<%@ Language=JavaScript %> د. حسين سرمك حسن رواية "كم بدت السماء قريبة!!" لبتول الخضيري (5)

 

 

مشروع تحليل خمسين رواية عربية نسوية :

 

 

رواية "كم بدت السماء قريبة!!" لبتول الخضيري

 

 (5)

 

 

د. حسين سرمك حسن

بغداد المحروسة – 1/10/2014

 

وهنا تبدأ لعبة شديدة الدلالات والإيحاء من أشكال علاقة البنت بأبيها ، حيث يشرع الأب بإشراكها في عمله الخلّاق الذي يعشقه كتاجر مطيّبات أنعم الله عليه بحاستي ذوق وشمّ لا توجد عند الكثير من الناس . لقد تخصص في هذا المجال عبر سنوات عمله حتى بدأ يبتدع أسماء غير مألوفة للطعوم والمطيّبات والعطور التي يحضّرها في المختبر . إنّه يقوم بشمّ وتذوّق الوصفات والألوان ثم يتأمّل في تسمياتها . قد تطول العملية عدة ليالٍ حتى يتخيّل الإسم المناسب للطعم أو العطر . ومن هنا يبدأ السحر (ص 66) . هذا "السحر" هو الذي صار يلف بغلالاته الشفيفة الحييّة هذين الكائنين المستوحدين : الأب وابنته . صارا يتخيّلان ويسميّان ، وفي عمليّة التخييل المُشترك تتخفّف الروح وتتلوى وتهفهف حدودها لتندغم وتنصهر في روح الرفيق . يدعو الأب إبنته لتكون رفيقة دربه هذا ، فقد صار يضيق بوحدته بعد حلول المساء . جاءت هذه الدعوة مع عبور البنت عتبة الإنتقال إلى حياة النساء الصغيرات المفعمة بمتطلبات المراهقة الباحثة عن موضوع حبّ حامٍ ومُشبع ، وتصف البنت انفعالاتها إثر سماعها دعوة أبيها :

(لم أعرف بماذا أجيب . تعرض عليّ أن أكون مساعدتك مرّة واحدة . أمسكت بيدي ورحتَ تضغط عليها برقّة . دغدغني شعور جديد يشبه أن يكون كطعم السندي الذي اختبرتني فيه . صداقة كانت أكبر مني ، تفرض عليّ في أمسية واحدة ، أن أكبر معها) (ص 67) .

ثمّ بدأت مسيرة التخييل الشاعريّة بين الأب وابنته التي صارت تتخلّص من ضغوط الحياة الروتينية وكآبة المساء . ولعلّ أكثر مظاهر احتقان اللاشعور وبحثه عن الإشباع حين يتعرّض لمويجات الإغواء ، هو "الملل" وتعكّر المزاج من رتابة إيقاع الحياة اليومية . كان الأب يعرض الألوان العادية على ابنته / مساعدته لتتخيّل وتضع اسماً شعريّاً لها . بدأ إيقاع الأيام الثقيل يتغيّر ، ومعرفة البنت بأبيها تتسع وعلاقتها به تتوثّق :

(الآن فقط بدأتُ بالتعرّف إليك . عالمك هذا لم يخطر ببالي وأنا منصرفة لروتين المدرسة والزي والتدريبات . لم أفكّر يوماً في أن أتخيل أن اللون الوردي يمكن تسميته هلام الكرز ، أو أن يُسمّى اللون الأخضر بالغابة الكسلى أو قشرة تفاح معتّقة أو حصى النهر . من أين تأتي بكل هذا السحر يا أبي ؟! تُرى ، أكان هذا ما تقصده أمّي عندما أغريتها بوصفك للشرق ؟! ) (ص 74 و75) ..

وفي الوقت الذي تصاعدت وثاقة علاقة البنت بأبيها ، كانت الفجوة بين أبويها تتسع مثلما بدأت تأكل من جرف علاقتها بأمّها . فقد أصبحت ايام الجمعة أقل كآبة ، وازدادت كركرات الأب وابنته على مائدة الإفطار ، وصارا يمارسان لعبة التخييل الشاعرية حتى في وصف البيضة المسلوقة وسط دهشة الأم .. الأم التي صارت الفجوة بينها وبين الأب تتسع بموازاة تعزّز ورسوخ الأواصر بين الأب وابنته من ناحية ، واتساع الفجوة بين البنت وأمّها من ناحية أخرى . هذا المأزق المزمن كان العامل الوحيد الذي يُفسد على البنت سعاداتها الجديدة خصوصا حين ارتفع زعيق الأب عند الفجر بعد أمسية جميلة قضتها ابنته معه ، وهو يصرخ بسبب انفلات الأم ومطالبتها بالطلاق والعمل في البصرة بما يعنيه بالنسبة للأب من علاقة آثمة بديفيد الإنكليزي . لقد اشتد غضب الأب ، وسمعت البنت المرعوبة صوت شيء يُرمى ويصطدم بحوض أسماكها المحبّبات إلى نفسها .. زعيق .. وتهديدات بالإنفصال والطلاق .. مخاوف من الإنهجار .. وصراع حول من يأخذها معه .. دوّامة أنشبت أظفارها في روح البنت التي سقطت في براثن العجز والمهانة ، الأمر الذي أشعل في أعماقها الإحساس بانحطاط الذات وتدهور الإعتبار الذاتي الذي تجلّى بأقسى صوره وأبشعها من خلال مقارنة سمرتها بلون البراز ، ولتمتزج هذه المشاعر المازوخية باستجابة ساديّة قصوى راحت ضحيّتها الأسماك الصغيرة المسكينة :

(شرعتُ في رفع الحوض من مكانه .. حملته فتأرجحت أزواج السمك محدّقة فيّ . أتوجه نحو الحمّام . ألقيت نظرة في المرحاض ، حبّتا براز أسطوانيتان تطفوان في فوهته . ذكّرني لونهما بسمرتي . فكّرتُ : صابونة شوكولاتة ، ثم أنّبتُ نفسي للتشبيه . قلبتُ محتويات الحوض فيه . جررتُ اليد الحديدية إلى اسفل ، تششش ! ابتلعتُ ريقي . وقفتُ هناك لحظات اتأمل فعلتي ، ثم اغلقتُ الباب خلفي) (ص 78) . 

لقد استمر لهيب الصراع بين الأبوين في استعاره بل تصاعد بدرجة أكبر ، وكان هذا واحداً من أهم المتغيّرات التي أوقعت البنت في مصيدة الحيرة والتمزّق فهي لا تستطيع – ظاهراً – الإنحياز إلى أيٍّ من الطرفين :

(التصادمات تزداد . بدأتُ أتأقلم مع مشاكلكم بعد أن كنت أهرب بها إلى غرفتي . أمّا الآن ، فقد تعلمت أن أستمع دون أن أتدخل . بعد فترة ممارسة ، وصلتُ إلى مرحلة عدم الإستماع ، تماما كمغناطيس الخياطة عندما أجمع به الدبابيس المتناثرة ... هكذا تعلمتُ أن أُسقط ما يثقل عليّ من المشاكل . حالة تكرهها أمّي . شعرتُ أنها تريدني إلى جانبها في أعلى درجات ضيقها ، وأنا لا أستطيع أن أقرّر من هو الضحيّة) (ص 79) ..

لكن هذا الموقف الصراعي المُمزّق كان يُحسم في لاشعور البنت ، فهي منحازة إلى أبيها . فمازال الأب يظفر لهاجديلتها التي لم تتورّع الأم في قصّها من قبل حين التصقت بها علكة .. ومازالت تقضي أوقاتها معه في حين واصلت الأم انهمامها بذاتها وإعلان ضجرها وقضاء أوقاتها في النوم أو في التنقّل بين بغداد والبصرة بقرارها الفردي ودون العودة إلى زوجها (لتخبرني فقط . لا لتأخذ رأيي . لن أسمح لأحد أن يهزأ منّي) (ص 80) .. هكذا كان الأب يقول لابنته في جلسة المكاشفة حين أخبرته بأنها لم تعد "طفلة" كما يظنّون ، وطلبت منه أن يخبرها عن نهاية درب الخلافات هذا الذي لا ينتهي . أخبرها بصراحة أنه لن يوافق على الطلاق كحل لحربه المزمنة ضد زوجته لأن الطلاق ليس في صالحها ؛ صالح إبنته ، كما أنّه لا يرغب في الرحيل إلى إنكلترا ثانية لأنه مهدّد بجلطة ثانية ، كما أنه لن يكرّر تجربة الضياع الحضاري الأولى التي واجهها خلال دراسته هناك كما يقول (ص 81) .. وفوق ذلك فهو لا يستطيع مغادرة وطنه :

(ربّما لو لم أكن مُهدّداً بجلطة ثانية لانتقلنا إلى إنكلترا .. لكن البلد بلدي والخير هنا في هذه الأرض .. فكرة العزلة ثانية عن الوطن تخيفني . أقولها لك بكل صراحة) (ص 80 و81) .

دوّامات سود من شجار وزعيق وحيرة وتمزّق تلفّ وجود البنت .. تعقبها أوقات هناءات تخيّلاتها الشاعرية اليسيرة مع الأب المحزون .. الأب الذي يبلغها الآن بهبوط هادم اللذات ومفرّق الجماعات .. المُثكل في صورة خبر صاعق ينقله الأب إلى ابنته :

(الحرب قامت مع إيران) (ص 90) .

ومع سنوات الحرب الدامية تمتد مخالب المثكل لتدمّر كل معالم الحياة في المجتمع وفي حياة بطلتنا الشخصية . وبذكاء ودقّة تلاحق الكاتبة تطوّرات الحرب وهي تقرض جسد الحياة في العراق شيئا فشيئا من خلال رصد علامات الخراب التي بدأت تنهش لحم الحياة الحي من كل الجهات . كانت جحافل الحياة تندحر وتنهزم بلا نظام .. بفوضى ساحقة .. وكانت جحافل المُثكل تتقدم ظافرة براياتها السود ، بعزم .. وفي كل الإتجاهات .  ولعلّ أروع ما قدّمته الكاتبة هو تصوير الصراع بين الموت والحياة ؛ الموت ممثلاً بالحرب الطاحنة التي كانت تدور على جبهات القتال (الحرب تدور في الواقع على ساحات قلوب الأمّهات) ، وتمتد أذرعها الأخطبوطية السود لتخنق أنفاس الحياة في الداخل ، والحياة ممثلةً بمجموعة طلبة مدرسة الموسيقى والباليه ومدرّستهم (المدام كما يلقبونها) . لقد لاحقت الروائية - وبمهارة - التغيّرات المدمّرة التي كانت تعصف بالناس وسبل عيشهم ومحيطهم وتشبعهم قهراً وفاجعات ممثلة لإرادة العدوان والموت ، والإصرار العزوم الذي تقود به المدام مجموعتها الصغيرة من الطلبة التي كانت مخالب الحرب تحاول أيضاً نهش وجودهم وتقويض أمنياتهم . ولم تسلم من ذلك . لقد حوصرت الدراسة في المدرسة واعتُبرت من الكماليات ولم يعد لطلبتها مستقبل . بدأ الطلبة يغادرون المدرسة إلى مدارس "عملية" أخرى أو إلى العمل او الإلتحاق بالخدمة العسكرية . وكانت البنت الشابة الآن – تجاوزت ربيعها السادس عشر – ممن فكّروا بترك المدرسة لولا المدرّسة الجديدة التي أثّرت "سمرتها" في نفس الشابة وجعلتها تبقى في المدرسة على الرغم من الفوضى الشاملة :

(المدرسة الجديدة التي داومت عندنا قبل اسبوعين ، بعد عودتها مؤخراً من الاتحاد السوفيتي . شيء ما في سمرتها (!) جعلني أعيد النظر في موضوع مغادرتي مع الآخرين ، وهي تقول لي ، بعد أن تعارفنا في إحدى المرّات : "سأجعل منك فراشة") (ص 98) .

كانت المدام "مؤمنة" حقيقية بفنّها ، تنظر إلى فنّها نظرة متصوّف في محراب الله . كانت تفقد صوابها لأبسط خطأ أو تباطؤ أو تأخير عن موعد التدريبات .. وكانت الشابة مسحورة بسمرتها (!) وهي تتكلم عن الحلم وأمل النهوض بالمسرح بعد انتهاء الحرب . ويمكن للسيّد القارىء أن يربط – ببساطة – سحر سمرة المدرّسة (التي هي أنموذج أمومي بطبيعة الحال) بسمرتها هي ، وسمرة أبيها .. والأهم سمرة رفيقة الروح الراحلة "خدّوجة" .

كانت المدام تتصرف وهي تحمل روح من يؤمن بأنه قائد مسؤول عن الحياة بأكملها . وإن لم يكن ، فعلى الحياة أن تنسحب بكرامة أسدٍ جريح بإنقاذ ما يمكن إنقاذه . وفي تعاملها الحازم والصارم مع طلبتها لم تكن – في الحقيقة – تريد تحويلهم إلى "فراشات" كما وعدت الراوية الشابة بل إلى "ملائكة" :

(علّمتنا الإقلاع بدلا من القفز ، تتخيّل لنا أنهاراً وهمية تنتظر أن نجتازها . أقواس قزح تريدنا أن نمر تحتها وأنوفنا في الهواء . جعلتنا ننساب من بين ايدينا ، تؤكّد لنا أن الإنزلاق غير المشي) (ص 104) .

كانت تنتصب أمامهم بجذعها ؛ لا يهمها كم تثنيه وتمدّه ، كأن مادة عظامها لا تنتمي للبشر العاديين . تقول :

(الفرنسيون يقولون إن الكمال يعني الموت ، والباليه يهدف إلى الكمال . فتخيّلوا أنفسكم ، وقد وصلتم إلى حدّ الموت بالتدريب ، دون الإستسلام له حتى ينتهي العرض) (ص 105) .

وكلّما تأمّلت ما تذكره الراوية عن سلوك المدرّسة / المدام المستميت في تطويع أجساد طلبتها القليلين وصولاً بهم إلى مستوى الملائكة ، تذكرتُ – تفصيلياً – فيلم "Black Swan" وحركات الراقصة (عندنا كانوا يسمّون المدرّسة "رقّاصة" بعد عودتها من موسكو.. وفرقة الباليه "خِرقة بالِية" !!) بطلته (قامت بدورها الرائعة "هيلاري بورتمان") وهي تنزلق ، بل تطفو على خشبة المسرح .

وقـــفة :

-------

(إنّ جسد الإنسانِ هنا يمارس حريّته باتجاه الفعل المتحرّك ، وهو شكل متفجّر من الحريّة المكبوتة . فإذا ما قارنّا بين حالتنا الرصينة المتثاقلة ، وحالة الراقصة السلسة ، الخفيفة كالفراشة المتوهجة في نار من الموسيقى والحركة تمدّها بطاقة لا ينضب لها معين ، الغارقة بكليّتها في صميم الغبطة ، حيث كل انواع الضجر والخجل والتفاهات ومقوّمات الوجود الرتيب يطهرها ويلتهمها هذا اللهيب المقدّس ، العارضة علينا في وميض خاطف ما تتمتّع به إنسانة فانية من عنصر إلهي ، لو فعلنا ذلك لتبدّت لنا حاجاتنا وما يتولّد عنها من أعمال غاية في الفظاظة والإبتذال . وإذا أفرغنا نفسنا مما نحيطها به عادة من ضلالات ، وأخطاء ، واذا جردنا الوجود من الإضافات الزائفة ، التي نلصقها عليه زوراً وبهتاناً ، لظهرت لنا الحياة البشرية كما هي : الماضي ركام من الرماد ، المستقبل كومة من الجليد ، ولتعرّت النفس بشكلها المحدود الفارغ : قطعة فجّة من الديمومة تميع وتتباطأ إلى اقصى درجة ، وحينها يفتك بنا سمٌّ زعاف اسمه الضجر . لكن أمضى سلاح ضد السأم هو السكر بخمرة الأفعال ، وخاصة تلك التي تضع جسدنا في حالة حركة ، وهي أبعد ما تكون عن دوامة التعاسة التي يأسن فيها الإنسان الجامد المفكّر . حينما يثمل البدن من كثرة تغيّراته ، يكفّ عن الوجود ، يدوس الواقع تحت قدميه ويهفو إلى خاصيات الروح ، التي تملك شاغلاً دائماً ووحيداً : الغياب . ما كان ولم يعد كائناً الآن . ما سيكون ولم يصبح كائناً بعد . وليس أبداً أبداً ما هو كائن بالفعل . حينما يتوق البدن للخروج من ذاته كي يصبح غيرها هو ، متعالياً فوق شروطه ، متجاوزاً المحدودية والنسبية إلى الشمولية والمطلق ، متسامياً نحو مجد خارق للطبيعة . وبما أنه واقع ، بما أنه كائن ، بما أنه مادة ، فإن أجزاءه تتناثر شظايا بفعل الحركة ، خلا بعض التماعات نادرة ، وومضات خاطفة كتلك التي نبلغها بواسطة الرقص ، الذي يتمخض بكل خلجة منه عن حدث ما ...

الرقص هو الخلود اللامعقول . ولاحظ كيف تصبح الراقصة بخطوة واحدة إلاهة ونحن كذلك . تغرق في صميم الحاضر الأبدي ونحن معها . تتحرّك وتمنحنا الإحساس بالسكون . تبدع الطرافة وتدخل عالم الفرادة والمستحيل ، ماحية بأقدامها الرشيقة عن الأرض كل تعب وعناء ، مرتفعة فوق الأشياء والعالم نحو كوكب غريب ، وبعيد . مدوزنة زمان الأرض البطىء على إيقاع خطواتها السريع . مستخرجة بأطراف أصابعها مادةً للذة من دقائقه الضائعة ، الشائخة ، المتقادمة ، التي تعيد لها شبابها ، ونضارتها ، تخدعها وتبلغ المستحيل على مرأى منها . إذ ذاك تكشف لنا عن رؤية فريدة : الخلود وسط التحوّل . فليس أحبّ إلى النفس من الحدث الجديد . لذلك ننتظر حابسين أنفاسنا بشوق وعطف البرهة الثمينة المرهفة التي ستغيّر فيها الراقصة من حركتها السابقة إلى التالية .

الرقص إذن يدمّر الوقت بما أنه بكل إيماءة منه رعشة بكر لن تتكرر مرة أخرى ، ويهبنا جوهرة غالية : اللحظة . التي هي مصدر وحي وإلهام مع أنها موشكة على الأفول ، تبدع الجمال الذي يجعلها بدوره مرئية أمام ناظرنا ، ويخيل إلينا أثناءها أن هناك شيئا سيتحطم في نفوسنا ، في الصالة ، في جو الإنتظار الذي يخيّم علينا . ومع ذلك فإن هذه الهنيهة العذبة ، الفذّة ، هي لحظة تشدنا إلى نفوسنا ، إلى الآخرين ، إلى الكون . فكل ما يمر من حالة البطء والجمود إلى حالة الخفّة والحركة يقودنا إلى لحظة الأبدية بالذات وما تحتوي عليه من جنون وفرح ودهشة خارقة ، وما تحمله إلينا من إحساس بالخلود ، ومهرب من كلّ أبواب الحياة ، وملجأ خارج العالم نحتمي فيه من ضراوة الواقع . هناك تصبح المعرفة اليقينية ممكنة ، ويزايل روح الشك العقل ، الذي تشع أمامه أنوار فكريّة ، لم يكن يحلم بها من قبل ، بإمكانية استجلائها بمجهوده الفردي . وهناك تزول من وجهنا كل الصعوبات التي كانت تعترضنا من قبل ولا يعود ثمة مشكلة واحدة تشغل بالنا . بل تكشف كنزاً كان مخبأً في أعماقنا ، حيث تتفجر قوى خارقة لم نكن نعلم أنها كامنة فينا . عيد من الضوء والفرح يتراءى لنا فيه كل مشهد أبهى ، أكثر خفة وحيوية وقوة ، يكون كل احتمال ممكنا بطريقة مختلفة ، وكل حدث يمكن أن يبدأ من جديد إلى ما لا نهاية . حتى لنتوهم أننا ندخل إلى عالم آخر حيث نتحد ونتجانس مع الجميع ، ففي حضرة الجمال كل الناس شركاء , إنه يتيح لنا أن نعيش جوهر الحب ، لا تلك العاطفة المعينة المتعلقة بشخص محدّد . لا ذاك الهوى الجزئي المختلف عند فرد منه عند فرد آخر ، بل تلك المحبة الشاملة الطاهرة ، التي تملك طابعاً مشتركاً بين كافة الفرقاء وتهدم الحيطان القائمة بينهم ، وتؤاخي بين البشر) (5).

عـــودة :

-------- 

لكن ، وبالمقابل ، كانت غيلان الخراب تلاحق أعضاء المجموعة الصغيرة الشابة تبغي الفتك بأرواحهم المعاندة والقضاء على إرادة الحياة فيهم . كانت المجموعة تتكوّن من ستة أفراد فقط .. شابّان : أحمد وفاروق ، وأربع فتيات : سارّة وأختاها التوأمان ، والراوية . كان الجميع يكتوون بنيران الحرب ، وتهدّدهم مخالب المُثكل ، لكن الشباب – ولأسباب معروفة – كانوا أكثر عرضة لنهشها . فوق الخراب الذي طال المدرسة التي هي ملاذهم المهني والحياتي والجماعة الثانوية التي تُشعرهم بالإنتماء ، فإن حياتهم نفسها صارت مهدّدة باشكال شتى . الإنسان هو حيوان يحلم .. وأحلام الجميع كانت عرضة للعواصف والتمزّق . كانت المدام تشكرهم على تمسّكهم بالحلم معها ، فلولا حضورهم لن تتمكن من إنقاذ ما يمكن إنقاذه كما كانت تقول لهم ، فيعقّب فاروق عليها :

-        هذا إذا لم تُستدعَ مواليدنا للإلتحاق بالخدمة العسكرية ..

كانت فكرة الجبهة ترعبه . قرّر أن يبقى في الفرقة عسى أن يُعفى من الحدمة العسكرية باعتبار أنه سيخدم المسرح بعد تخرّجه (ص 101) . أحمد كان يحضر متأخراً عن مواعيد التدريب دائماً فقد حوّل سيارته الخاصة إلى سيارة تاكسي لتأمين سبل العيش . وفاروق يتأخر أيضا لوقوفه في طابور شراء البيض طويلا .

ويمكننا القول إنّ روعة الكاتب ورقيّ مهاراته السرديّة تتمثل بالقدر الذي يعفي به الناقد من استطالات التفسير في وقائع الحكاية العامة مثل واقعة الحرب وانعكاساتها على حياة المجموعة الصغيرة وما تثيره في حياتهم من تناقضات ومخاوف . أحيانا يتم ذلك بكلمات بسيطة أو بأسطر مُختصرة . تصف الراوية أحوال المجتمع المتقلّبة والمضطربة المحيطة بالمجموعة عبر ما يقوم به زميلها أحمد :

(منذ أن عمل أحمد صاحب سيارة أجرة كان يجلب معه أخبارنا المحلية . أسعار الطماطم . عمليات التحرير . احتفالات النصر . نتائج القصف المعادي . آخر إصدارات مديرية الجوازات . فعاليات وزارة الثقافة والإعلام . آخر الكتب المترجمة . تصدير إيرانيين واستيراد مصريين . آخر نكتة من مجلة "ألف باء" . ومرّة جاءنا بشطايا من الصاروخ الأخير) (ص 104 و105) .  أمّا الراوية فعلى الرغم من أنها قد وجدت متسّعاً لإطلاق حفزاتها العدوانية متمظهرة في صورة وصف طويل منفّر لسارة وشقيقتيها التوأمين (ص 107) إلّا أن مخاوفها وقلقها جاءت – وهذا ما تحدثنا عن خطورته وصعوبة كشفه – "منضبطة" ومعقلنة .. تشعر كأنها "تسرد" عواطفها وانفعالاتها الموجعة ، ولا "تعيشها" ، وبهدوء "تنقل" إلينا مشاعرها التي استثارها حضور فاروق و"سمرته" وخصاله الخشنة ، والتداعيات التي تأخذها إلى البعيد حيث الأطياف الترابية الأثيرة والمحببة وندبها الحسّاسة التي خلّفتها في روحها :

(خشونة فاروق المتداخلة بسمرته المالحة ، تأتي لي ، دون استئذان ، بطيف ترابي ، تسبح ظلاله نحوي من درب بعيد لأهالي بيوت الطين . حدّثني في الإستراحة عن عشيرته التي تقطن الأراضي الزراعية قرب جسر ديالى .. أدركتُ في سرّي نوع الصداقة التي تنتظرنا) (ص 109) .

 

إقرأ المزيد في :

صفحة الكاتب والناقد العراقي

د. حسين سرمك حسن

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4]  | أرشيف المقالات  |  دراسات  |  عمال ونقابات |  فنون وآداب |  كاريكاتير  |  المرأة |  الأطفال | إتصل بنا       

      

لا

للأحتلال

لا

لأقتصاد السوق

لا

لتقسيم العراق

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة

من الكتاب والصحفيين العراقيين   

 

                                                                  

                                                                          

  

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org               الصفحة الرئيسية - 1 -