<%@ Language=JavaScript %> د. حسين سرمك حسن علي الوردي : (7) الصراع النفسي والإزدواجية والدور المُمرض لوعّاظ السلاطين

 

 

علي الوردي : (7)

 

الصراع النفسي والإزدواجية والدور المُمرض لوعّاظ السلاطين

 

 

د. حسين سرمك حسن

 

وحين يقول علي الوردي فاضحاً تحالف الوعّاظ مع الطغاة :

( إني أريد من كتابي هذا (يقصد كتابه "وعّاظ السلاطين) أن ألفت الأنظار إلى خطر هذا الطراز الخبيث من التفكير . فهو تفكير نما في أحضان الطغاة ، وترعرع على فضلات موائدهم . وقد آن الأوان لكي نتبع اليوم طرازا آخر من التفكير ؛ هو تفكير البقّال والحمّال ، وتفكير البائس والفقير . إن أكثر مفكرينا اليوم يتبعون ، كما قلنا سابقا ، ذلك الأسلوب الذي يصفق للظالم ، ويبصق في وجه المظلوم . لقد آن لنا أن ندرس الطبيعة البشرية ، كما هي في الواقع ، فلا نعزو لها طبيعة ملائكية هي منها براء ) (41) ..

فإننا نقف الآن أمام صياغة ماكرة ، مفعمة بالحماسة ، الأمر الذي يؤدي بنا إلى الإيمان بأن ما نضمره ، يخالف ما نعلنه ، وأن هذا السبيل هو المنفذ الحقيقي الوحيد الذي يكشف الوردي من خلاله آثامنا وتسوياتنا التي لا تُقاس بأي مقدار . وإن المدخل المركزي الذي لا يمكن تأمين تفهّم هذه المعطيات المعقدة بدونه ، يستند إلى معارف نظرية وعملية ذاتية ، تنسج الوشائج الخيطية مع المعطيات الموضوعية ، فتقدم نسيجا مركّبا ، ولكن ملتحم البنية شكلا ومضمونا . وهذا النسيج يشد مكوناته الأساسية محورٌ أساس هو محاولة فهم الطبيعة البشرية ، التي أتاحت معارف الوردي النظرية المرتبطة بالحياة ، والبعيدة عن أفكار الأبراج العاجية كما يحب أن يصفها ؛ والتي شجب ، وبشدة ، سلوك المتمسكين بها من مفكرين وكتاب وأساتذة جامعات في أول مؤلفاته : ( خوارق اللاشعور ) ، وتجربته الحياتية العملية ، أن يكون قادرا على فك شفراتها ، وفهم طبيعتها الملتبسة التي أساء إليها الواعظون من خلال تبسيطها الساذج ، وما أسسوه في الحياة الاجتماعية من منهج ( كلامي ) وعظي يظنون أنه كاف لتغيير طبيعة الإنسان . ولهذا جاءت دعوة الوردي على النقيض تماما من دعواتهم :

( الطبيعة البشرية هي التي لا تتغير ، سواء أكانت في القصر الفخم أم في الكوخ الحقير . وكل إنسان يركض وراء ذاته ويود إعلاء شأنها . وليس من المجدي أن ننسب الأنانية والحسد للبقّال أو الحمّال أو النجّار وحدهم ثم ننسى ذلك النمط الغريب من التحاسد والتكالب الذي يتعاطاه أبناء القصور . والمؤسف أن نرى الفقير لا يستطيع أن يدافع عن نفسه . فهو أناني كغيره من الناس ، ولكنه يتحمل عبء الأنانية التي يتهمه بها الواعظون . وتجد المترفين والأغنياء يتكالبون ويتحاسدون ، كما يفعل الفقراء تماما . ولكنهم يطلون أفعالهم بطلاء برّاق من الدعاوى الرنانة ، والتظاهر بخدمة المصلحة العامة ، ثم يأتي الواعظون من ورائهم يؤيدون ما يقولون ) (42) .

وحين نتأمل هذه المقدمة جيدا – ونحن مازلنا في مراجعة مقدمة كتاب وعاظ السلاطين – سنجد أن بناءها يقوم على التركيب المقطعي ذي الشحنات الإنفعالية الموجيّة – نسبة إلى الموجة - وتكاد تكون هذه سمة أسلوبية أساسية في مؤلفات الوردي الأولى – حيث تتكون من مقاطع متلاحقة تبدأ بنبرة انتقادية ، حادة وهجومية ، تتصاعد حدّتها بسرعة لتصل الذروة ثم تبدأ بالتراجع والهدوء ، ولكن قبل أن تستقر تتلقفها موجة مقطعية جديدة ، تبدأ على الأغلب بحرف التوكيد ( إن ... ) . وأغلب هذه المقاطع الهجومية تتناوب في تناول حركة الفكر الوعظي الطبقية في اتجاهها الصاعد الذي يهدف إلى تدعيم سلطة المُترفين وإحكام قبضتهم الخانقة على رقاب المسحوقين وتلاعبهم بمقدرات ( الصعاليك ) كما يسميهم الوردي ، ويقصد بهم أبناء الطبقات الكادحة ، وفي اتجاهها النازل على رؤوس القطاعات الشعبية المُذلَّة التي تكفّلت تجاربها العملية المريرة بأن تكشف لها ألغاز النفس البشرية التي يحاول الواعظون طلاءها والتلاعب المزدوج بها لأغراض الطغاة الدنيوية . وهذا هو حال الموجة المقطعية الأخيرة التي يختم بها ( المقدمة ) حيث يقول :

( إن المدلّلين والمترفين لا يرضون عن هذا الكتاب طبعا . فهو يعطيهم عن طبيعة الإنسان صورة مخالفة لما اعتادوه وألفوه . إن المُدلل المُترف قد اعتاد أن يرى الناس حوله وهم مغتبطون به يتزلّفون إليه . فهو يظن أن الإنسان يطلب الخير لطبيعته ، ويذوب شوقا في خدمة الحق والحقيقة . وهذا الظن قد جاءه لكونه لم يلق من الناس مهانة أو اعتداء إلا نادرا . أما أبناء الصعاليك من أمثالي ، فهم يمرّون في حياتهم بتجارب قاسية تكشف لهم عن حقيقة الناس من غير برقع أو طلاء ) (43) .

وبعد هذه المقدمة التي أوجز فيها الوردي هدفيه المركزيين ، والأهداف الثانوية المتفرعة منهما ، يأتي متن الكتاب ويقع في إثني عشر فصلا هي :

الفصل الأول : الوعظ والصراع النفسي .

الفصل الثاني : الوعظ وازدواج الشخصية .

الفصل الثالث : الوعظ وإصلاح المجتمع .

الفصل الرابع : مشكلة السلف الصالح .

الفصل الخامس : عبد الله بن سبأ .

الفصل السادس : قريش .

الفصل السابع : قريش والشعر .

الفصل الثامن : عمار بن ياسر .

الفصل التاسع : علي بن أبي طاب .

الفصل العاشر : طبيعة الشهيد .

الفصل الحادي عشر : قضية الشيعة والسنة .

الفصل الثاني عشر : عبرة التاريخ ، والذي ينتهي عند الصفحة (263 ) من الكتاب . وحين قمتُ بعدّ الفصول وعناوينها ، فلكي أبين الهيكلية التي اتبعها الوردي في تحقيق هدفيه – أو هدفه المزدوج – الأساسيين : شرح أبعاد الطبيعة البشرية من ناحية ، وتطبيق هذا الفهم الجديد على التاريخ الإسلامي والفكر الإسلامي من خلال إعادة قراءتهما التحليلية من ناحية أخرى . ولعل المتن النظري الذي يتزاوج مع التطبيق العملي هو الذي أضفى على كتاب الوردي صفة حيوية وجاذبة وشديدة الإثارة لأنها تمزّق الأستار عن مسكوت عنه تراكم عليه صدأ الوعظ لمئات السنين . ولم تكن المحاولات التي قام بها من سبق الوردي من رواد التفكير النهضوي ( الأفغاني ومحمد عبدة والكواكبي ) أو الجيل الذي تلاهم ( علي عبد الرازق وطه حسين وغيرهما ) إلا محاولات تمهيدية محسوبة التقرّب ومرسومة البناء الاسلوبي ، وكلاهما متردّد نسبيا . كما أن ذكري للفصول الإثنى عشر وعناوينها ، تبغي الإشارة إلى أن الوردي قد عالج موضوعة الصراع المدمر الذي شهده الإسلام بين الطغاة والثوار من أجل الاشتراكية كما يرى ذلك علي الوردي والتي تأتي صياغتها لاحقا في صورة الصراع بين اليمين واليسار ، أو بين البرجوازيين والكادحين ، أو أصحاب رأس المال والمعدمين ، أو ... إلخ من التعبيرات الحديثة .

ولو راجعنا عناوين الفصول الإثنى عشر من جديد لوجدنا أن الوردي قد عالج حقبة هائلة من التاريخ الإسلامي بدءا من الجاهلية ( دراسة وضع قريش والتركيبة القبلية في مكة والجزيرة قبل الإسلام ) ، ثم مشكلات الخلافة والثورة في عهد الخليفة عثمان بن عفان ، ثم الصراع بين الإمام علي ومعاوية ، واستشهاد الإمام علي وابنه الحسين من بعده ، وانتقال السلطة إلى العباسيين ، وأخيرا ، وهو الموقف الفذ الذي لا يقل أهمية عن المواقف السابقة ، والذي يتمثل في وصل الماضي بالحاضر . فلا نجد رائدا من رواد فكر النهضة ولا ممن أعقبوهم ، يقوم بتحليل وقائع الماضي الإسلامي ويفكّكه ويبين مساوئه الجسيمة ، ثم ينتقل للهجوم على الواقع الحاضر مبينا أن لا عبرة ناجزة نستقيها من الماضي لننهض بها الحاضر . لأن الحاضر لا يقل سوءا عن الماضي إن لم يكن أسوأ منه . إن العبرة التي نستقيها من الماضي لن تفيدنا في حاضرنا لأن معطيات الحياة قد تغيّرت كليا .

في الفصل الأول : الوعظ والصراع النفسي ، يتناول الوردي ، وبإسهاب يسم كل أطروحاته التي تضمنتها فصول الكتاب جميعها ، الكيفية التي يبذر فيها المنهج الوعظي بذرة الصراع النفسي المؤرّق في نفوس المتلقين . وهو في تحليله يطرح الفرضية النظرية أولا ، ثم تطبيقاتها العملية من التاريخ الإسلامي ، منتقلا بها إلى العصر الحديث فالمعاصر الذي يعيشه هو ذاته . وهذا هو روح المنهج العلمي البحثي . فبالنسبة إلى علاقة الوعظ بنشوء معضلة الصراع النفسي ، يفترض الوردي أن الوعظ ذو ضرر بليغ في تكوين الشخصية البشرية إذا كان ينشد أهدافا معاكسة لقيم العرف الاجتماعي :

( فإذا ذهب الإنسان إلى المسجد أو إلى المدرسة ، وأخذ يسمع واعظا افلاطونيا يحضه على ترك الدنيا ، مثلا ، أدى ذلك إلى تكوين أزمة نفسية فيه . فهو يحب الدنيا من أعماق قلبه ويود الإغتراف من مناهلها بكلتا يديه . وهذا دأب الإنسان مهما كانت صلابته ، ولا يُستثنى من ذلك إلا الشاذ النادر . والشاذ لا يُقاس كما يقول المناطقة . والإنسان حين يسمع الواعظ يعظه بترك هذه الدنيا الخلابة ، يمسي حائرا . فضميره يأمره بإطاعة الواعظ من ناحية ، ونفسه تجذبه من الناحية الثانية نحو الدنيا ولا يستطيع أن يترك الجنة التي وُعد بها المتّقون ) (44)  .

من هذه المقدّمة النظرية – الفرضية التي تتناول جانبا أساسيا من جوانب الطبيعة البشرية ، وهو الجانب الغريزي الضاغط ، الذي يتطلب الإشباع الفوري ، ولا يتحمل التأجيل تحت أي مبرر ، حتى لو كان ذلك استجابة لحكم الواعظين وتوجيهاتهم القاطعة التي لو استجاب لها ، وهذا ما سيحصل لأن هؤلاء الواعظين هم الجهات التربوية المرجعية الرادعة في المجتمع ، فإنه سيعاني من الصراع النفسي بين غرائزه ودوافعه الدنيوية التي يضمرها من ناحية ، وبين التعليمات الوعظية الشكلية التي عليه أن يختزنها كجزء من ( أنا أعلى ) زائف لكنه حاكم من ناحية ثانية ؛ أقول من هذه المقدمة النظرية – الفرضية ، ينتقل الوردي لتقديم حالة تطبيقية من التاريخ الإسلامي ، وتتعلق بمأساة استشهاد الإمام الحسين (ع) :

( يُحكى أن عمر بن سعد بن أبي وقاص وقع ذات يوم في مثل هذا المأزق الحرج . فهو قد وعده  ابن زياد بإمارة الري إن خرج لقتال الحسين . فانتابه آنذاك الوسواس وبلغ منه التردد مبلغا عظيما : أيرفض قتال الحسين وفي ذلك خسارة للإمارة ، أم يذهب لقتاله وفي ذلك ما فيه من وخز الضمير وسوء المنقلب ؟ ويُروى أنه كان حينذاك على فراشه ويُنشد البيت التالي :

أأترك ملك الرِّي والرِّي مُنيتي  - أم آرجعُ مأثوماً بقتل حسين  ) (45) .

ثم ينتقل الى "سجموند فرويد" ومكتشفاته الخطيرة ، وبذلك يكون الوردي رياديا وسابقا كلّ الكتاب العرب الذين حاولوا تحليل التاريخ الإسلامي وفق أطروحات التحليل النفسي – الفرويدية خصوصا - . ويبدأ بطرح جانب من أفكار فرويد الصادمة آنذاك حول الصراع النفسي فيبين أن فرويد استطاع أن يرجع كثيرا من ظواهر الحمق والهستيريا وارتباك الأعصاب إلى التصادم الذي يحدث في داخل النفس بين مباديء الإنسان الخلقية وما يهفو إليه فؤاده من شهوات جنسية عارمة :

( إن المرضى الذين عالجهم فرويد كان أغلبهم من النساء . وقد وجد فرويد أن سبب ذلك يعود إلى أن المرأة كانت في ذلك الحين واقعة بين دافعين متعاكسين ؛ فهي كانت تؤمن أن الرغبة إثم كبير ، بينما كانت ، من الجهة الأخرى ، مندفعة نحو إشباع تلك الرغبة اندفاعا لاشعوريا عنيفا ) (46) .

وتأسيسا على فرضية الصراع النفسي هذه والتي بدأها بحالة ( عمر بن سعد بن أبي وقاص ) ، يرى الوردي أن المرحلة التاريخية التي قُتل فيها الحسين كانت خير مثل على المرحلة التي يستولي عليها الصراع النفسي على شخصيات البشر . فهناك الكثير من المصادر التاريخية التي تشير بشكل لا يقبل اللبس إلى أن كثيرا من الذين خرجوا لقتال الحسين كانوا يعانون من الصراع النفسي – صراع الإقدام والإحجام ؛ الإقدام بفعل مغريات الدنيا والطموحات الفردية نحو المال والجاه ، والإحجام بفعل ضغوط المباديء العليا . وهؤلاء ظلوا حتى في المعارك يقدّمون رجلا ويؤخرون أخرى كما يقول الوردي الذي يرى أيضا أن مثل هذا الصراع النفسي لم يكن معهودا من قبل المسلمين قبلذاك إلّا في معركة الجمل ، لأنهم كانوا في معارك الفتوح يقاتلون أعداءهم ، وكل واحد منهم كان مؤمنا بأنه يحارب أعداء الله . فإذا حصل أحدهم في أثناء ذلك على إمارة أو غنيمة فإنها تأتي مطابقة لرغبته وضميره في الوقت نفسه ، ولا ينبني على هذا أي إحساس بالإثم أو الصراع :

( أما في مأساة الحسين فقد كان الأمر على خلاف هذا ، إذ أن قتلة الحسين كانوا كما وصفهم الفرزدق : " قلوبهم مع الحسين وسيوفهم عليه " . وفي ذلك ما فيه من نزاع نفسي مرير . شوهد أحدهم في أثناء المعركة يرتعد ويرتجف ، وقد كان معروفا بالشجاعة وشدة البأس ، فسُئل عن ذلك فأجاب بأنه يرتعد من الحيرة لا من الخوف . وقد التحق أخيرا بمعسكر الحسين وقُتل معه ) (47)  .

 

10.12.2014

 

 

صفحة الكاتب والناقد العراقي

د. حسين سرمك حسن

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4]  | أرشيف المقالات  |  دراسات  |  عمال ونقابات |  فنون وآداب |  كاريكاتير  |  المرأة |  الأطفال | إتصل بنا       

      

لا

للأحتلال

لا

لأقتصاد السوق

لا

لتقسيم العراق

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة

من الكتاب والصحفيين العراقيين   

 

                                                                  

                                                                             

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org               الصفحة الرئيسية - 1 -