<%@ Language=JavaScript %> د. حسين سرمك حسن مشروع تحليل خمسين رواية عربية نسوية : رواية "كم بدت السماء قريبة!!" لبتول الخضيري (10/الأخيرة)

 

 

مشروع تحليل خمسين رواية عربية نسوية :

 

رواية "كم بدت السماء قريبة!!"

 

لبتول الخضيري

 

(10/الأخيرة)

 

 

د. حسين سرمك حسن

بغداد المحروسة – 1/10/2014

 

لكن أخطر ما في هذا العدوان هو حين يرتد إلى الذات ؛ يمرّره اللاشعور في غيبة طارئة للوعي حافزٌ من قناعة الفرد في حقّه في الإنفلات والتخفّف وإشباع الرغبات التي تشعره بديمومة كيانه وبأنه عصيّ على الفناء . وتشكل الغريزة الجنسية - بطبيعة الحال - مفتاح هذا الإحساس المموّه بالإمتداد الخلودي وبالحيوية . لقد بحثت الراوية عن "أرنو" الرجل الذي قابلته في إحدى الأماسي تراقب رقص "السحالي" الصاخب . كان قد وصل مؤخّراً إلى لندن واستأجر مسكناً فوق الكافتيريا . أخبرها - وهو يضع ذراعه حولها - أنّه من أب فرنسي وأم أفريقية ، وهي نفس خلطتها التي أربكت حياتها :

-تستطيع القول أنني من خليط متناقض أيضاً ..

هزّ كتفيه :

-إذن لنشرب نخباً .. سأسميه الإرتباك .

-لعلّي أشاركك في فرصة أخرى . عندي موعد مبكر غداً صباحاً . تصبح على خير) (ص 164) ..

هكذا كان لقاءً عابراً ، ولكنه كان في الواقع لقاء روحين "مرتبكتين" . والأهم هو أنّ روح الراوية المحتصرة قد وجدت فيه ملاذاً طارئاً على طريقة "إنّا غريبان ها هنا .." والتي تحمل في طيّاتها معان نفسية عميقة عن مأزق التواصل ، ومصاعب التكيّف ، وغربة "الوجه واليد واللسان" . وبالنسبة للراوية ينضاف عامل آخر شديد الأهمية هو "الضجر" . فالضجر مرض يمكن أن يجعل الإنسان "يتلاعب" بجسده ونفسه ويمرّغهما بشرط أن يعطّل - ولوجزئيا - رقابة الوعي وعين الضمير الراصدة ، وهذا ما فعلته الخمرة بالراوية . فقد ثملت بأكؤس النبيذ ، وصارت تقارن ثملها بثمل العجوز الذي كان يشرب بقايا الكحول حتى في قعر منفضة السكائر . كانت تأكل وترقص وتشرب .. حتى أرنو أحسّ بأنّها "غير معتادة على النبيذ الفرنسي" . ويمكن القول أنّها "سكرت" . وللسرّ - كما يُقال - "نافذتان : السكرُ والغضبُ" . بدأت قبضة الرقابة الشعورية ترتخي لتستغل مكبوتات اللاشعور المنافذ المُتاحة لتنطلق من أسر تلك القبضة المتصلّبة ، فكان أول "المنفلتات" عودة إلى موضوعة سرقة العدسات :

(نتمشى في الشارع نتبادل القبل والضحكات . تجاوزنا رجلا رأسه يرتطم بسلّة زبل تسيل منها زيوت ورائحة عفنة ، تأكدتُ أنني في لندن . اقترحتُ عليه : "لنسرق عدساته ونهرب") (ص 183) ..

ثم ازداد دوارها بحيث أنّها لم تعد تميّز بين الباص وصندوق التلفون الأحمر "الذي ينزلق على ظهره ببطء" !! .

وكان من نتائج تلك الليلة الوحيدة العذبة في حياتها في لندن ، هو أنها حملت من "أرنو" الذي سافر إلى كينيا ، واتخذت قرارها الحازم بأن تُجهض نفسها لكي لا تُعيد تجربة أمّها . وفي الحقيقة هي خائفة من أن تعيد تجربة عذابها هي نفسها ؛ التجربة التي مزّقت روحها وجعلتها من "جيل الإرتباك" الضائع بحق . ومن المستحيل ألّا تتعاطف مع مشكلات ومحن الراوية التي ترويها بعين "محايدة" وبقلب أتعبته الحياة تاركة لك حرّية الإنفعال بتفاصيل تجربتها المؤلمة . الألم المتطاول يميت طراوة الإنفعال به في كثير من الأحيان . ويبدو أن هذه الإنسانة قد وُلدت لتتألم .. وولدت لتخسر . بلّدت وقائع حياتها الشخصية بخساراتها المتتالية ، ونوائب وطنها في حروبه المتكرّرة ، قدرتها على الإنفعال حتى بخيباتها الباهضة . حتى الطبيبة التي ستجري لها عملية الإجهاض اعتبرتها مريضة "مملة" لا تدخن .. لا تشرب .. لا تتعاطى المخدرات .. لا تتضايق من منظر الإبر والدم (تبرعنا بالكثير منه في أيام الحرب) (ص 192) .. إنّها "متماسكة" تقف أمامنا لتروي كـ "آلة" حكّاءة كيف تنتظر عمليّة الإجهاض وخسارة جنينها المقبلة ، وهي تجلس تشرب الشاي في الكافتيريا ، وتماثل الجنين بالبسكويت المثرود :

(حدث كل شيء بسرعة وانتظام . انتظرت لمدة ساعة في الكافتيريا . أرقب طفلاً يلهو بقدح شراب يغمس فيه البسكويت .. استمتع بالتجربة . راح يرمي المزيد منه حتى أفرغ العلبة . تهيّأ لي البسكويت جنيناً في كحول حافظ ) (ص 193) ..

وهنا تنسرب من اللاشعور - وهي تنتظر هذا الموقف المهلك - في تخييل نهاري (فانتازي) رائق تلك الذكرى الحميمة الحامية المنقذة ، لكن التي تحطّمها صخرة اليقظة ، صخرة الواقع المسنّنة . ترتجف روحها المُتعبة لمرأى اليد الأليفة ومعها ذكريات الأمان التي ضاعت إلى الأبد :

(ثمّة يد لرجل خمسيني تستقر على المائدة قرب الطفل . أعرف هذه التجاعيد جيّداً . رفعتُ بصري نحوه . فإذا به برمشة عيني ، قد أدار لي ظهره في طريقه مغادراً الغرفة . كانت تلك يد أبي ) (ص 193) .

وقفة .. ليتَ صفّ النخيل يرحل عن منامي :

-----------------------------------------

سمة الهدوء المُخيفة نفسيّاً تسم سلوك الراوية في الحكاية كلّها . لقد لفت هذا "الهدوء" العجيب الذي تحدّثتُ عنه كثيراً ، نظر حتى أرنو ، حين استمع إليها وهي تحدّثه عن كارثة إجهاضها بنبرة مستريحة ممتزجة بالسخرية الصريحة الجارحة ، فصاح :

(ما أهدأك ؟!)

لكن هذا الهدوء العجيب يحصل نفسياً حين نتجاوز عتبة الألم الأقصى . إنّه هدوء مُخادع يشبه سطح البركان الساكن الذي لا يكشف الحمم المتلاطمة في عمقه . ولعل أهمّ العلامات التي تتكفل بالوشاية بنداءات الداخل المتحشرجة المستغيثة المكتومة هي تلك الإنفلاتات الشاعرية البسيطة التي تنطلق بين موضع وآخر لتعكس لوعة روح تتمزّق ، وتتهشّم بهدوء ، بفعل مطارق حنينها الجارف بجذور تغور عميقاً في تربة بلادها .. في أرض الزعفرانية . هذا واحد من تلك النداءات التي تطلقها بعد أن تكمل رسالة محزنة من المدام عن خراب وطنها :

(ليتَ صفّ النخيل يرحل عن منامي) (ص 177)

وكنتُ أعتقد أن بتول قد اقتبسته من قصيدة للسياب مثلاً . تصلح هذه الجملة لتكون "حكمة" و "وصفة" تُعلّق في غرفنا : مهاجرين وباقين في أوطاننا على حدّ سواء .. فكلنا مرضى بصف نخيل اسمه "العراق" .

ولا ادري مقدار الإفساد الذي ستسبّبه حركة من المحلّل حين يُذكّرنا بأنّ صف النخيل هذا الذي يأبى الرحيل من منام الراوية القلِق أصلاً ، قد احتبسته ذاكرة الراوية منذ الصفحة الأولى للحكاية حين ودّعها أبوها بعد أن أوصلها إلى المدرسة أول مرّة :

(تنحني لتودِع قبلة في أذني تركتْ رطوبة صغيرة أُزيلها بطرف إصبعي وأنت تستدير لتغادر . تُسرعُ الخطى ، فيبدأ صفّ النخيل المزدحم الموازي للسياج بابتلاعك ؛ نخلة بعد اخرى تقتطع جزءاً منك).

عودة :

-------

تقضي ليلة مريرة بين التعرّق والنزف بعد إجراء عملية الإجهاض ، لتواصل صباحاً ملاحقة معاناة أمّها التي تدرك أنها لن تنتهي إلّا بالموت ، فتسمع صراخها لأن الممرضات بدأن بأخراج البراز من الخلف بطريقة يدويّة بعد أن عجزت عن ذلك طبيعيّاً . أكّد لها البروفيسور أن والدتها تعيش في مراحلها الأخيرة ، وتمنى لها الصبر . تصلها رسالة من المدام تخبرها بأنّ شجرة زهر الكاردينيا في شارع الجادرية ، التي كانتا تسرقان منها حصتهما كل ربيع ، نائمة الآن تحت الأنقاض . لم يُبقِ الأمريكان الكلاب شيئا في البلاد .. قضوا حتى على مستقبل الأطفال .. كأنّ هذا إيحاءٌ بضرورة خسارة الجنين فأي مستقبل ينتظره ؟! .. فاروق قُتل أخوه الصغير في انفجار السيديّة (ص 195 و196) ..
أخيراً زارها أرنو في المستشفى . ألم يكن قادراً على أن يخبرها في تلك الليلة التي انطلقت فيها مشاعرها المحتبسة بأنّه متزوّج ، وموشك على تطليق زوجته ؟! ألم يكن قادراً على الإتصال بها طوال أسابيع غيابه ؟! ما الذي حصل للبشر ؟! .. يا إلهي .. أي قلوب يحملون ؟! ترك الشقّة ولم يخبرها وهي تبحث عنه .
ولكن ، ألم تكن قادرة على التقاط إجابته المشحونة بكل دلالات عدم تقارب مشكلاتهما ولا معضلاتهما الإنسانية ، وذلك حين سألته وهما على السلالم :

(-هل حدث أن تملكّك شعور بحاجتك إلى إنسان عزيز إلى درجة لا تقدر معها على فراقه ؟

أجاب بنبرة دافئة :

-ليس بعد الثلاثين ) (ص 183) .

هل كان في عدم التفاتها للمغزى الكامن في هذا الرد شكل من أشكال الإيغال في تدمير الذات ؟! وما هي فائدة هذا العتاب المغمّس بطعم العلقم الذي تعاتبنا به من خلال أرنو .. نعم نحن المعنيون بذلك :

(لستً مديناً لي بهذه الشروحات ، سواءً أكنتً في أفريقيا أم في القمر . كان في استطاعتك أن تكون صريحاً منذ البداية . على كلّ حال لا يهم ، فنحن أغراب وسنفترق أغراباً .

اضفتُ :

-سحالي بكل معنى الكلمة .

-هل هذا وداع أم ماذا ؟

ضحكتُ :

-بل ماذا !

قال بانفعال جدّي :

-على الأقل ، أعطيني فرصة لتعويضك عمّا فات .

تأملته برهة . قلتُ :

-أعتقد أن المشكلة في علاقتنا هي أختلاف نوع مشاكلنا .

ثم أضفتُ قبل التوجّه إلى المصعد :

-عذراً لكن عندي أمّاً بدأت تحتضر ربمّا في الطابق السادس .

تركتُ خلفي في المقهى سحليّة أخذت تتقمّص دور خنزير) (ص 198) .

أين قلوبنا في هذه الساعة ؟! وأي قسوة يحملها الإنسان على ابن جلدته الإنسان ؟! وكيف يستخف بمشاعر البشر الآخرين راكلاً حقّهم في الحقيقة والمكاشفة ؟ لماذا نستهين بالكلمات الصادرة من القلب ولا نجهد أنفسنا في استكشاف جذورها ؟ وهل هي نداءات استغاثة أم كليشيهات باردة اعتدرنا على "المتاجرة" بها في حياتنا اليومية المنافقة ؟! .. لم تكن الراوية قويّة وهي تدير ظهرها بثقة وتماسك ظاهر لأرنو الذي يكرّر معها لعبة "ديفيد" مع أمّها حين لم تجده بجوار سريرها والسرطان يلتهم جسدها ، كانت مقطّعة الروح ممزّقة القلب غارقة في بؤسها وفي بئر وحدتها المظلمة المطلقة . لقد تبنّت نبرة أمّها مرّتين وهي تعاتب أرنو .. مرّة - باعترافها - وهي تطيح بأسفه الصامت حين قالت له بنبرة ساخرة بعد أن أخبرته بتخلّصها من حملها :

-لا تقل لي أنّك تحب الأطفال ..

ومرّة وهي تختم حديثها معيدة إلى أذهاننا - بصورة غير مباشرة - كلمات أمّها عن اختلاف نظرتها ونظرة ديفيد إلى مشكلاتهما :

-أعتقد أن المشكلة في علاقتنا هي اختلاف نوع مشاكلنا (ص 198) ..

من أين تأتي هذه الإنسانة "الجبّارة" وإلى أين تمضي ؟

تأتي من موقف ممزِّق وتمضي إلى موقف أكثر تمزيقاً !! من تلاعبات أرنو واستخفافه بمأزقها المدمّر إلى سرير أمّها حيث الإنثكال الوشيك المزدوج ؛ رحيل أمّها التي انزلقت في هاوية اللاعودة ، ورحيل آمالها في آخر مسند بشري تتكىء عليه وتجد في رعايته دوراً ، وكل ذلك ممزوج بقلق من فراغ جسيم مروّع ستلقى وسط دوّامته . ورغم مويجات الشك التي راودتها وهي تغالب آلام رحمها عبر كلمات الراهبة "آن" عن "الإخفاق مع الربّ" (ص 194) إلّأ أنها لم تجد غير الإستعانة به ، بالله الذي يدعونا لذكره كذكرنا لآبائنا ! ، وبوصيّة أبيها حين قال لها في طفولتها أنّ حاسة السمع هي آخر ما نفقده عندما نُحتضر ، فهمست في اذن أمّها :

(أنتِ في أيدي الملائكة . لا تقلقي عليّ . دعيهم يأخذوك إلى الأمان فالله موجود هناك) (ص 199) ..

الآن .. تقف الراوية في شقّتها .. الراوية التي لم نعرف اسمها – بتخطيط الكاتبة – حتى النهاية ، وحيدة ، كإله مخذول مكابر ومضيّع يثير الإعتزاز بعجزه ، لتختم حكايتها بالقول :

(خريف آخر وعامي الثلاثون يوشك على الإنتهاء .

رسائل المدام المُجترّة تتضاءل . أخبار الوطن أصابها تعتيم تام في إذاعات العالم .

آخر ما أتذكره من مكالمتها الهاتفية الأخيرة بعد انقطاع طويل ، هو مقطع وصف فاروق للحصار : "نحن نأكل الخرا بالإبرة ، لا الإبرة تشيل ، ولا الخرا يخلص" .

أنتظر الباص رقم 27 الذاهب إلى Kensington ) (ص 200 – الصفحة الأخيرة) ..

وبالعودة إلى كنسنغتون يُسدل الستار على حكاية الوحدة والخيبة والضياع .. ضياع وطن .. وضياع هوية ووجود وأمل .. ضياع الراوية التي مثّلت محنة ذلك الوطن باختلال هويّتها وبحثها عن ذاتها .. وفقدان الرجاء في أبيها المنقذ ..
إلى كنسنغتون .. هناك حيث تلتقي "أجيال الإرتباك" في "حي السحالي" .. فاقدة أوطانها الأصلية ، وعاجزة عن الحصول على وطن بديل .. تردّد في دوّامات لوعات الذاكرة الجريحة وهي "تنبض على رصيف شارع .. رصيف ينزلق تحت أقدامها" :

آه .. كم بدت السماء قريبة هناك ؟!

جَمالٌ ... وحِكَم :

----------------

(إنّها فكرة بلهاء ، قضية الإنتماء ، فنحن لا ننتمي إلّا لظلّ أجسامنا التي ترافقنا ، مادمنا أحياء)

(ماتت هيلين منتفخة . كان رحيلها أشبه باحتضار بقرة .. زوجها الطيّار المُقعد احتضن كيس بولها المُتدلّي من طرف سريرها . ربّما لأنه كان أقرب الأشياء إلى مقعده ، أو ربّما لأنه يحتوي دفئها الأخير)

(لستَ مديناً لي بهذه الشروحات ، سواءً أكنتَ في أفريقيا أم في القمر . كان في استطاعتك أن تكون صريحاً منذ البداية . على كلّ حال لا يهم ، فنحن أغراب وسنفترق أغراباً)

(ليتَ صفّ النخيل يرحل عن منامي)

(جاء دوري . ركلتُ الهواء بقدمَيّ .. ارتفعتُ إلى أعلى .. ركلتُ اقوى .. ارتفعت أعلى .. سبحتُ في فضاء .. أطّرتني زرقة حليبية .. كل النخيل تحت قدميّ الحافيتين .. الشمس تسبح في ماء النهر .. أفرد أصابع قدمي .. تنفذ أقلام ضوء بين الفراغات الأربع .. وبالقدم الأخرى أركل أقوى .. أرتفع .. استنشقتُ خط الأفق .. وعندها ... كم بدت السماء قريبة !!)

(هناك مرّة أولى وأخيرة لكلّ شيء)

(صوت الأّمّهات يأتي دائما من بعيد)

(أبي ، أنت تخدم الجميع . ستسهرون حتى الصباح لكنك لن تنسى غداً ضفر جديلتي قبل إرسالي إلى المدرسة)

(أقول : معكرونة ! أراها مكبّلة بحبال معكرونة ، شعرها خيوط معكرونة ، ومن أذنيها تزحف ديدان معكرونة . تسلق عذاباتها في قدر ضغط)

(شعرتُ أنني أملكها . تُرى ، أنمتلك أحياء أخرى ثمّ نعذّبها ؟! أم نعذّبها أوّلاً ثم نشعر أننا نمتلكها ؟!)

(فجأة ، شعرتُ بالإثم تجاه هذا المخلوق . أشعرتني البعوضة بالخطيئة)

(لا أعلم إن كنتَ تكلمني أم تكلّم نفسك ، وأنتَ ترتشف القهوة التي حُرمتَ منها لفترة ، خفتُ من هذا الدرس الأول ، ودعْوَتُكَ لأن اشاركك تجاربك أشعرتني أن جديلتي نفد عمرها)

(الآن فقط بدأتُ بالتعرّف إليك . عالمك هذا لم يخطر ببالي وأنا منصرفة لروتين المدرسة والزي والتدريبات . لم أفكّر يوماً في أن أتخيل أن اللون الوردي يمكن تسميته هلام الكرز ، أو أن يُسمّى اللون الأخضر بالغابة الكسلى أو قشرة تفاح معتّقة أو حصى النهر . من أين تأتي بكل هذا السحر يا أبي ؟! تُرى ، أكان هذا ما تقصده أمّي عندما أغريتها بوصفك للشرق ؟! )

(البلد بلدي والخير هنا في هذه الأرض .. فكرة العزلة ثانية عن الوطن تخيفني . أقولها لك بكل صراحة)

(الفرنسيون يقولون إن الكمال يعني الموت ، والباليه يهدف إلى الكمال . فتخيّلوا أنفسكم ، وقد وصلتم إلى حدّ الموت بالتدريب ، دون الإستسلام له حتى ينتهي العرض)

(ذرّات التراب في كل مكان ، هذا الغبار الذي يغطّي عباءاتهم السود ، ملاءاتهم ، أثاثهم ، أبقارهم ، بل وجوههم ، كأنه سحر حيويتهم . أهل خدّوجة لا يتوقفون عن الحركة ، متقمّصين ألوان كل ما يحيط بهم ، فإذا كل شىء بلون التراب ، حتى بشرتهم سمراء كالطين . ينتمي الجميع إلى العائلة البنّية ذاتها ، صبغة يتوارثونها بديمومة مثيرة . كم أعجب عندما يصفون سُمرتي بدورهم وأنا قادمة إليهم : "هلا بقرص الخبز هلا")

(يكفيني شعوري أن والدك ، رغم كل المسافة التي كانت تفصل بين تكويني الغربي وتكوينه الشرقي ، لو أنه ما يزال على قيد الحياة ، لما ترك جانب سريري قبل أن استرجع إنسانيتي)

(يا مدام ، الذنب ليس ذنب أحد .. نحن لا نعرف غير الرقص وهذه اللغة لا تُجدي في الحرب .. ربما كنا مخطئين بتمسكنا بما تسمّينه الحلم)

(بدأتُ أدخل زمناً ، لشدّة كآبته ، أكاد ألمس هواءً ثقيلاً في قبضة يدي)

(هل تعتقد أن هناك فرقاً بين من يفهم الحياة ، ومن يحسّ بها ؟)

(كل ما أتذكره في طريقي كل يوم إلى المعسكر ، هو أنني كنتُ يوما ما نحّاتاً)

(خائفة أنا وحذرة . لا ! المقولة تؤكّد أن الحذر والفضول لا يأكلان من صحن واحد)

(صعدتُ سلالم الطائرة أحمل حقيبة واحدة تتبعني أمّي بثدي واحد)

(أغلقتُ عيني أشمّ الروائح . أتمنى لو كانت سوق "الشورجة" في بغداد)

(يا إلهي ثم ماذا ؟! فات الأوان .. لم أعد أنتمي إلى هنا عندما غادرتُ إنكلترا حينها وقررت أن أحاول الإنتماء إلى الشرق . لكن لم أنجح في انتمائي إلى الشرق رغم كل محاولاتي . الآن وقد عدتُ ثانية ، أجدني لا أستطيع الإنتماء من جديد إلى موطني الأصلي . كل شيء مختلف)

(-أتصدّقين أنني منذ ميلادي العشرين ، عندما انخرطتُ في سلك الرهبنة ، أمارس طقس الدعاء إليه كل ليلة أشكره على السكينة التي خصّني بها لأساعد ، وأنصح ، وأبشّر ، وأوجّه الآخرين (...) أمّا الآن .. فأشعر بالإخفاق مع الربّ بعد كل هذه السنوات من التفرّغ للعبادة ودروس الإقتناع بالمصير . إنّها حرب يا ابنتي ، حرب)

(-يبدو أن الوحدة أكثر احتمالاً إن كنّا سنموت بعدها مع الجماعة .. إنّه أشبه بهذا الشعور ونحن على وشك عبور الشارع . فنحن ننتظر لاشعورياً أن نعبر مع جماعة العابرين وليس بمفردنا .. الآن هذه فرصتنا الأخيرة في أن نفهم .. لأننا ، بعد قليل ، سنكفّ عن أن نكون)

(ثمّة يد لرجل خمسيني تستقر على المائدة قرب الطفل . أعرف هذه التجاعيد جيّداً . رفعتُ بصري نحوه . فإذا به برمشة عيني ، قد أدار لي ظهره في طريقه مغادراً الغرفة . كانت تلك يد أبي )

(-هل حدث أن تملكّك شعور بحاجتك إلى إنسان عزيز إلى درجة لا تقدر معها على فراقه ؟

أجاب بنبرة دافئة :

-ليس بعد الثلاثين )

 

 

 

 

 

 

هوامش :

---------

(1)كم بدت السماء قريبة ؟! – بتول الخضيري – رواية – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت – الطبعة الخامسة – 2009 .

(2)غايب – بتول الخضيري – رواية – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت – 2009 .

(3)بتول الخضيري ذهبت إلى العالمية من المرة الأولى – منير عبد الرحمن  صحيفة الوطن .

(4)يرى المحلل النفسي "إريك فروم" أنّ من علامات عدوانيّة "تشرشل" هي الكيفية التي كان يقتل بها الذباب ، ويرتّبه في صفوف على مائدة طعام في زيارة له لأفريقيا (راجع كتابه تشريح التدميرية البشرية) .

(5)لحظة الأبدية – سمير الحاج شاهين – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت – 1980 .

(6)العولمة والعولمة المضادّة – د. عبد السلام المسدي – كتاب سطور – 1999 .

(7)العبقرية والموت – د. عبد الرحمن بدوي - دار القلم – بيروت – بلا تاريخ .

 

 31.12.2014

للمزيد..

صفحة الكاتب والناقد العراقي

د. حسين سرمك حسن

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4]  | أرشيف المقالات  |  دراسات  |  عمال ونقابات |  فنون وآداب |  كاريكاتير  |  المرأة |  الأطفال | إتصل بنا       

      

لا للتقسيم لا للأقاليم

لا

للأحتلال

لا

لأقتصاد السوق

لا

لتقسيم العراق

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة

من الكتاب والصحفيين العراقيين   

 

                                                                  

                                                                          

  

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org