<%@ Language=JavaScript %>    د. حسين سرمك حسن محبرة الخليقة (17) تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع الكبير "جوزف حرب"

 

  

محبرة الخليقة (17)

 

تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع الكبير "جوزف حرب"

 

 

 د. حسين سرمك حسن

 بغداد المحروسة

 2012 – 2013

 

ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً . 

كان "طاغور" يقول : "إنّ هذا العالم الواسع ، بما هو إبداع وتعبير عن اللانهائي حين يتهلّل نهاره من الفرح أمام الحياة المستيقظة حديثاً ، وتغني نجومه للسائر المُتعب والمُضنى ، يبصر الحياة في قيامة من خلال الموت .. لا ينفكّ ينادينا . لقد ايقظ نداؤه دائماً المبدع في الإنسان ، ملحّاً عليه أن يكشف الحقيقة واللانهائي فيه هو نفسه . وهو لا ينفكّ يطلب إلينا التعاضد مع الله من خلال إبداعاتنا الذاتية ، مذكّراً إيانا بأصلنا الإلهي الذي يهتدي إلى طريقه في حرقة الروح" (26) .

وعلى هذا التعاضد بين الله والإنسان الشاعر طرق جوزف في النصوص السابقة إلى أن وضع الله المُتعب يده في يده ، ولكنّه كان يدرك في عمق أعماقه أنه في حيرة دائمة برغم كلّ محاولاته المستميتة لكشف لغز هذا الوجود الذي أُصيب بروعة حسنه وسرّه وسبكه . ولهذا يشعر الآن بأن لزاماً عليه أن يتصافق مع اشتراطات وجوده التي تعيّن له حدوده القصوى من المعرفة التي إذا بلغها فإنه بالغُ الموت ، ممهدّاً لذلك باقتراف خطيئة السقوط من الفردوس التي اختار طريق الشك والإلحاح على الكشف طريقاً للوصول إليها . وليس يسيراً أن يكون هو الوحيد الذي يستعيرُ ويكنّي ويُشبّه .. لقد كان النقّاد العرب يخشون الإستعارة ويخافون التشبيه .. كانوا يريدون الخيال الشعري مقيّداً بقواعد العقل ومعايير الفهم الثاقب ومحافظاً على علاقات الواقع الخارجي وتناسب أجزائه ، ويرفضون الجنوح في التعبير الإستعاري ، ويستهجنون البعد في الإستعارة ، ويستنكفون أن تُبنى استعارة على أخرى ، خاصة إذا أدّى هذا البناء إلى الغموض والخلط بين حدود الأشياء والمسميّات .. وتصوّر ناقداً عربيّاً قديماً فذّاً مثل عبد القاهر – وبحكم شافعيته الأشعرية – يخشى التشبيه الذي يخلق خلقاً في الشعر لأنه ينظر إلى فكرة الخلق والإيجاد من العدم في الشعر بشيء غير قليل من الريبة .. لذا فهو يرى أن ما يقوم به الشاعر من إيجاد الإئتلاف بين المختلفات ، يمكن أن يكون كشفاً ، ولكنه لا يمكن أن يكون اختراعاً أو خلقاً بالمعنى المعاصر للكلمة ... فالعلاقات بين الأشياء موجودة منذ الأزل ، والتشابه بين المختلفات ثابت وقديم ، وكلّ ما يصنعه الشاعر البارع أنه يزيح حجاب الإلفة والعادة عن الخفيّ ، عندما يتغلغل بفكره أبعد من غيره وعندما يطرح النظرة المجملة ويلح على التفصيل . الشاعر – في هذه الحالة – اشبه بالغائص على الدرّ يكدّ نفسه ويتعبها حتى يصل إلى المخبوء والمُحتجب ، ولكن الدر كان موجوداً في أصدافه .. يقول عبد القاهر "ولم أرد بقولي إن الحذق في إيجاد الائتلاف بين المختلفات في الأجناس أنك تقدر أن تُحدث هناك مشابهة ليس لها أصل في العقل ، وإنما المعنى أن هناك مشابهات خفية يدقّ المسلك إليها ، فإذا تغلغل فكرك فأدركها فقد استحققتَ الفضل ، ولذلك يُشبّه المدقق في المعاني بالغائص على الدرّ . ووزان ذلك أن القطع التي يجيء من مجموعها صورة الشنف والخاتم أو غيرهما من الصور المركبة من أجزاء مختلفة الشكل لو لم يكن بينها تناسب .. لم يكن ليحصل لك من تأليفها الصورة المفصودة . ألا ترى أنك لو جئتَ بأجزاء مخالفة لها في الشكل ، ثم أردتها على أن تصير إلى الصورة التي كانت من تلك الأول ، طلبت ما يستحيل ، فإنما استحققت الأجرة على الغوص وإخراج الدر لا أن الدر كان بك ، واكتسى شرفه من جهتك ، ولكن لما كان الوصول إليه صعباً وطلبه عسيراً ثم رُزقت ذلك ، وجب أن يجزل لك ويكبر صنيعك . ألا ترى أن التشبيه الصريح إذا وقع بين شيئين متباعدين في الجنس ثم لطف وحسن لم يكن ذلك اللطف وذلك الحسن إلا لاتفاق كان ثابتاً بين المشبه والمشبّه به من الجهة التي بها شبهتَ ، إلاّ أنه كان خفيّاً لا ينجلي إلا بعد التأنق في استحضار الصور وتذكّرها ، وعرض بعضها على بعض والتقاط النكتة المقصودة منها وتجريدها من سائر ما يتصل بها ) (27) .

وقل مثل ذلك عن الموقف الخائف من تشبيهات الشاعر واستعاراته لدى سلسلة من النقاد العرب القدماء مثل الرماني والحاتمي والعسكري وابن سنان وثعلب وابن المعتز .. وحتى الجاحظ الذي هو رائد من روّاد الحداثة العربية .

فإذا كان هؤلاء النقّاد يستهجنون استعارات أو تشبيهات شعرية أو يتقبلونها على مضض  مثل قول أبي ذؤيب :

وإذا المنيّة أنشبت أطفارها    ألفيتَ كلّ تميمةٍ لا تنفعُ

إذ جعل المنيّة وحشاً ذا أظفار ، فما الذي سيقولونه عن جوزف حرب وهو يصف بزوغ السيّد القمر :

(أطلّ مهيباً ، كأنّ الغمامَ تلاميذهُ

خلفهُ ، يرتدونَ هفافاً طويلاً ، ويمشونَ إثرَ

نبيٍّ

       من الأنبياء . – ص 80) .

أو حين جعل لله يداً مدّها لحليفه الشاعر :

(         أذاكرٌ في البدء ربّي

                       أحدَكْ ؟

          نظرتَ ربّي متعباً ،

وقلتَ لي :

                   هاتِ يدكْ . – ص 58) .

إنّ امتيازات الشاعر "العاقل" هذه ، وقبلها ، ما حقّقه من تسيّد على عرش الخليقة ، وما حققته له تلك الإمتيازات من انتفاخ نرجسي هائل ، لم تمنعه ، وهو يُصاب بروعة ما في هذا الكون من حسن وسرّ وتعقيد وسبك ، وتبهره تلك الدقّة الأبدية في صنع ما لا يُعدّ ولا يُحصى ، وتأخذ بتلابيب وعيه حقيقة أن كاتب هذي النصوص قد صوّر فيها "البِدعُ فوق جميع البدائع" ، لم تمنعه من أن يعترف في حضرة الله هذا الإعتراف المدوّي :

(................    ولْأعترفْ

          بأنّ طريقي طريق ضعيفٍ ليقوى ،

وأعمى ليدري ،

وأدنى ليسمو ،

                  وعبدٍ

                  ليغدوَ حرّاً ،

                  وبيتٍ مليءٍ خطايا ،

       ليُصبحَ

                  بيتاً نقيْ 

                 وما حلميْ غيرَ أنيَ أرقى

         عليّ ، وأمضي مَشوقاً

                إلى المطلقِ 

                لكي

                نلتقي . – ص 117 و118 ) .

ومن الناحية الفنّية الإخراجية ستلاحظ أنّ الشاعر لم يضع نقاطاً ولا فواصل بين الأسطر بعد جملة (ليصبح بيتاً نقي) ، ووضع نقطة في ختام جملة (لكي نلتقي) التي أنهى بها النص ، في حين أنه وضعها بعد كل الجمل والأسطر السابقة حسبما تفرضه طبيعة الجمل وعلاقاتها ، بل في كل نصوصه السابقة ، فهو من الشعراء المفرطي الدقّة قي رسم الجمل وتحديد مواقع علامات التنقيط . وأعتقد أنه أراد أن يحقق إنسجام رسم جمل النص المفتوحة بلا نقاط أو فواصل لتتلاءم مع مناخ السعي المتشوّق للإلتحام بالمطلق وتأثيراته النفسية اللامحدودة .  

 وعودة الشاعر في هذا الختام هي عودة لا تتعارض مع الهيمان الشعري ، ولا مع تخييله المجنّح ، فهو من طرق تحقيق الذات والرقيّ عليها ، والتحرّر من عبودية بيت الآثام الغريزي . وهو السبيل العصامي الذي يشقّ به الشاعر درب التسامي ، بعذابات متصوّف ، مجاهداً ضد ذاته أولاً ، كابحاً تعطشاتها الرغبية المعوّقة ، وباحثا عن الله في أعماق طبقات الوجود وأدقّ أسراره ، واثباً أبداً نحو الأعالي ، كذئب سقط في حفرة ، فهو يثب أبدا ، نحو اللانهائي .. نحو النقاء والصفاء والتحرّر ، واللقاء بالمطلق ، وتحقيق الإلتحام به ، لكن في سرّ ذاته ، في تخفّفها وانعتاقها حيث يصبح الإنسان إلهاً على عرش روحه .

ومن هنا يبدا الشاعر تنفيذ التعهّد الذي قطعه لله على ذاته (أن يكتشف ، وأن يرقى على ذاته للقاء المطلق) . وأوّل خطوات مسيرة ألف ميل الإكتشاف ستبدأ بمراجعة الأصول ، أصول ما تسلّمه الشاعر من قصّة خلق سُطّرت في ديوان "الخلق" على قصائد الغيمات الستّ . فهو يعلم أن هناك "مشابهات" عليه الإلتفات إليها ، وهذا ما يتناوله في قسم "المشابهات" .

 

للمزيد من مقالات الكاتب

 

 

01.12.2014

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4]  | أرشيف المقالات  |  دراسات  |  عمال ونقابات |  فنون وآداب |  كاريكاتير  |  المرأة |  الأطفال | إتصل بنا       

      

لا

للأحتلال

لا

للخصخصة

لا

لتقسيم العراق

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة

من الكتاب والصحفيين العراقيين   

 

                                                                  

                                                                             

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org               الصفحة الرئيسية - 1 -