<%@ Language=JavaScript %> حمزة الحسن صدمة الحرية

   

لا

للأحتلال

لا

للخصخصة

لا

للفيدرالية

لا

للعولمة والتبعية

 

                                              

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين                    

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                            

 

 

صدمة الحرية

 

 

حمزة الحسن

 

 

صدمة الحرية لمن عاش سنوات تحت الرعب، أكثر قسوة وضراوة من صدمة القمع، كحمار كولن ويلسون الذي قال ان اسنانه تساقطت بعد وجبات من الحساء الناعم، هو الذي تعلم على الأكل الخشن.

الخارج من القمع الى الحرية لا يعرف حجم الخراب الداخلي، وهو، بسبب الإدمان الطويل على القمع، يخترع الجلاد، عندما لا يجده في المكان الجديد، لأن العقل الجريح المبني على الكراهيات والخوف والعدو والخصم،
لا يستطيع التعايش في مناخ مفتوح وشفاف ونهارات صافية مشرقة، والحدود واضحة، لأن عالم السراديب القديم، سراديب الخوف، القمع، الوصاية، النبذ، الاحتقار، يحجز المساحات الجديدة المضيئة لمخلوق يسلك سلوك الخفاش الذي لا يظهر الا في الظلام.

القمع يُبلع على مراحل، لكن الحرية المباغتة تصدم:
في أوطاننا يبدأ مسلسل القمع منذ الطفولة،
من كل المؤسسات بلا استثناء، في البيت والمدرسة ومركز الشرطة والامن والاستخبارات والجيران وسواق التاكسي والمسؤول الحزبي والمختار وآمر السرية وملحقاته، وضابط امن الدائرة وأصحاب المقاهي والاصدقاء والاقارب والنظام السياسي ، بل حتى الاطباء كان بعضهم يعمل في معتقلات التعذيب كمرشدين للجلادين عن مستوى الحالة الصحية للضحية بعد نوبة تعذيب.

لكن كل هذه السلط تزول، في الظاهر، في المنافي الجديدة، الأنيقة، في حين ان الناجي يقع في وهم الخلاص،
وليس في خلاص حقيقي، في وهم الحرية وليست الحرية، وتبدأ الانهيارات المختلفة الاشكال والمظاهر،
وعادة ما تختفي خلف أقنعة وتظهر في صور غير صورتها الحقيقية، أي غير صورة انهيار الشخصية تحت صدمة الحرية، وأهم علاماتها فقدان التوازن:

لا يحتاج المصدوم من الحرية الى ان يترنح في المشي لكي يفقد توازنه، لأن مظاهر فقدان التوازن تبدأ في السلوك كالسم البطيء، وبما ان الدليل الواقعي، المثال، يعطي صورة واضحة عن فقدان التوازن، والتجربة المعيشة أكثر صدقاً لأنها تعزز الكلام النظري، سنلجأ الى تجارب واقعية:
وصلنا من الباكستان الى بيرغن في النرويج عام 1991 على نفقة الامم المتحدة، وعددنا 6 أفراد،
خمسة من هؤلاء عملوا في أحزاب، أحدهم عاش زنزانة اعدام في سجن ابو غريب وخرج بعفو عام،
وكنت الوحيد من بين هؤلاء المحسوب على اليمين واليسار والوسط، وقد انشغل رفاق المنفى في وضعي في خزان او اعلان او صندوق او حزب او ايديولوجيا بل حتى في عشيرة،
فلم يعثروا لا هم ولا أنا على شيء من هذا، لأن التصنيف والاختزال والدمج من خواص العقل الاختزالي، العقل المحارب، عقل الثنائيات، مع ان الانسان غير قابل للتصنيف بحكم تعقد الكائن البشري وتلك قضية أخرى.

كيف انتهت مصائر هؤلاء؟
المحكوم بالاعدام المفرج عنه، والصوفي الزاهد، الذي لا يقوم ولا يجلس الا راكعاً ومرتلاً،
أخرجه الجمال الاسكندنافي عن طوره، وترك سجادة الصلاة في تلك الليلة المشؤومة والنص المقدس،
لكي ينهار فوق برية البياض والثلج والجسد ـــ النص، على السرير، وهي فتاة كانت تعامله كصديق،
دون أن تعرف ان صداقة طائر لثعبان عراقي صحراوي ، وفي سرير نوم، وضوء ناعم، وثلج متساقط خلف النافذة، وموقد حجري في ركن الغرفة، هذه الصداقة نوع من الانتحار او الجنون أو السذاجة.
انتهى الأمر بالسجن وخرج منه بعد مراعاة ظروف الشخص، مع كفالة لمدة عامين على ان لا يتكرر الأمر.

الآخر، صاحب الرصانة والحكم والامثال والوطنية والرهبنة، إنتهى هو الآخر نهاية مشابهة عندما ضبط البوليس في منزله شابا من الشمال الافريقي بلا اقامة، وكان من الواضح ان الضحية وقع تحت حالة استغلال مشين،
من قبل هذا المحتال، ولم تنته القضية عند هذا الحد بل ضُبط بعد شهور، وقد صار امام جامع،
في القطار القادم من الدنمارك بحقيبة سامسونايت للتمويه ونظارات لقراءة صحيفة انكليزية مشتراة لهذا الغرض وبثياب انيقة زيادة في التغطية، دون أن يعرف ان مكالمة هاتفية من شخص مجهول، هو من باع المخدرات،
اتصل بالبوليس وأعطاهم الاسم والاوصاف بل رقم العربة والمقعد، حتى ان البوليس المنتظر صعد الى العربة مباشرة والى المقعد وحمل الحقيبة المشحونة بالمخدرات وصاحبنا يعوي محتجاً.

الثالث، وهو استاذ في معهد للمعلمين، حي وخجول ونبيل، وصاحب أسرة ظلت يومذاك في العراق،
انهارت دفاعاته الداخلية المنهارة أصلاً، أمام فيض الحرية والضمان والهدوء والتأمل ورغبات الجسد ومصدات الكبح والتسامي، فأعلن، فجأة، إنه المهدي صاحب الزمان.

المهدي في اسكندنافيا؟ معقولة؟ ولماذا هنا وليس في أمكنة الجور والظلم؟ ألا يمكن أن يكون خطأ في الحساب؟ في التوقيت؟ في نظام التغذية؟ في الجمال الاسكندنافي الباذخ والمشرق كسهل آسيوي طليق ومفتوح على الليل والافق والأبدية؟ انهيار غرائز لرجل زاهد ظهر في غير صورته الحقيقية؟

قبل أن يرتطم بالارض من الشحوب والذبول والكآبة، نُقل الى مصح عقلي، بعد تدخل خاص دون أن يعرف مصدره، مع توضيح وشرح وسرد مطول للاطباء عن طبيعة هذا( الظهور) وجذوره الدينية والثقافية،
لأن هذا النوع من العصاب الديني والسياسي والثقافي معروف في اوروبا، لكن في صور أخرى.
المصحات النفسية الاوروبية مليئة بأشباه مايكل جاكسون ومادونا وهتلر والمسيح ونابليون وكازانوفا وستالين ...الخ.

الغريب ــ غريب حقاً؟ ــــ ان هذه النماذج ، في العراق وخارجه، بدل ان توضع في مصحات خاصة للعلاج، تتحول للادب والشعر خاصة وممارسة السياسة والاصلاح، وهؤلاء يرتدون أقنعة تحافظ على المظاهر العامة.

انتهى من العلاج وتم نقل الاسرة الى النرويج، وخرج من المصح سليماً ومعافى، وفي أول زيارة لي جلس وكنت مستريباً لكن الوجه الضاحك والصحة الموفورة قالت بعكس ذلك،

لكنه قال، على غير توقع ( أريد أعرف يا كلب ابن كلب بلّغ عني؟).

الرابع حافظ على نوع من التوازن ليس بلا كدمات داخلية، لكنه نجا من الاخطاء الكبيرة.
أما الخامس فهو الأسوأ حظاً عندما ذبح زوجته وأم اطفاله العراقية بلا أي ذنب عدا الشك.

بعض مظاهر صدمة الحرية تظهر في الكتابات ايضا، في نوع من الاستعراء وليس التعري ،
التعري، حسب انسي الحاج، يتضمن نوعاً من المهابة الانسانية، لكن الاستعراء هو نوع من الخبل، وهو ليس الجنون الابداعي، عندما يعتقد الخارج من نظم القمع ان الحرية تعني فقدان حس الكرامة الشخصية،
احتقار الحياة العامة والخاصة، الظهور الفج كل يوم بكل أنواع الشناعات والصور والمظاهر،
الخدش المنفر للحياء العام واهدار بشع للضمير.
الكرامة الانسانية أهم من القانون وأهم من الحقيقة، وهي صيحة الفيلسوف برتراند راسل التي تحولت الى قانون في المحاكم البريطانية بحيث يتم اخفاء الحقائق المتعلقة بحياة مجرمين عن وسائل الاعلام اذا كانت هذه الحقائق تخدش الكرامة الشخصية.

المسافة واسعة وكبيرة بين الجرأة الابداعية وبين الوقاحة:
الجرأة هادئة وناعمة وشفافة مثل نعاس طفل، أو مرور غيمة، أو ضوء نجمة، أو ولادة وردة تحت جدار في الليل،
وليست كلباً مسعوراً يركض خلف شاحنات الطرق الخارجية.
الابداع يتناقض مع الكلبية والنهش.

الجرأة المبدعة انتاج معرفة وليست شراسة، نوع من المغامرة الفكرية والجسدية والثقافية،
وليست هذا الاستعراء الفج تحت شعار حرية الرأي والتعبير والديمقراطية.

من قال ان اوروبا خارج القوانين والاعراف؟
من قال ان اوروبا هي الجنس والصفاقة والتعري والجسد والانحراف والبذاءة؟

في النرويج البلد الأكثر حرية في العالم، والذي تطرف في الليبرالية والحقوق الفردية،
لا يسمح بالمساس بالكرامة الانسانية، في وسائل الاعلام، حتى ان بروفسورة قالت يوما في التلفاز كلاماً سيئاً عن العرب، فسجنت، مع وقف التنفيذ، نصف سنة.

هؤلاء الذين يستعرون كل يوم، كل ساعة، يريدون القول، ان جنون الفشل والخبل والعته الاخلاقي، وغياب التناسق والانسجام والصفاء الداخلي، وصدمة الخروج السريع من القمع الى الحرية، قد حولهم الى حطام وانقاض،
لأن الحرية كترنيمة يتربى عليها الانسان في المهد أو في حوار داخلي مع منظومات القمع المجهرية المتوغلة في صميم الذات، لكن العقل المعطوب عاجز عن مثل هذا الحوار، ولا يمكن لعقل مصاب أن يحاكم نفسه بلا ثقافة بديلة واسئلة جديدة.

هذه السلوكيات هي رسائل مخلوقات محطمة تستغيث من صدمة الحرية، ومن الفراغ والعجز ومن الشقاء العقلي والنفسي والفكري.

هم خارج الثقافة الغربية التي لم يستوعبوا منها سوى المظاهر، وهم خارج الثقافة العربية بالمعنى الاصيل والعميق للثقافة التي لم يستوعبوا منها ايضا سوى المظاهر المدانة والسلبية، وليس أمامهم أي خيار سوى المضي في الاستعراء بحثاً عن شهرة تشبه الفضيحة:
الشهرة اليوم لا تحتاج الى كفاءة وموهبة وابداع، بل تحتاج الوقوف في ميدان عام والتعري،
لأن جنون الفشل وصدمة الحرية والفراغ الداخلي تحول الكائن البشري الى جيفة متنقلة:
لن تنفع كل عطور العالم،
كل استعراضات الغطرسة والوقاحة لن تخدعنا لحظةً ان هذا الصنف قادر على انتاج شيء سوى البذاءة.

 

حمزة الحسن

 

05.11.2014

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا