردية والحريات الخاصة والعامة تتقبل موقف الآخر في الحسم المسالم وانهاء كل أشكال التعامل بلا ضجيج، ولا بلاغات حربية ولا تفسيرات سيكولوجية أسطورية انشائية مرتجلة فارغة من المحتوى والتجربة والمعرفة والأساس والمعنى؟

في حين يتحول هذا الشخص، في بلدان القمع والزجر، الى مفسر أساطير وحكواتي خرافات وتحليلات باهتة عن الآخر المختلف ومعدات ضخمة من الضجيج والصخب والتحريض كما لو ان ورقة الخريف التي سقطت من شجرة على فرخ دجاج جعلته يدخل المدينة زاعقاً بأن السماء أنطبقت على الأرض كما في حكاية للاطفال؟

من أبسط حقوق الانسان أن يكون كما يريد، وأن يفكر ويحلم بل يخطأ عندما يوضع في مناخ الخطأ دون أذى أو في المحاولة والمغامرة والخلق والتصرف:
الحق في الخطأ مشرّع له في قوانين تشجع على المغامرة الفكرية والانسانية العادلة لكي يتجاوز الانسان نفسه وشرانقه نحو أمكنة جديدة وحياة جديدة.
ماذا يخسر النظام العام لو ان شخصا خرج من الوحل والمستنقع والقفص؟

من حق الانسان انهاء علاقة مع مكان أو مع نظام أو مع حزب أو فرد أو منظومة أفكار أو حتى مع نفسه هو عندما يحاول الخروج من ذات لم يكن شريكاً في صناعتها بل هي مجمع سلطات قهرية متناقضة فرضت عليه منذ الولادة بلا نقاش ولا خيار ولا قناعة أو تقبل بل بالقسر والاكراه.

ماذا سينقص منظومات القمع الاجتماعية والسياسية والثقافية ـــ بالمعنى الواسع للثقافة وليس الادب فحسب ــــ لو ان فرداً من أفراد هذا المجتمع أو ذاك قرر أن يكون حاسماً في قضاياه الخاصة، في الصداقة والتفكير والعمل والكتابة والأسرة والجيران والشارع والمكتب دون أن يكسر عود ثقاب نتيجة هذا الحسم الذي هو في صميم الكرامة الانسانية، وهو المسؤول الأول والأخير عن انهاء التردد وفرض الحسم في قضايا لا يستطيع غيره فهم أبعادها تتعلق بتكوينه النفسي والثقافي وفي تجاربه في الحياة التي أُهدرت في مجاملات مكلفة ومرهقة الحقت ضرراً وتخريباً وحرماناً من متع انسانية مشروعة بسبب محاولات ارضاء الاخرين على حساب الحياة نفسها وعلى حساب الحرية وعلى حساب الصحة؟

أعرف اصدقاءً من بلدان مختلفة انهوا علاقاتهم لكنهم حافظوا على مستوى راق ومذهل من علاقات المسافات في الشارع وفي العمل، وأعرف معرفة شخصية أزواجاً انفصلوا لكنهم ظلوا على تواصل جميل مع حفظ المسافات، بل اعرف زوجاً نرويجياً صديقاً انفصل رسميا عن زوجته وتزوجت من آخر،
لكن عندما وقع مريضاً كانت تزوره كل يوم وتغسل الثياب وتعد الطعام وتنظم شؤونه العملية وتخرج.

لماذا هاجس( اعلان الحرب) في ثقافتنا عند الاختلاف أو الحسم المسالم وقصائدنا وكتبنا وخطاباتنا مليئة بالزهور والفراشات والعصافير والحدائق؟
كيف يمكن بناء السلام بعقلية محاربة؟
في التفاصيل الانسانية الصغيرة تلوح معالم الحاضر وصورة المستقبل.

في دول ومجتمعات القمع فقط ينتقل الخلاف الفردي مع شخص الى خلاف مضخم مع التاريخ والوطن والاخلاق والسيكولوجيا، وهو نقل مخادع وملفق لوضع المختلف أمام كيانات وقوى أكبر من أجل توسيع دائرة الحرب والتشنيع، وهو ( توسيع) أقرب الى سلوك النصب والاحتيال رغم الترسانة الكبيرة من أساليب التحايل والمراوغة وحجب الحقائق الأساسية للاختلاف.

في المجتمعات المغلقة يتحول الاخر الى رهينة المزاج والمعتقد والاهواء والرياح العامة،
لكي ينجو من وصم الخروج على الجماعة حتى لو كانت هذه الجماعة مؤسسة على الاجترار والتكرار والاعادة، كما لو ان عقداً ملزماً بيننا على العيش المقرف وغياب الاستقلالية وايقاف النمو والفرح والمسرات البسيطة العابرة:
أحيانا يكون الاعتراض العام على الحزن وعلى النفور وعلى الألم الفردي أو حتى على التعبير الصريح النقي عن مشاعر واضحة،
كما لو ان الغاء الذات شرط الدخول في اقفاص الأسر وفي معتقلات الاخرين التي لا خروج منها لأنها معتقلات داخلية،
وغير مدركة في اغلب الاحوال.

لا يمكن قراءة هذه الحالة الشاذة بكل معنى الكلمة خارج نظم السلطة والمجتمع،
وهي اذا كانت تظهر بوصوح صارخ في العلاقات الفردية،
لكنها لا تخفي حقيقتها العميقة في كونها نتاج ثقافة الاذعان والترويض والاهانة والزجر التي تُمارس على الفرد منذ الطفولة،
وتجري عليه عمليات اذلال وتركيع وخضوع مبرمجة من السلطات كافة ومن النظام الاجتماعي،
حتى تصبح ثقافة الحسم وتأكيد الذات نوعاً من العصاب النفسي أو العاهة أو الخلل العقلي من منظور عام،
ويتحول الركوع المختلف الصور الى نمط الانسان( العاقل) و( المتوازن) في حين تؤكد العلوم الانسانية بصورة قاطعة،
كما تؤكد التجربة ان مثل هذا الانسان هو سجين ومريض ورهينة وعاجز عن اية مبادرة خلاقة حتى في نطاق ضيق لأن نظم الزجر والقمع والوصم والوصاية تقف عائقا أمام تفتح ذات فردية في مناخ صحي معافى وهو شرط جوهري في بناء مجتمع صحي ومعافى،
لأن العوق الفردي العام يشل الطاقة ويشل العقل.

نلمس ذلك هذه الايام ، مثلا، في صفحات التواصل الاجتماعي التي وفرت لنا فرصة موثقة للتعرف على الكيفية التي يتم فيها الرد على مواقف حاسمة من بعض الأفراد في انهاء علاقات أو الكلام عن مشاريع خاصة أو تصورات فكرية أو رغبات فردية لا تلحق ضررا بالاخرين تحققت أم لا.

نتعرف يوميا على الضجيج والنواح والتحليلات السيكولوجية الممزقة الباهتة والاحتجاج الغوغائي الزاعق لأن مواقف حاسمة لم تعجبنا في هذه القضية أو تلك،
بل يتحول البعض الى خبراء في التحليل النفسي وفي التشخيص عن بعد،
وأبعد من ذلك يصل هؤلاء الى نتائج قاطعة تُفسر مواقف فردية عادية هي جزء اساسي من حقوق الانسان في الحسم والاختيار والحرية والمسؤولية دون أن يتطلب هذا الأمر كل هذا العناء في مجتمعات أخرى تحترم الخيارات وتحمل المسؤوليات،
بل تشجع ثقافةً وأعرافاً وفي القوانين المكتوبة على الحق في الحسم الآمن والمسالم لأنه من شروط الحياة والحرية.

كيف يمكن، مثلاً، بهذه الخفة العقلية والاخلاقية أن تحلل الآخر وتصل الى خلاصات جازمة يقينية حازمة في ( التشخيص) مع ان هذا الآخر مجهول في كل شيء،
ويعجز أمهر علماء النفس في تشخيص حالته في شهور وسنوات في لقاءات ومقابلات دورية وفحوصات طبية مختبرية في أحدث مصحات العالم؟

من أين تنبع هذه الخفة وهذه الارتجالية في تقرير مصير الآخر؟
بلا أدنى شك من ثقافة عامة سائدة تقوم على ان:
( التشابه) وليس (الاختلاف) هو الحالة السوية،
على أن المطابقة وليس التنوع هي الأصل،
على ان الاندماج وليس الحرية هو الأساس،
وهذه قواعد قطيع.

عندما تسود مثل هذه المعايير، كما في حالتنا، نصبح سجناء بلا قضبان،
ورهائن بلا خاطفين،
وأسرى بلا معسكرات اعتقال:

بصريح العبارة نصبح أشياءً تتراكم على بعضها،
ونسخاً من مخلوقات تمشي في شارع يضج بالصخب الفارغ،
ومعتقلات متنقلة محشوة بثباب البشر.

 

حمزة الحسن

 

26.11.2014

 

عن موقع الكاتب على الفيس بوك

https://www.facebook.com/hmst.alhasn/posts/10152582545667266

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4]  | أرشيف المقالات  |  دراسات  |  عمال ونقابات |  فنون وآداب |  كاريكاتير  |  المرأة |  الأطفال | إتصل بنا       

      

لا

للأحتلال

لا

للخصخصة

لا

لتقسيم العراق

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة

من الكتاب والصحفيين العراقيين   

 

                                                                  

                                                                             

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org               الصفحة الرئيسية - 1 -