%@ Language=JavaScript %>
منيف وجبرا وشارع الاميرات
د. كاظم الموسوي
كاتبان عربيان علمان في مشهد الثقافة العربية المعاصرة، جمع بينهما اكثر من رابط اضافة الى الابداع الادبي، مجال شهرتهما وعلاقاتهما. التقيا ببغداد وفي دوائر قريبة واهتمامات متقاربة وزمن عربي لصالحهما مرة وضدهما مرة اخرى. عاشا واشتركا في كتابة رواية، عالم بلا خرائط، عن تجربة مشتركة او قريبة بينهما. جبرا ابراهيم جبرا (28/8/1920- 11/12/1994) وعبد الرحمن منيف (29/5/1933- 24/1/2004). اسمان واضحان ومبدعان مهمان. عربيان من بلدان عربية، اختلطت فيها التناقضات العربية وصعبت الحياة التي اراداها ان تكون فيها فلاذا ببغداد، مقرا ومكانا لهما ولإبداعهما. استقر جبرا فيها ولكن منيف لم يواصل، فتنقل بين عواصم اخرى، حتى غابا عن الدنيا وظل ابداعهما شاهدا وسجلا لهما وللقراء، يعتب ويوثق زمنا لهما وللتاريخ. الكتابة عندهما ليست ابداعا فقط ووظيفة ثقافية وحسب وإنما رسالة لهما او سبيلا للحياة. بدونها لا يستطيعان التواصل او التعايش او حتى مجرد الحياة. وشارع الاميرات هو عنوان الجزء الثاني من السيرة الذاتية لجبرا، او اجزاء منها، وكان الجزء الاول قد صدر بعنوان: البئر الاولى، سرد فيه طفولته حتى بدايات شبابه في بيت لحم، في فلسطين، قبل رحيله منها. ودافع منيف عن صديقه رادا توصيفات كانت تلاحقه من خلال مكان عمله وطريقة حياته. اذ وصف بدقة ايامه الاولى وهو يخطو في دروب مسقط رأسه، وجوانب مهمة، تاريخ مرحلة وحياة اكثر من جيل في اكثر من مكان. فكتب: "كان وراء افتتان الكثيرين ومفاجآتهم، في "البئر الاولى"، الجرأة في التناول، ثم اعادة اكتشاف هذا المبدع في مراحل تكونه الاولى، مقارنة بالصورة التي كان يراد وضعه في اطارها بشكل تعسفي. هكذا بدد جبرا الكثير من الاوهام، وظهر لكل من يريد ان يعرفه معرفة حقيقية شخصا قدّ من الفقر، وواجه المصاعب، ومشى حافيا بعض الاحيان، وهو يذهب الى المدرسة. وبالتالي فان الاوصاف والصورة التي كانت تروّج، ولا تزال، تصنيف المبدعين، ولعل باعثها بالدرجة الاساسية، التصنيف السهل او المتسرع، خاصة وان الضجيج السياسي الذي ساد مراحل عديدة في تاريخنا المعاصر، حجب الكثير من الحقائق او اعتمد السهل والرائج من المقاييس في التعامل مع القضايا والقامات التي كانت تستعصي على القوالب الجاهزة". ودعا منيف الى جمع وتوثيق ودراسة تراث جبرا المتنوع والمهم والمعبر عن جيل وتاريخ مرحلة مهمة، سياسيا وإبداعيا. وتراث جبرا ثر وغزير ومتنوع، في الادب، شعرا ورواية ونقدا، وفي الترجمة والرسم التشكيلي والموسيقى. عطاءات تشير الى صاحبها وتزيد متابعها غنى وعمقا في مجالاتها.
اما شارع الاميرات فهو اسم شارع في منطقة المنصور/ كرخ بغداد. اعتبره منيف وجبرا احد اجمل الشوارع في القسم الغربي من بغداد. وقد سكن جبرا الشارع القريب والموازي له. و"قامت علاقة حب عميق بيني وبين شارع الاميرات" لأنه "يتميز بانفتاح معظمه من ناحيته الغربية على امتداد الاراضي المكشوفة التي انشئت فيها ساحة السباق وملحقاتها، كما يتميز بمبانيه السكنية الانيقة على الناحية الشرقية منه، والجزء الجنوبي من ناحيته الغربية. ولئن تظلل اشجار النخيل قسما من امتداده الجنوبي، فان معظم رصيفيه مظلل بأشجار اليوكالبتوس الوارفة، وقد علت وكبرت من الزمن". ولكون المبدعان مشاءين، فقد جمع المشي بينهما ايضا، ومنحهما فرصا اخرى للتشارك الثقافي والتأمل بين شارع الاميرات وإلهامه الابداعي. ومنه رواية عالم بلا خرائط ومشاريع اخرى لم يتح لهما اكمالها سوية.
سجل منيف في مقدمته للجزء الثاني: "اصبح "شارع الاميرات" المضمار الذي نذرعه ونقضي فيه وقتا غير قليل. كما نفعل ذلك في عصاري الايام المعتدلة، وفي اول مساءات الايام الحارة. وكنا ننتهي في اغلب هذه المسيرات عند الفنان ناظم رمزي او عند احد النطاسيين.. قتيبة الشيخ نوري او علي كمال بعد ان نكون قد تحدثنا طويلا في امور شتى ونواصل هذا الحديث او ما يماثله عند هذين الصديقين اللذين كانا فنانين بمقدار ما كانا طبيبين بارعين، ما فاتنا من احاديث.." وكان هذا الشارع بالذات مختبرا لهما، لإبداعهما الذي نشر لهما ولكل منهما. روى منيف انطباعاته عن مخطوطات جبرا وحرصه على الكلمات فيها، ونقل رأي جبرا بكتاباته التي قدمها له قبل نشرها. وكيف وجده واقفا في شرفة منزله منتظرا اياه بعد الانتهاء من قراءته لرواية: حين تركنا الجسر، وكذلك رواية النهايات.
هكذا قسم منيف مقدمته لسيرة جبرا في كتاب "شارع الاميرات"، في القسم الاول اسهب عن رحلة جبرا، الانسان والمبدع، ودعا الى حفظ تراثه وجمعه وإعادة نشره. وفي القسم الثاني عن علاقتهما ونقاشاتهما في النصوص الابداعية سواء من نتاجهما او من ابداع اصدقائهما، وتقدير منيف لنقد جبرا وكتابته عنه. " ان حس الناقد لدى جبرا شديد الحضور، بالغ الرهافة، وهذا ما يجعله يقلب الفكرة. بل وحتى الجملة، قبل ان تحتل مكانها على الورقة". وقبل ان ينتقل الى القسم الثالث الذي يخصصه للكتاب، يسرد مواهب الرجل، وإمكاناته الواسعة وذكائه في صناعته الابداعية. "ان الكثير من اعمال جبرا، خاصة في مجالات الشعر والرسم والرواية، يحتمل عدة قراءات ويتسم بكثافة ملفتة. وأيضا قابلا لأكثر من تأويل، هذا ما يجعلنا الان نتوقف عند شارع الاميرات باعتباره سيرة ذاتية ويحمل مقدارات غير قليل مما يمكن تسميته لوحات من تجربة العمر".
شارع الاميرات فصول من سيرة جبرا، فصوله الاولى عن دراسته في بريطانيا، ومن ثم عودته الى فلسطين، وواصلها عن هجرته منها ووصوله الى العراق بعد ان حلت النكبة عام 1948. وأشار منيف: "وصول جبرا الى بغداد عام 1948، مع بزوغ الشعر الحديث، ومع عودة الفنانين التشكيلين الذين ذهبوا للدراسة في الخارج، ثم هذا المناخ من الحوار والبحث، وأيضا الاستعداد، جعل البذرة ثم النبتة تلاقي انسب الشروط للنماء ثم الازدهار، وكانت مساهمة جبرا في كل ذلك اساسية وبارزة". ولخص ما ورد في السنة او السنتين من سيرة جبرا العراقية، او كما كتب في نهايتها، "ما تحدثت عنه هنا ليس إلا السنة العجائبية 1951، والسنة التي تلتها"، مشيرا الى علاقته بزوجته لميعة، ووضع القاريء في قلب الاحداث الادبية والفنية، وأجواء وشخصيات تركت بصماتها في المشهد الثقافي وأرخت له. لينتهي منيف في مقدمته في تقييم وتعريف شارع الاميرات ويوفي بعض حق لصديقه عليه، وقدم للقاري خلاصة مهمة تظل مؤشرا ووصية لمن يريد الاستعادة والقراءة والقدوة التي يمكن ان تحتذى. "واعتقد ان جبرا ابراهيم جبرا، في شارع الاميرات، قدم شهادة صادقة ونزيهة، اذ قال الكثير عما يعتلج في القلب والفكر، وقدم نماذج جريئة، كما صور مرحلة كاملة بكل ما فيها من افراح وأحزان وهزائم، اما ما يحز في النفس فذلك الفراغ الذي خلفه بغيابه، في الوقت الذي كان عنده الكثير ليقوله... في السيرة وشؤون اخرى".
سيرة جبرا في العراق خصوصا، كإبداعه، غنية بالكثير من الاشارات الى تلك السنوات والبدايات لمراحل ثقافية مهمة في التاريخ، وإشارات لأسماء بارزة عراقية في شتى المجالات الثقافية، في الشعر والرسم والنحت والقصة والرواية والترجمة والموسيقى والتجمعات والاختلافات فيها او حولها، وفي المواقف منها او عليها، ولكنها تظل كما كتب منيف شهادة صادقة ومعبرة. جبرا سجل ما عاشه ومنيف جدد ذكراه. والرحمة لكليهما الان، وما بقي منهما ابداع وحياة لهما.
23.11.2014
كاظم الموسوي
www.kadhimmousawi.blogspot.com
تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم
الصفحة الرئيسية | [2] [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا
جميع الحقوق محفوظة © 2009 صوت اليسار العراقي
الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا |
|
---|
الصفحة الرئيسية | [2] [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا
|
لا للأحتلال لا للخصخصة لا لتقسيم العراق |
صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين
|
||
---|---|---|---|---|
|
||||
للمراسلة webmaster@saotaliassar.org الصفحة الرئيسية - 1 - |