<%@ Language=JavaScript %> حمزة الحسن " قتل الواقع "

 

 

 قتل الواقع

 

 

حمزة الحسن

 

لا يمكن إحصاء عدد القوى التي تحاول تغيير الواقع العراقي بالسلاح، وأي واقع هو كائن حي يمتلك دورة حياة كاملة، ثم يندثر نتيجة عوامل كثيرة، لكن عملية ( قتل الواقع) مستمرة في العراق منذ 2003 في الأقل بصورة مباشرة وحادة ومسلحة، في حين ليست هناك قوى تعمل على تغيير الواقع بالفكر، لأن هذا النوع من التغيير لا يحدث الا في حالات الاستقرار النسبي،
والسلم الأهلي والتوافق الاجتماعي ووضوح قوى الصراع بين سلطة وشعب، بين سلطة ومعارضة، بين سلطة وأطرافها.
أين هو الصراع اليوم؟

أدوات قتل الواقع، وليس تغييره، متوفرة بافراط، هناك الصراعات المسلحة بين قوى كثيرة يعمل كل طرف فيها لالغاء واقع واحلال آخر، وقد حدث بسبب هذا الصراع أن تغيرت صورة الواقع في أمكنة كثيرة، وشمل هذا التغيير كل شيء: المؤسسات والسلطة والازياء والعقائد وحتى العملة والشعارات واختفى الواقع القديم بقوة السلاح، ومثال نينوي ومدن أخرى واضح.

هذا القلب المسلح للواقع جر معه مشاعر كثيرة سلبية، انه ليس الطوفان ولا الحريق ولا الاعصار ولا الزلزال، فهذه الكوارث تضرب الاشياء من الخارج مع بقاء نظم القيم كما هي، فلا يعاني الانسان من الاغتراب الطارئ لأن عالمه القديم ظل كما هو... مؤسسات ومناهج وطرق عمل وساعات الوقت،
لكن القلب المسلح شمل كل شيء بما في ذلك تغيير الوقت عكس التوقيت العام كما حدث في مدينة الرقة السورية وسيحدث في مدن عراقية أيضاً، كما لو ان المشروع ( الجديد) هو مشروع نسف كلي للانسان والامكنة والعقائد، أي مشروع محو جذري.

الصراع بين قوى مسلحة يضع الناس تحت خطر الموت،
وغياب الصراع الفكري يضعهم تحت خطر اليأس،
لكن هناك من يقول ان( هذا) الصراع المسلح هو صراع فكري بادوات مسلحة،
وهذا ليس صحيحا تماماً إلا كغطاء لأنه مشروع افناء وقلع.

نحن أمام أنواع مختلفة من الواقع العراقي اليوم تتصادم فيما بينها بقوة السلاح وحده،
وهي قوى محلية واقليمية ودولية،
وكل من هذه القوى تمتلك مشروعا للمستقبل،
وهو مشروع يجري انتاجه بالقوة وفرضه بالقوة،
أهم أنواع الواقع اليوم:

الواقع الأول: النظام القديم لم يمت كما هو متوقع لكنه تناسل في صور جديدة،
في منظمات وقوى مسلحة ومؤسسات السلطة القائمة،
لأن عملية تغيير الواقع تمت بالقوة المسلحة بلا أي مشروع سياسي أو فكري لبناء دولة عصرية،
بل كان خليطا من مشروع الانتقام والنهب والاصلاح الممزق المبعثر،
وأدوات التحكم بالواقع الجديد لا تختلف في ادارة السلطة من حيث العقلية والذهنية وفي نظرتها للسلطة كغنيمة ومُلكية وعقار واستحواذ واقصاء والغاء عن النظام القديم،
لذلك تناسلت الدكتاتورية في صور جديدة.

الواقع الثاني: هو واقع النظام الجديد الذي دخل، بحكم النشأة والتكوين والقوى المصنُِعة والقوى الحاكمة، في سلسلة صراعات مستمرة على السلطة،
في حين ان السلطة السياسية تأسست في العراق على يد الاحتلال الأمريكي على طريقة ( المتاهة) وتعدد مراكز قوى ـــ متصارعة ـــ يحكمها العداء وليس التوافق،
وتعدد الصلاحيات وتراكمها بحيث لا يصعب في بعض الحالات الوصول الى قرار سياسي عام في قضايا حساسة فحسب،
بل يستحيل أيضا،
وهو اسلوب ملغوم تركه المحتل للتحكم الخفي في السلطة في أي وقت،
لأن ( توزيع وتداخل) الصلاحيات على قوى متعادية جُمعت بصورة قسرية كشكولية هو اسلوب منتج للأزمات في القضايا الوطنية وفي التفاصيل أيضا:

لا يستطيع وزير دفاع، مثلا، أن يصدر أمراً لا يعجب رئيس الاركان او قائد الفرقة.
لا يستطيع وزير الداخلية أن يصدر أمراً لن ينفذه الجهاز الأمني لأنه يتعارض مع هذه الطائفة أو تلك الشريحة لأن الدولة الوطنية الراعية غائبة،
والهدف هو الحفاظ على الكيانات الفرعية،
والأمر نفسه ينطبق على مؤسسات الدولة الأخرى،
حتى وصل الأمر ان تكون هذه المؤسسات طرفا في الصراع المسلح الخفي ــــ تقديم وتسريب معلومات ـــ او العلني اذا طفح الكيل أو الانكشاف.

اذن امام واقع سلطوي قديم لا يموت بل يتناسل ويقاتل بالسلاح،
وواقع سلطوي جديد في الشكل لا يموت ولكنه يقاتل بالسلاح،
وواقع دولي تسلطي يغذي طرفي الصراع بالسلاح لادامة الحريق وادارة الازمة وانتظار انبثاق نتائج جديدة لصالحه في المستقبل القريب،
أمام هذه الانواع المسلحة من الواقع يقف الجمهور العام كمشاهد أو متفرج دون رؤية واضحة عن الحسم والمستقبل.

الواقع الثالث: هو المخفي والمطمور والمغطى في أعماق الناس وهو يختلف من حيث الجوهر عن كل أنواع الواقع الأخرى بل يتصادم معها،
لكنه الواقع الوحيد المجرد من القوة وان كان مسلحاً بالأمل،
ورغم ان هذا الواقع يظهر صاخباً في حالات كثيرة على شكل مقاومة سلبية وعلى صورة انكار واحتجاج ونقد يرتفع وينخفض من خلال اقلام وكتابات ومؤسسات مجتمع مدني فتية ومن قوى وطنية مغيبة ومقصية،
ومن أنشطة فكرية وثقافية وسياسية صغيرة هنا وهناك،
لكنها بحكم قوى الصراع المحلية والخارجية وشراسة المعركة بينها،
قليلة التأثير والفاعلية بل غير قادرة على احداث الشرخ المطلوب وكسر الحلقة المفرغة.

كيف يمكن كسر الحلقة المفرغة والخروج من الدوامة؟
اكثر من تصور لذلك لكن بالمختصر:
1 اما ان قوى الصراع تستهلك نفسها في قتال مسلح طويل الامد وتجد نفسها في النهاية عاجزة عن الاستمرارية ودفع الثمن وتلجأ الى البحث عن وسائل أخرى،
خاصة وان هناك من يشعل النار دائما ويوقد الفتيل للطرفين، كما حدث في لبنان، وفي غالبية الصراعات الأهلية المسلحة.

2 أو القتال الدامي بهدف افناء الاخر وخلق الواقع الجديد بالقوة المسلحة كما يجري اليوم في نوع من القتال الشرس الذي يصل في معارك كثيرة الى مستوى غرائزي،
وهذا قد يتحقق على يد النظام والقوات المشتركة يوماً،
لكن سيكون الثمن باهظاً وهذا الثمن ليس بأقل من دولة منهكة مستنزفة في حرب طويلة استهلكت كل مواردها تحت هيمنة خارجية صريحة أو مبرقعة،
وليس من المستبعد أن يكون هذا هو الهدف الحقيقي من هذا الصراع الطويل على مدى السنوات الماضية.

3 والاحتمال الثالث ، كما نكرره في مناسبات كثيرة، هو دخول عوامل غير متوقعة على هذا الصراع في بلد تتحكم فيه العقائد المختلفة والحساسيات الكبيرة والصغيرة والاحداث غير المفكر فيها والعوامل الفردية في صراع لا يخضع للتحليل المنطقي ويفتقد للسياق والتسلسل والبرامج،
وهذه العوامل ( غير المتوقعة) كانت حاسمة في حروب كبرى كما حدث في نهاية الدولة الأموية عندما تربص مقاتل لآخر خلفاء بني أمية الملقب بمروان الحمار وهو يقضي حاجته في ركن منعزل وجندله فوق بولته،
ومن هنا جاء المثل الشائع( الدولة الأموية بدأت بقميص وانتهت ببولة)،
وهو ليس بعيدا عن الحقيقة رغم انه لا يتوافق مع اصحاب تفسير صراعات التاريخ على انها حتميات وقوانين،
في حين اثبتت كثير من هذه الصراعات انها من صنع حماقات ونزوات وأهواء ومصالح فردية:
الم تتأسس بعض امارات الخليج التي تلعب دورا واضحا في عالمنا العربي على نهايات مشايخ قتلوا في الحمام بالخناجر أو السم أو الطرد خلال زيارة الى الخارج كما حدث مع الحاكم القطري الاسبق الذي ودعه ابنه في المطار خلال زيارة عادية الى سويسرا ،
وعندما حلقت طائرته في الجو، وصلته برقية فورية بعدم العودة وان صلاحيته انتهت؟

ألم يُخنق سلاطين عثمانيين وعباسيين حتى الموت من زوجات غيورات تركن أرجلهم تلبط في الهواء في السرير حتى خمدت الانفاس وتم تعيين الابن؟ ألم يدفع أحدهم شقيقه السلطان من فوق هاوية جبل خلال نزهة عادية؟

وكيف انتهت حملة منتظرة للاسكندر المقدوني الكبير؟
في اللحظة الأخيرة لحملة حربية وهو يتنزه في الحديقة قبل الانطلاق عضه قرد مسموم وانقذ البشرية من مذابح.

في التاريخ العراقي الحديث امثلة كثيرة على ان الواقع العراقي بل المصير العراقي حتى اليوم كان من صنع حماقات ونزوات ومصادفات:
ألم يتأخر الفريق سعدون غيدان الملقب بجنرال( الخصية والحزام) عشر دقائق عن الانقلابيين في فجر 17 تموز 1968 بعد الاتفاق معه على تسليم مفاتيح القصر الجمهور الذي كان آمر حرسه،
لأنه كان يقضي ليلة حمراء مع عشيقة ونسي ساعة الصفر التي غيرت مصيرنا حتى اليوم؟

في غياب أي حسم عسكري مسلح قريب،
أو في حال بقاء الواقع الثالث ، الواقع المأمول والمنتظر، تحت الركام،
وفي ظل غياب( قرد الاسكندر) في بلد فيه الاسكندر الاكبر في كل مكان،
أو تأخر ظهور العوامل الطارئة غير المحسوبة وغير المدركة التي عادة تأخذ شكل الانفجار العام الفجائي بعد انهيار غطاء المرجل والقهر المتراكم،
وفي غياب مشروع سياسي فكري يكسر الحلقة المفرغة في صراع لا صوت فيه يعلو على الرصاص والسحق والابادة،
سنظل نعيش هذه الانواع المشوهة من الواقع،
لكن كل هذه الانواع ستزول يوما بلا أدنى شك للأسباب السابقة،
وستحدث مساواة عادلة لكل الاطراف في:
المقابر والاهدار للثروات والألم والندم،
وهي مكافأة صراعات الاستهتار
وليست صراعات التنمية والحداثة.

 

حمزة الحسن

24.11.2014

عن صفحة الكاتب على الفيس بوك

https://www.facebook.com/hmst.alhasn/posts/10152579020537266

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4]  | أرشيف المقالات  |  دراسات  |  عمال ونقابات |  فنون وآداب |  كاريكاتير  |  المرأة |  الأطفال | إتصل بنا       

      

لا

للأحتلال

لا

للخصخصة

لا

لتقسيم العراق

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة

من الكتاب والصحفيين العراقيين   

 

                                                                  

                                                                             

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org               الصفحة الرئيسية - 1 -