<%@ Language=JavaScript %> حمزة الحسن صورة المستقبل في السجن

   

لا

للأحتلال

لا

للخصخصة

لا

للفيدرالية

لا

للعولمة والتبعية

 

                                              

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين                    

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                            

 

 

 

صورة المستقبل في السجن

 

 

حمزة الحسن

 

 

عندما وقفت أمام القاضي الباكستاني في اقليم كويتا عام 1989، مع 35 من المقبوض عليهم بتهمة العبور
"غير الشرعي" للحدود، ولا نعرف ما هو الشرعي، طلب منا بعض الاصدقاء في المحكمة ان نكون في الواجهة مع القاضي، لكي نقوم بالدفاع عن عملنا غير( المشروع) ونبرره، وكنا قد وصلنا الى المحكمة مربوطين بالسلاسل بعد أن طافوا بنا المدينة.

لكي تنعقد المحكمة يجب ان نشتري الورق وحبر الطابعة من جيوبنا، أي نشتري قرار سجننا،
وقبل ذلك عندما قبضوا علينا على الحدود الايرانية ـــ الباكستانية، طلبوا منا، لتسهيل مهمتنا، دفع اجرة سيارة نقل كبيرة لتقلنا الى سجن كويتا العاصمة الفيدرالية لاقيلم بلوشستان، لمسافة الف كيلمتر تقريبا في طرق ودروب منهكة، على ايقاع الطبل الباكستاني الهندي الذي لا يقل قسوة عن القصف المدفعي.

جهزت دفاعاً مطولاً مرتجلاً خلال انشغال القضاة في الكلام في ما بينهم، وخلف القضاة مباشرة لوحة كتب عليها:
( واذا حكمتم بين الناس، ان تحكموا بالعدل)، فشعرت بالراحة والسكينة لكني انتبهت الى ان نصف اللوحة مغطاة بالغبار، بحيث لا يظهر منها الا السياق العام.

شرع القاضي بتلاوة التهمة وبعد أن فرغ منها، بدأت أول عبارة( يا حضرة القاضي...) عن طريق مترجم في المحكمة، لكن القاضي دون ان ينظر الي ، عكس قضاة رواية ( المحاكمة) لكافكا، اشار بيده ان اتوقف ثم شرع في تلاوة قرار الحكم الجاهز وهو السجن لثلاثة شهور لعبورنا الحدود غير الشرعي قابلة للتمديد وقد مددت فعلاً.

ظلت عبارة( يا حضرة القاضي...) غير المكتملة اليتيمة يتردد صداها حتى اليوم في الذاكرة.

سجن كويتا ملخص للسجون الآسيوية، بل يعكس الحياة في القارة السمراء الشاحبة بكل ما فيها من جوانب سياسية واقتصادية واعراف وتراتبية وظلم وعبودية، وهو صورة مختصرة لنظم العقاب بحيث يزول الحد الفاصل بين السجن والخارج، ويتحول السجان نفسه الى سجين.

قاعات السجن الكبير الذي بُني عام 1939 في الزمن الانكليزي وقبل انفصال الباكستان عن الهند،
تنقسم الى قاعات حسب الجنسيات،  ثم حسب الانتماءات السياسية، وحسب الجرائم،
وأخيرا حسب الموقع الاقتصادي والاجتماعي.

التراتبية نفسها في المجتمع لكن بصورة مكثفة.
قاعات الافغان تنقسم الى قسمين: واحدة للمجاهدين، واخرى للشيوعيين،
والصراع مشتعل في السجن بين هؤلاء كما هو في الخارج.

قاعات للايرانيين الفارين من انصار الشاه،
واخرى من انصار الجمهورية الاسلامية المقبوض عليهم لاسباب مختلفة.

قاعات للعراقيين تتكون من:
1 :قاعة للاكراد بناء على طلبهم،
ثم انقسم هؤلاء الى قسمين بعد معارك: قاعة لسجناء خانقين،
وأخرى لسجناء السليمانية،
وتبين ان هناك حساسيات لم نكن نعرفها في ذلك الوقت.

حتى سجناء خانقين انقسموا الى فرق: منهم الشيوعي، ومنهم المستقل، ومنهم المثقف المنعزل الذي يحتاج الى الهدوء حتى في سجن،
وأحد هؤلاء ( آزاد) الذي طلب من ادارة السجن نقله الى الزنزانة التي كنت فيها،
ومن ناحيتي كنت أفضل العيش في زنزانة منفردة تطل قضبانها على مشنقة،
على العيش في القاعة الكبيرة التي تحولت الى ساحة حرب:
كل واحد منا هرب من قومه الى الآخر المختلف،
فالمحنة تخلق هوية جديدة ونظيفة.

معي ثلاثة كتب مذكرات من مكتبة في طهران: مذكرات بيغن، مذكرات غولدا مائيير، مذكرات موشي ديان:
مع رفيق زنزانة محشش طوال الليل والنهار،
وكان يشتري الحشيش من الشرطة،
ومع المذكرات الاسرائيلية،
ومع المشنقة المطلة،
والغرفة الضيقة،
يمكن تخيل صورة الحياة هناك.

الزنزانة تفتح في الساعة السادسة صباحاً،
لكن طوال الليل يكون حلم السجين هو ان يقضي (حاجته) رغم وجود علبة صفيح لهذا الغرض،
لكن الحياء والرائحة والغضب يقف حاجزاً دون القيام بذلك:
تصبح مساحة الحلم بحجم الزنزانة،
تحلم بالحرية والبول في الوقت نفسه،
بل يصبح الحلم الاخير هو المُلح لأن الحرية غائبة.

2 :قاعة السجناء العرب من العراق لا تختلف من حيث الصراعات عن الاخرى،
وللاسباب السياسية والعقائدية والمناطقية ايضا،
ومنذ ذلك اليوم عرفت بوضوح أكبر ومن قراءة واقع السجن ان صورة عراق المستقبل،
أي عراق اليوم، ستكون مظلمة وخطرة،
وظهر ذلك في سيرتنا الروائية( الأعزل ـــ عام 2000) بشكل واضح تماماً،
لأن المستقبل ليس غيباً، بل هو كيف نفكر ونحلم ونتصرف، الآن،
واننا سنعيد انتاج الدكتاتورية بقشور مختلفة كما في عبارات ومواقف وصور واقوال صريحة تقول:
( هذا الوطن سينهار يوماً...) أو: (هناك شيء كبير يتفسخ لكن أحداً لا يشم)،
أو( اذا كنتم تمثلون المستقبل، فستكون جلودنا أحذية لجنرال قادم ــــ رواية: سنوات الحريق، 2000) أو ( هذه النخب الفاسدة لن تكون قادرة على ادارة مشروع التغيير بل عاجزة حتى عن مشروع دواجن ...ضباع الفطايس على الابواب وسيسرقون كل شيء... لن تفتح أبواب الأمل بل أبواب السجون ولن تتغير سوى الشعارات والموت واحد... ـــ رواية: عزلة اورستا: العنوان الفرعي: سرقوا الوطن، سرقوا المنفى، عام 2001).
وتكرر ذلك في روايات أخرى في العام نفسه وبعده.
حتى ان الشخصية المركزية في رواية ( عزلة اورستا) يهتف ساخرا ( تسقط الحرب الاهلية القادمة...).
كانت الحقائق مشعة في حين هناك عمى عام ونخبوي.
ثقافة شعاراتية آنية مسطحة مبنية على الاحتراب والثنائيات والحاجات العابرة والهتافات في حين كانت أفعى العشب، الخراب القادم، أي خراب اليوم، يزحف كصل صحراوي فوق رمل مشتعل.

طفل أو كاتب خارج المصالح يرى العري العام: عري الامبراطور وعري الجمهور.

التفاصيل الانسانية المنسية المهملة هي كل ما يلتقطه الروائي،
فهي التي تصنع الحدث القادم وليست الخطابات والشعارات والجداريات،
الحياة في التفاصيل المجهرية المتروكة التي تعمل بالتراكم على صناعة المستقبل:
المنسي والمبعد والمقصي والمهمل هو مجال الفن والفن الروائي خاصة،
وهو أمر يغيب عن غير المشتغلين في الادب والفن،
بل حتى عن بعض المشتغلين فيه.

في الصباح تبدأ المخلوقات المحطمة في الخروج الى الباحة والتجول،
للترويض أو للبحث عن اعقاب سجائر او المراحيض.

تبدأ ، داخل السجن، لعبة التحاشي ومقدمات الحرب الاهلية، بين الضحايا،
وفي حالات كثيرة شجار يصل حد الادماء بين هذه الكائنات التي حشرت في هذا السجن،
وسحبت معها أوضاعها وعقائدها وأحقادها،
فيهرع ماما عزيز رئيس عرفاء السجن الباكستاني مع عدد من الشرطة لاطفاء المعارك التي قد تتطور الى القتل خاصة من جهة الافغان،
او بين الباكستانيين في ما بينهم على كل شيء وعلى اللا شيء،
وهو صراع يعكس التمايز الطبقي والعشائري والديني والاقتصادي والاجتماعي.
التراتبية تظهر بوضوح مزعج في السجن أكثر من الخارج:

أحد السجناء يتمتع بغرفة خاصة ويخدمه سجين فقير مقابل مال،
من اعداد الطعام الى غسل الثياب،
وفي الصباح الباكر يخرج هذا السجين من السجن للعمل ثم يعود في المساء.

بعض السجناء الباكستانيين الذين لا يعثرون على شيء عندهم للبيع،
يبيعون أجسادهم وخاصة صغار السن لكي يتضاعف الانتهاك والقهر والتسلط.
يصبح الجسد سلعة فائضة عن الحاجة،
لأن الانسان نفسه، في نظم من هذا النوع، لا قيمة له،
ومن أجل الحماية أيضا،
لأن السجن قائم على العقاب من خارج نظم السجن،
وبين السجناء أنفسهم حتى يتحول السجن الى سجون،
فالضحية، حسب فرانز فانون، تبحث عن ضحية أخرى للتنفيس،
وهو الأمر الذي سيمارسه السجناء يوما عندما ينتقلون الى السلطة.

السجين المرفه المغادر كل صباح كان محامياً قبل السجن،
وعندما سألته عن سبب وجوده هنا، قال ضاحكاً:
( لم يسدد المتهم اتعاب المحاماة بعد أن أنقذته من الموت، لذلك قتلته)،
فلم أجد غير الضحك الطويل وهو شر البلية:
( لو تركته في السجن أفضل واحتمال أن يعيش) قال له صديقي المسلطن الذي يشتري المخدرات من الشرطة،
وكان جواب المحامي السجين:( هذه آسيا)،
وهي عبارة تلخص الكثير.

كان الماما عزيز يقضي اجازته في السجن ، كعادة الشرطي العراقي الذي يقضيها في مقهى مجاور لمركز الشرطة،
فخارج السجن تضيع الهيبة والسلطة،
لذلك يصطحب الماما اطفاله معه وهم في ثياب جديدة كما لو انهم في نزهة في حديقة.

مرة وجدته في الصباح ، بعد فتح الابواب، يبكي خلف جدار منعزل، جالساً، تحت ضوء الشمس المنعكس على وجهه،
ورغم ضخامة وعدوانية المظهر الخارجي، وهو مظهر لا يعكس الداخل، شعرت ان الماما يبكي من أجلنا ،
وقد قال ذلك صراحة بعد ان جلست الى جواره دون أية كلمة وجلسنا معاً كمضطهدي ومشردي الزمن على رصيف: زال الفارق بين السجان والسجين.

أحد الأيام كان صاحبي " المحشش" في الزنزانة وهو تركماني من كركوك،
والثاني آزاد الكردي الوديع كحمامة،
قلقاً بعد غلق القضبان المطلة على المشنقة في المساء،
ولم يكن كعادته من السكون والنشوة.

كان يسأل الشرطي كل لحظة عن شرطي آخر ويده ترتجف فوق القضبان،
لكنه يستلم جواباً مراوغاً.

كان من الواضح ان الشرطي سيحمل له الحشيش،
لكن الخبر نزل علىه كالصاعقة من شرطي مار عندما قال له كمن ينقل خبراً عادياً:
( صاحبك الشرطي مات اليوم).

اندلعت من حنجرة رفيقي صرخة لا تصدر الا من أعماق شخص يُذبح،
أو ينذر بوقوع حريق أو طوفان وهو يعوي:
( لا يا إبن الكلب...وقتها تموت؟).

 

حمزة الحسن

12.11.2014

عن صفحة الكاتب على الفيس بوك :

https://www.facebook.com/hmst.alhasn/posts/10152553601392266?fref=nf

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا