<%@ Language=JavaScript %> د. حسين سرمك حسن علي الوردي : (4) من آمن بحجرٍ كفاه

 

 

 

علي الوردي : (4)

 

من آمن بحجرٍ كفاه

 

 

د. حسين سرمك حسن

 

في الفصل الخامس من كتابه "خوارق اللاشعور" والذي حمل عنوان "النفس والمادة" ، يطرح الدكتور علي الوردي وجهة نظر مهمة سابقة ، ولكن بصورة أكثر دقة وجرأة حيث يبيّن أن اللاشعور لا يعرف التمييز بين الحق والباطل أو الصواب والخطأ . إن هذا من شأن العقل الظاهر أن يعرفه . فالعقل الباطن هو عقل اليقين والعقيدة . بينما العقل الظاهر هو عقل الشك والبحث والتفلسف . فخوارق اللاشعور إذن لا تدل على صحة العقيدة بقدر ما تدل على قوتها في النفس ) (18) . ويوظّف أطروحته هذه لتقديم فهم واسع الأبعاد للإيمان يمكن أن يلغي الكثير من الحدود الدينية والمذهبية فيقول :

(( يقول النبي محمد : ( من آمن بحجر كفاه ) . وقد أصاب كل الإصابة في قوله هذا . ويعجبني من المتصوفة أنهم أدركوا هذه الحقيقة . فهم يحبون كل الأديان ولا يفرقون بينها ، إذ يعتبرونها طرقا مختلفة للوصول إلى هدف واحد . إنهم يطلبون من الإنسان أن يكون قوي العقيدة وليعتقد ما يشاء . ولقد كان الشيخ محيي الدين بن عربي ، المتصوف المشهور ، يود أن يصلي لربه في كل معبد ، لا فرق عنده بين المسجد أو الكنيسة أو بيت النار ومعبد الأوثان . وكأني به يقول : " نقّ قلبك وصلّي أينما تريد " )) (19) .

ولكن العائق الأساسي أمام انتشار مثل هذا الموقف الصحي من عملية فهم علاقة المخلوق بخالقه ، وكون الأديان مهما اختلفت أشكالها ما هي إلا تعبير عن طرق متعددة لبلوغ غاية واحدة ، هم – كما يقول الوردي – وعاظ السلاطين الذين :

(( لا يوافقون على هذا الرأي ، فهم يتصورون الله كالملك جالسا على العرش وحوله الملائكة ، وهو يأمر بينهم وينهي . إنهم أخذوا هذه الصورة من حياتهم السياسية . فهم ينظرون إلى الله كما ينظرون إلى حاكمهم السياسي ، إذ يحاولون أن يتملقوا ويتزلفوا إليه أو يمدحوه ويبرطلوه . ولهذا السبب نجدهم يهتمون كل الاهتمام بالشعائر والطقوس بدلا من الاهتمام بصفاء القلب وسلامة العمل وخلوص النية )) (20) .

ومن الفقرة الختامية في هذا الفصل يتحول الوردي إلى موقف مغاير تماما رغم أنه نقدي مثل المواقف السابقة ، فلغة الخطاب تصبح هجومية وذات عبارات نارية . ففي نهاية هذا الفصل - وهو يتحدث عن سلوك النبي محمد كأنموذج للقائد العظيم الذي تمتزج في شخصيته قوى الشعور واللاشعور – نجده يقول :

(( فقد كان هذا العبقري النادر حكيما واقعيا بعيد النظر حين يضع الخطط أو يدير المعارك أو يسوس الناس . فإذا توجه نحو ربه نسي نفسه وانغمر في إيمان عجيب تحسبه جنونا وما هو بجنون . ويُروى عنه أنه كان قبيل معركة بدر الكبرى يستشير أصحابه وأهل الخبرة منهم فيعبيء جنده ويعدّ سلاحه كأي قائد بارع من قواد هذه الدنيا . حتى إذا دنت ساعة النضال رفع يديه نحو السماء فذهل عن نفسه وأخذ يدعو ربه دعاءا ملتهبا يكاد يفجر الصخر الأصم . فهو في مرحلة الاستعداد غيره في مرحلة الهجوم ، وهو بذلك قد جمع في جنبيه النقيضين ( يقصد الوردي قوى الشعور وقوى اللاشعور )) (21) .

ولكن الوردي يختم الفصل بعبارة هجومية يستعير فيها وصفا للمسلمين من أبي العلاء المعري حيث يقول :

( أما أتباع محمد فهم ، كما قال المعري : إما عقلاء لا دين لهم ، أو متدينون لا عقل لهم .. ولا حول ولا قوة إلّا بالله ) (22) .

ومن هنا تتصاعد لهجته الهجومية حتى ليصبح ذيل الكتاب أي الخاتمة الثانية التي حملت عنوان : ( كلمة لابد منها ) ، أشبه ببيان ثوري يهاجم فيه جلاوزة العراق والطغاة الظالمين ويدعو المظلومين إلى الثورة ، وهو الأمر الذي سيتكرر في مؤلفاته اللاحقة بصورة أشد حدة وحماسة ، الأمر الذي يجعلنا نعدّ أفكار الوردي واحدة من العوامل التي أنضجت الظروف لحصول التغيير الجذري الذي حصل في الرابع عشر من تموز 1958 كما سنرى ذلك .      

وقفة : حول كتاب "اليمين واليسار في الإسلام"

-----------------------------------------------

وهنا يثور تساؤل مهم حول ما قام به الكاتب المصري ( أحمد عباس صالح ) من مراجعة للتراث الإسلامي وفق منهج مادي قريب من الأطروحات الماركسية والذي ضمه كتابه المعروف : " اليمين واليسار في الإسلام " . إنني لا أشك لحظة واحدة ، ومن خلال مراجعة كتابي الوردي : " وعاظ السلاطين " و " مهزلة العقل البشري " ومقارنة الكشوفات الجريئة التي قدمها الوردي فيهما مع ما قدمه أحمد عباس صالح في كتابه المذكور ، في أن الأخير قد اطلع على أفكار الوردي في هذا المجال ثم قام باختصارها وتنظيمها وفق ترتيب جديد يقوم على مصطلحات اشتراكية مباشرة تتعلق بصراع اليمين واليسار ، وهو أمر لا يشكل امتيازا بحثيا أو فكريا لـصالح ، بل يمكننا القول أن الصياغة اللغوية كانت جديدة كثوب شكلي أصغر لجسد سابق أختصر محتواه وبنيته بدرجة كبيرة ليتحول من مؤلف ضخم وضعه الوردي ويتكون من ( 622 صفحة ) هو مجموع صفحات كتابيه : وعاظ السلاطين – 263 صفحة ، ومهزلة العقل البشري – 359 صفحة ، في حين يقع كتاب أحمد عباس صالح في 170 صفحة . وقد يقول قائل أن من المحتمل أن صالح لم يكن مطلعا على مؤلفي الوردي ، وهو اعتراض وجيه يمكن أن نجيب عليه بأن أطروحات الوردي الجريئة في مراجعة التراث الإسلامي كانت معروفة في مصر بدليل إشادة "سلامة موسى" بها ، حيث نقلت " جريدة الأخبار القاهرية في 19 أيلول 1954 رأيا لسلامة موسى يشيد فيه بالوردي ويقول فيه : العراق يفيق من سبات الشرق إلى يقظة الغرب : فإن الدكتور علي الوردي يمثل في بغداد من المباديء والأهداف والأساليب ما يمثله عندنا "خالد محمد خالد" ، كلاهما يحمل على العادات الذهنية والعاطفية القديمة التي أصبحت باليه ويحاول أن يوضح زيفها وأنها تعارض الحياة العصرية . وبعد مضي أربع سنوات على مقاله هذا كتب سلامة موسى في كتابه : ( التثقيف الذاتي ) الصادر في القاهرة في عام 1958 وفي صفحة 156 يقول : وأحسن ما ننصح به في دراسة الأدب العربي القديم هو كتابان للدكتور علي الوردي ؛ الأول هو " وعاظ السلاطين " ، والثاني هو " أسطورة الأدب الرفيع " ، فإن في هذين الكتابين ما يفتح العقول والعيون على حقائق تواطأ كثيرون على إخفائها ولا يمكن لذلك فهم الأدب العربي بدونها " (23) .

وتهمنا هنا إشارة سلامة موسى إلى كتاب الوردي ( وعاظ السلاطين ) الذي يضم أطروحات أحمد عباس صالح كلها التي طرحها في كتابه ( اليمين واليسار في الإسلام ) . وعندما نركز على كتاب وعاظ السلاطين فليس معنى ذلك أن الوردي لم يطرح في كتابه : " أسطورة الأدب الرفيع " مجموعة من القضايا الأساسية التي تناولها بإسهاب في وعاظ السلاطين ومهزلة العقل البشري ولها علاقة بالصراع الاجتماعي الذي دار في الإسلام وخاصة بعد وفاة الرسول ( ص ) ، ولكنه طرحها بإيجاز هنا بسبب طبيعة الموضوع الذي خصص له الكتاب وهو الأدب . ومن بين تلك الموضوعات : خصائص المجتمع الجاهلي ، قريش والشعر ، أصل قريش ، قريش والكعبة ، فكرة الأشهر الحرم ، قريش والحج والتجارة والسادة والشعراء وغيرها . تقوم الفرضية الأساسية لكتاب صالح على أساس أن المجتمع الإسلامي قد شهد صراعا بين قوى اليمين وقوى اليسار كانت بداياته تعود إلى المجتمع الجاهلي قبيل ظهور الإسلام . ( ولهذا سوف يبدأ البحث بالمجتمع العربي الجاهلي في مكة أساسا ، ثم في بلدان الجزيرة العربية الأخرى ، وعوامل الصراع المختلفة بين طبقات هذا المجتمع على أساس اقتصادي وفكري في نفس الوقت )(24) .

 والكاتب يمنح بحثه امتيازا ينفرد به عن بقية البحوث التي تناولت الدعوة الإسلامية ويتمثل في أنه قد تبدو ( الحقائق التي سيعرضها البحث غريبة شيئا ما على ما تعودنا تلقيه ، ذلك أن بعض المفسرين – بنزعة دينية صرف – تجاهلوا كل ما قبل الإسلام . ولكنا أحوج ما نكون إلى دراسة تفصيلية لندرك الإسلام بجانبه الثوري والديني . وأغلب البحوث – حتى الحديث منها – يرجع أسباب ظهور الدعوة الإسلامية إلى أوضاع جغرافية أو أوضاع اجتماعية أو دينية يوجهها اعتقاد الباحث أنه كلما ابتعدت الدعوة عن محرك اجتماعي أو ديني مباشر كانت أقرب إلى المعجزة . وأنه كلما اختفت مبررات موضوعية لقيام الدعوة ، كان ذلك دليلا على أنها معجزة من معجزات الله . مع أن الدين الإسلامي في جوهره يقوم على المنطق والجدل العقلي والإلزام بالحجة . ولذلك درجت الكتب التقليدية على وصف المجتمع الجاهلي بالتخلف والبدائية ، في حين أن تقدم المجتمع وتراثه وثقافته لا يتنافى مع إعجاز الدعوة ومصدرها الإلهي ) (25) .

 وهو يعتقد أن واجبه هنا يتمثل في إعادة جمع الحقائق عن المجتمع الجاهلي الذي ظهر فيه الإسلام كقوة روحية واجتماعية ، واستخلاص نتائج موضوعية من هذه الحقائق : ( وعندئذ سنكون قد أمسكنا بالخيوط الأساسية التي انطلق منها الإسلام من حيث جانبه الديني وجانبه الاجتماعي ، وسوف نرى أن صراع اليمين واليسار فيه قد أخذ شكلا جديدا . وهي النقطة الهامة في هذا البحث ، لأن هذا الصراع لم يتوقف لحظة واحدة ، ولعلنا سوف نلتقي بالأصول الثورية لثورتنا الحديثة منذ بدء الدعوة حتى الآن ) (26) .

ثم يوسع مبررات دراسته لصراع اليمين واليسار في الإسلام بالقول أن هدفه الأساسي هو البحث عن النسب الحقيقي للثورة العربية الطليعية التي بدأت في مصر والتي تشير إلى انطلاق حضاري جديد واسع المدى (27) . وهذا الهدف الأخير لا نجد له أي محاولة لشرحه وتفسيره في الفصول اللاحقة من الكتاب غير المقدمة التي تتحدث عن الأصل العربي للحركة الوطنية المصرية التي حاول البعض ربطها بالحضارة الفرعونية التي احتضرت وماتت قبل الفتح الروماني . فالكتاب يبدأ بشرح ( حقيقة مكة قبل الإسلام ) وينتهي بـ ( الجولة الأخيرة ) التي يتحدث فيها عن استشهاد الإمام الحسين .

يقع الكتاب في ثمانية فصول هي :

- حقيقة مكة قبل الإسلام : ويستعرض فيه حالتها الاقتصادية كمركز تجاري ، والتكوين الطبقي فيها ( رجال الدين ، كبار التجار والملاك ، صغار التجار ، المعدمون والعبيد ) ثم السلطة السياسية ونظام الحكم فيها وسيطرة رجال المال على السلطة .

- الكتل السياسية في مكة : ويتناول التحالفات السياسية التي حكمت مكة والصراع على السلطة فيما بينها واثبات أن الاسلام ليس ثورة التجار بل ثورة المستضعفين من خلال استعراض هويات المسلمين الأوائل الطبقية .

- الوسط يستولي على الحكم : والوسط ممثلا بأبي بكر الذي اختير خليفة بعد وفاة الرسول لحسم الصراعات التي نشبت وكادت تمزق الاسلام وترحيب اليمين بهذا الاختيار مع ما مثله هذا من استبعاد ممثل اليسار علي بن أبي طالب الذي كان يرى أنه أحق بالخلافة ، ثم التحولات في عهد عمر بن الخطاب الذي أوشك في أخريات أيامه أن يكون ضد اليمين ، ثم اغتياله.

- اليمين والثورة : اغتيال عمر واختيار عثمان للخلافة وصعود اليمين ثم الثورة على عثمان ومقتله .

- ثورة اليسار : ثورة اليسار على عثمان ومقتله وإعادة أصولها إلى الصراع بين اليسار واليمين.

- مثالية اليسار وانتهازية اليمين : ويقصد بها مثالية الإمام علي وانتهازية معاوية في التعامل مع مقتل عثمان وملابسات معركة الجمل ومضاعفاتها على المسلمين ثم الحرب بين علي ومعاوية واغتيال الامام علي .

- تصفية اليسار بعد مقتل الامام علي والصلح بين الحسن ومعاوية .

- الجولة الأخيرة : ويتناول ثورة الإمام الحسين وملابساتها واستشهاده .

 

30.11.2014

 

 

إقرأ المزيد من نتاجات الكاتب على موقعنا

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4]  | أرشيف المقالات  |  دراسات  |  عمال ونقابات |  فنون وآداب |  كاريكاتير  |  المرأة |  الأطفال | إتصل بنا       

      

لا

للأحتلال

لا

للخصخصة

لا

لتقسيم العراق

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة

من الكتاب والصحفيين العراقيين   

 

                                                                  

                                                                             

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org               الصفحة الرئيسية - 1 -