<%@ Language=JavaScript %> د. حسين سرمك حسن مشروع تحليل خمسين رواية عربية نسوية : رواية "كم بدت السماء قريبة!!" لبتول الخضيري (9)

 

 

 

مشروع تحليل خمسين رواية عربية نسوية :

 

رواية "كم بدت السماء قريبة!!"

 

 لبتول الخضيري (9)

 

 

د. حسين سرمك حسن

بغداد المحروسة – 1/10/2014

 

طبعاً لم ترّ الراوية الخير المتوقع ، أو أيّ خير ، في وطنها ، كما رأى الأب ، غير العذاب والألم والشدائد ، لكن في كل الأحوال رأت خيراً ما ؛ في هناءات الطفولة رغم فقدان خدّوجة وتوترات علاقتها بأمّها ، في حنو الأب الدافيء ، في الصداقات المُخلِصة ، في تجربة الحب الوحيدة العاصفة ، في ألفة الأشياء .. وبساطة أناسها الطيبين . حتى الخسارات هناك كانت ذات "معنى" . وكلّ تلك المعاني تأسست على "النظرة الأوّلية" التي أبصرت بها العالم من خلال عيني الاب - وبعدساته الأصيلة - في طفولتها الباكرة . وهي بعد أن جرّدت الناس المجافين الذين حولها في المكان الجديد الموحش من "عدسات" عيونهم ، صارت بحاجة إلى من ينظر إليها نظرة "الأبوة" المتعاطفة والصحّية تلك . لكن هذا الطلب غير مسموح به وفق المواضعات الدينية والإنسانية والقانونية ، والدفّان يرفض بطبيعة الحال ، والذات تُحبط وتحتقن بالنقمة والخيبة والسخط .. و.. تنفجر مدوّية مرعبة ويصوّر الحلم انفجارها تحت غطاء الإنفجار في طريق أبي غريب وسحابة الدخان الاسود العملاق الذي صوّرته "فطراً" مستعيرة صورة الفطر الدقيق الذي قال لها سليم بأنّه يستطيع تصويره وهو على شعرة ناعمة . فأينك من فطر روحي الآن أيّها الحبيب الغائب ؟ ..

ومن كابوس الحلم المؤقت إلى كابوس أمّها الدائم التي بدأ شعر رأسها بالتساقط بسبب العلاج الكيمياوي لتصبح صلعاء وبثدي واحد كما تقول . وحتى هذا الثدي سوف يقرضه السرطان ويبدأ بالتقيّح مطلقاً رائحة كريهة . ومن كابوس الأم إلى كابوس البلاد الملعونة التي لا تُنسى ؛ كابوس دائم مُرعب لم تعد الراوية تميّز فيه حقّه من باطله . تجمّعَ عالمُ الخنازير على وطنها لينهشوا لحمه الضامر من كل ناحية !

وقفة :

-------

هؤلاء الخنازير الذين تنادوا لتدمير العراق مسلّحون بالعلم الذي وظّفوه للشرّ ولتدمير البشريّة برغم كل تنفجّاتهم . لم يشهد التاريخ هجمة إعلامية مبيّتة مثل التي تُشنّ على العراق أمام عيني هذه المهاجرة المكسينة التي تتابع حرائق البلاد التي وُلدت فيها ، مندهشة وحائرة ومُضلّلة . نعم مُضلّلة ، فلا أحد استطاع الصمود أمام ماكنة الكذب الغربية آنذاك . ها هي تتحدّث إلينا عن بقعة الزيت الأسطورية التي ظلّل الخنازير بها العالم . ضحكوا على الكويتيين والعرب والعالم الشرقي والغربي . استدرّوا عطفهم على البط المسكين الذي خنقته بقعة النفط :

(... المخاوف تدور حول كارثة حريق إذا نشب وطول بقعة النفط العائمة بلغ عشرين ميلاً . خرجت فرق إنقاذ البيئة لنجدة البط الملوّث . أقيمت مراكز طوارىء في المنطقة ، تمّ فيها غسل الطيور من الزيت الأسود ، ومسح عيونها الحمر من الدهن الجامد فيها . أثارت المسألة العطف العالمي ، يتحدّث الجميع عن ريش الطيور المسكينة المُثقلة تحت وطأة الحرب ! تلك صورة الحيوان المسموم تتداولها الأجهزة الثقافية عدة أيام ، انتهت بأن قرّر الخبراء أنهم لن يتمكنوا من تنظيف المنطقة إلا بعملية عسكرية) (ص 171) .

لقد ثبت أنّ موضوعة البط المسكين النافق موضوعة مفبركة من الإعلام الغربي وقائدته الـ CNN ، فهذا النوع من الطيور غير موجود في منطقة الخليج العربي ولا في منطقة الشرق الأوسط (راجع كتاب "العولمة والعولمة المُضادة" للدكتور عبد السلام المسدي) (6).

ركّز العالم على البطّ ، ونسي مئات الأطفال الذين تمّ حرقهم أحياءً في ملجأ العامرية .. وآلاف الجنود الذين كان يذبحهم الأمريكان الخنازير وهم منسحبين عزّلاً متعبين !!

هذا التركيز على الحيوان أكثر من الإنسان هو موقف طبيعي لبنية سيكولوجية راسخة في بلاد يتمتع فيها الكلب بكل حقوق الإنسان عدا حق الإنتخاب والترشيح !! 

عودة :

-------

.. ومع أمّها كانت هناك "لعبة" مهلكة نفسيّاً : المراقبة العاجزة والإنتظار ؛ مراقبة المريضات اللائي يفتك بهنّ السرطان وكيف تتشكل ردود أفعالهن على الموت وكيف يذوين ، وانتظار موتهن وفي مقدّمته موت أمّها !! كانت سلوكيات المريضات - مهما تظاهرن بالتماسك - تشير إلى الإنرعاب الماحق أمام هذا الحي الذي لا يموت : الموت . سلوكيات كانت الكاتبة توظّف بعضها لترسل  - بهدوء جارح - رسائل إلينا من خلال الراوية . فعلى سبيل المثال كانت الراوية تحاول دائما إقناع أمّها بأن لا تيأس ، لأن الله موجود وقريب ، في حين تصرّ الأم على أنّها تركت الربّ في كنيسة صغيرة في أطراف لندن قبل أن تلتحق بأبيها (ص 166) . تدخل الردهة "آن" راهبة في الخمسين من عمرها وتسأل الراوية هل تؤمن بالله ، فتجيبها باطمئنان : عندما أحتاج إليه اشعر أنه قريب .. فترد عليها الراهبة :

(-أتصدّقين أنني منذ ميلادي العشرين ، عندما انخرطتُ في سلك الرهبنة ، أمارس طقس الدعاء إليه كل ليلة أشكره على السكينة التي خصّني بها لأساعد ، وأنصح ، وأبشّر ، وأوجّه الآخرين (...) أمّا الآن .. فأشعر بالإخفاق مع الربّ بعد كل هذه السنوات من التفرّغ للعبادة ودروس الإقتناع بالمصير . إنّها حرب يا ابنتي ، حرب) (ص 163 و174) .

وهي - أيضاً - "حرب" هذه التي تمارسها معنا الكاتبة . ففي كل إشارة بسيطة إلى سلوك ما ، أو تعليق على قول عابر ، تهزّ قناعاتنا وتربك مصادر اطمئناننا النفسي - عبر التلميح لا التصريح - من خلال سلوكيات الشخصيات وحواراتها ، لا الشروحات والمواعظ والتفسيرات التي يلجا إليها بعض الروائيين . وهذه سمة أسلوبية من سمات فنّها السردي . إنّها تجعل الوقائع والحوادث التي تصفها هي التي تتكلّم - وببلاغة عالية - وتفسّر بمهارة . فحين تشعر بالضيق من حر ردهة المستشفى الخانق وتخرج لتناول شيء من المرطبات ، تحيلنا إلى خبر عن احتجاز خمسة وثلاثين طالباً عراقياً كرهائن حرب حتى إشعار آخر ، سوف تُقدّم لهم المرطبات حتما .. هكذا أفكّر .. تبدأ عمليات الجيهة الدمويّة .. رتل من الأسرى يُقادون صوب الحلفاء عيونهم مشدودة وأيديهم مقيّدة وهم شبه عراة . وقد كرّروا هذا المشهد - تعرية الأسرى - من جديد في حرب احتلال العراق عام 2003 ، في حين قلبوا الدنيا لأن العراق عرض بعض الطيارين الأسرى الأمريكان على شاشة التلفاز !! ولاحظ أنّهم سمّوا عملية قتل الجنود العراقيين المنسحبين العُزّل "عمليّة صيد البط البرّي" . أي كلاب وأي خنازير هؤلاء الأمريكان ؟!

هكذا تشتبك مسارات لعبة الإنتظار والمراقبة والتوقّع السلبي المميت المطعّم بتجارب الموت في الحرب المهولة :

(قوّاد الطائرات السمتية يطبّقون مهماتهم : "إبحث ودمّر" .. يصفون الدبابات المهجورة التي ضُربت أثناء القصف بالبط القابع .

ماتت آن . ثم لحقت بها أنجيلا ترتدي طوقها الأخضر إلى يومها الأخير . خيّم صمت حزين على بقية النساء . أصبح المكان مجمّعاً من أسرّة طبّية ، لا يفصل سيّدة انتهت عن سيّدة توشك على الإنتهاء ، إلّا ستارة خفيفة من ورد أزرق أصم ، لم تُجدِ محاولات دايان في مواساة من تنتظر دورها) (ص 174) .

وفي الحقيقة فإن الراوية في لعبة الإنتظار المفتوحة على الموت كانت تمارس لعبة انتظار بدورها ، متعدّدة الأوجه ، في مقدّمتها انتظار مصيرها مجسّداً في مصير المريضات اللائي يتساقطن أو يُنتزعن بقسوة أمام عينيها وفي مقدّمتهن أمّها ، ولهذا لم تستطع حبس السؤال المستفز والسيطرة عليه فانفلت لتسأل أمّها :

-هل السرطان وراثي ؟

كانت الامّ تجيبها بهدوء بما يطمئن روحها اللائبة ، لكنها لا تستطيع إطفاء قلق ابنتها التي ترى الأجوبة الدقيقة والمتلاحقة التي لا تحتاج لشرح مشخصة أمام عينيها عمليّاً .. في المريضات .. وفي حالة أمّها التي تتدهور كل ساعة :

(تدهورت حالة امّي مع مضي الأيام . مرضها أصرّ على تطبيق كل نقاط لائحة الأعراض الجانبية بالتسلسل . ظهرت بثور ناعمة بحجم رأس دبوس انتشرت حول المنطقة المصابة فشخصها الطبيب على أنها بدايات سرطان الجلد . ترك جانب سريرها .. شكرَتْهُ بهدوء وراحت تقلّب صفحات مجلة من مجلات حلاقة السيدات) (ص 175) ..

مهما كان تبلّد مشاعر الأم ، ولا اكتراثها ، فإن موجات نقمتها كانت تنطلق بين وقت وآخر . لكن الخوف على مشاعر هذه المُراقِبة من أن تتبلّد بتكرار الوخز على أوصال الروح ، وأن تنمو بذرة سوداء للاجدوى كما سيحصل فعلاً .

والراوية تنتظر أيضاً ما سيأتيها من رسائل المدام ، وهذه رسالة تعرض - بموازاة تفاعلات حالتها - حالة الشرود الذهني التام التي يعاني منها الناس هناك ، وفقدان التركيز على توجيه دفّة الحياة لتضاؤل الفرص سريعاً . هناك ورشة كبرى للسرطان .. ردهة بسعة وطن .. ومرضى بمقدار شعب .. الفارق في لعبة الإنتظار أنّ شعباً بأكمله يراقب كيف يقرض السرطان الأمريكي وجوده ويفنيه . قد تكون الراوية قاصدة أن تكون الأنموذج المُصغّر ، هنا ، للأنموذج المكبّر ، هناك :

(الناس يتخبطون في الشوارع . الكل يتساءل عن شكل المستقبل . ما عدا ذلك ، فالكآبة للجميع دون مقابل . أين أنا من أول محاضرة تلقيتها من أستاذ روسي قال لنا : "عمرنا الفني قصير لذا يجب تطوير الجسد سريعاً " . أكاد لا أصدّق أنني وصلتُ إلى "منتصف السبعين" . هكذا تدور السخرية حول وصف أعمارنا هذه الأيام) (ص 177) .

بعد قليل ستذكّرنا الراوية وتذكّر نفسها أنّها قد عبرت سدّة الثلاثين من عمرها بما يعنيه هذا العبور من انهمامات وانشغالات عن سنوات تفلت من بين اصابع عمرها بلا طائل !!

ويبدو - كما قلت ، وكما فصّل ذلك عبد الرحمن بدوي في كتابه "الموت والعبقرية" - أنّ شعور الإنسان بأن الموت صار "مشكلة" يُغني شخصيّته ويعمّق فكره .. وقد يجعله فيلسوفاً :

(إن شخصية الإنسان تنضج عندما يشعر أن الموت قد أصبح مشكلة . فالموت يكون مشكلة حينما يشعر الإنسان شعورا قويا واضحا بهذا الإشكال في نفسه بطريقة عميقة ، وحينما ينظر إلى الموت كما هو ، ومن حيث إشكاليته هذه ، ويحاول أن ينفذ إلى سرّه العميق . إن الإحساس بأن الموت مشكلة يتطلب الشعور بالشخصية أولا . فكلما كان الشعور بالشخصية أقوى وأوضح ، كان الإنسان أقدر على إدراك الموت كمشكلة . فالموت ليس مشكلة بالنسبة إلى ضعيفي الشخصية . والنتيجة أن اللحظة التي يبدأ فيها الموت بأن يكون مشكلة بالنسبة إلى أي إنسان ، هي اللحظة التي تؤذن بأن هذا الإنسان قد بلغ درجة قوية من الشعور بالشخصية ، وبالتالي على أن يكون الموت عنده مشكلة .. وبالتالي فإنه قد بدأ يتحضّر ... ولهذا نجد أن التفكير في الموت يقترن به دائما ميلاد حضارة جديدة ، وما يصدق على روح الأفراد يصدق كذلك على روح الحضارات) (7).

 ويبدو أنّ الفلسفة نشأت من  تأمّل الموت ، بالإستعارة من أرسطو ، ومن وقوف الإنسان جوار جثمان أول عزيز اختطفه الموت بالإستعارة من معلّم فيينا.. وهل هناك أعزّ من الذات ؟! .. بدأت الأم تتفلسف ، فتعلن لابنتها أن الموت حالة فردية جدا ، لذلك نحن نفضّل أن نعيش مع الآخرين لئلا تقتلنا الوحشة .. وفعلاً فإن الموت لا يمكن أن "يُجرّب" . إنّه حالة فردية خالصة لا عودة منها . فلماذا يعيش الإنسان وحيداً إن كان سيموت وحيداً ؟! أليس هذا الشعور ذاته هو الذي يدفعنا للارتباط والزواج والإنجاب ، لكي نخزن في اللاوعي صورة أن أطفالنا سيلازموننا ليسيروا في جنازتنا ؟!

-وإذا كان الموت جماعياً كما افترضتِ يا امّي ؟

تسألها ابنتها التي ستنتقل إليها عدوى التفلسف :

-في هذه الحالة ، أظن أن الإنسان سيسهل عليه اختيار العزلة إذا كان يرغب في ذلك ، أو أن يتحملها إن وجد نفسه مضطراً إليها .. يبدو أن الوحدة أكثر احتمالاً إن كنّا سنموت بعدها مع الجماعة .. إنّه أشبه بهذا الشعور ونحن على وشك عبور الشارع . فنحن ننتظر لاشعورياً أن نعبر مع جماعة العابرين وليس بمفردنا .. الآن هذه فرصتنا الأخيرة في أن نفهم .. لأننا ، بعد قليل ، سنكفّ عن أن نكون) (ص 179) .

لكن ما هو أخطر في الموقف المُتفلسِف هو بطانته من انفعالات نفسية مصاحبة ، خصوصا المُقلقة والإكتئابية منها ، التي تشمل المحتضرين ومن يرتبطون بهم من أحبّة على حدّ سواء . ها هي الراوية - طوال الموقف المرير الذي وضعت فيه في ردهة الموت ، انتظارا ومراقبة وانفعالا – تنفلت شرارات عدوانها المُحتبسة – التي لم تسلم منها حتى الأم - والتي يؤججها الشعور بالإحباط والعجز في مواجهة المثكل ، وثقل الزمن الراكد الذي يشعر المرء باللاجدوى وعبث الوجود الشخصي :

"ماتت هيلين منتفخة . كان رحيلها أشبه باحتضار بقرة .. زوجها الطيّار المُقعد احتضن كيس بولها المُتدلّي من طرف سريرها . ربّما لأنه كان أقرب الأشياء إلى مقعده ، أو ربّما لأنه يحتوي دفئها الأخير" (ص 180) .

"تتجوّل في الصالة بعينين جاحظتين ، كأنها ضفدعة استقلت بنفسها عن أهل البُرْكة" (ص 167) ..

"عندما تتكلم تشبه سمكة يائسة دون أهداب" (ص 187) ..

"جاءت "السعلوة" تأمرني أن أباعد ما بين ساقي" (ص 193)

 

27.12.2014

 

للمزيد:

صفحة الكاتب والناقد العراقي

د. حسين سرمك حسن

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4]  | أرشيف المقالات  |  دراسات  |  عمال ونقابات |  فنون وآداب |  كاريكاتير  |  المرأة |  الأطفال | إتصل بنا       

      

لا للتقسيم لا للأقاليم

لا

للأحتلال

لا

لأقتصاد السوق

لا

لتقسيم العراق

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة

من الكتاب والصحفيين العراقيين   

 

                                                                  

                                                                          

  

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org