<%@ Language=JavaScript %> الحبيب بالحاج سالم القصيدة الانتظاريّة..بنية الإنسان والوجود

   

لا

للأحتلال

لا

للخصخصة

لا

للفيدرالية

لا

للعولمة والتبعية

 

                                              

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين                                    

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                            

 

 

القصيدة الانتظاريّة..بنية الإنسان والوجود

 

 

الحبيب بالحاج سالم

 / تونس

 

 

في انتظار القصيدة

عدنان الصّائغ

********

أوقدتُ صبري.. على بابها

شمعةً.. للترقّب

ثم انحنيتُ..

على أضلعي

خشيةً

أنْ تفرَّ طيورُ الحنينِ الحبيسةُ.. نحوكِ

أنْ يفلتَ القلبُ..

هذا المبلّلُ بالوجدِ

.. من قفصي

ويضيعُ بغاباتِ حبكِ

مستوحداً

متعبَ الجفنِ

منطفئاً بالغصونْ

*

هو القلقُ الحلو

يفترشُ الدربَ

ياليتها.. لا تجيءُ

فأنَّ الزوابعَ.. لا ترحمُ الغابةَ اليابسةْ

وأمضي..

بكلِّ الشوارعِ.. أمضي

بكلِّ الأزقّةِ.. حيثُ افترقنا

وحيث تلفّتُ – مثلَ المضيّعِ

أبحثُ عن خطوكِ المتواربِ

بين الزحام

*

لماذا تركتكِ تمضين..

أيتها…؟

وكيف تركتُ شرائطَكِ البيضَ..

تنسلُّ – مثلَ الأماني الجميلةِ – من بين كفي؟

لو أني شغلتكِ – خمسَ دقائق أخرى

ببعضِ الحديثِ………!

لو أنكِ.. كنتِ تركتِ على الرفِّ.. عنوانَ بيتكِ

حتى……!

لو إنّا اتفقنا.. على موعدٍ

لو

ولكنني…!

كنتُ مضطرباً.. ساهماً

فلما استفقتُ.. بمنعطفِ الدربِ

كنتُ وحيداً

تلفّتُ

كان رداءُ المساءِ، يلفُّ المدينةْ

*

قدْ تجيءُ القصيدةُ..

.. أو لا تجيء

قدْ تمرُّ الأميرةُ.. تحت نوافذِ قلبي

وقد لا تمرُّ

ولكنني رغم بردِ الطريقِ.. وصمتِ الظلالْ

وما قيلَ عني... وما قدْ يُقالْ

سأشتلُ قلبي..

على الغيمِ

صفصافةً ظامئة

وأبقى على الدربِ..

مرتقباً خطوَكِ الحلوَ

حتى أموتْ!

*************************

من النّصوص ما يأتي جامعا بين سمات لا نخال مبدعيها إلاّ رامين من خلالها إلى تنزيل القارئ طرفا أساسيّا في إنتاج معانيها و محاورتهم  في ما أثاروه من مسائل و"إشكاليّات".. ولذلك نراها نصوصا مستفزّة استفزازا ثقافيّا روحيّا شعريّا لطيفا، يخرجنا من موقع "الانتظار" والاستهلاك للنّصّ "الجيّد الجميل" إلى موقع القراءة الواعية المحيّرة المنتجة المتجاوزة لأحوال الاستلذاذ و"الطّرب" التقليديّين..

وقصيدة " في انتظار القصيدة" هي من هذا الضّرب، فحين نقرؤها  نتبيّن منذ القراءة الأولى أنّها قصيدة إبداعيّة بيانيّة، أي أنّها "تفكير" شعريّ في إشكاليّات جماليّة الشّعر مفهوما ونشأة وإنجازا وتلقّيا وقراءة..

وليس هذا بطريف ولا مستحدث أو مبتدع مع الّصّائغ، فمدوّنة الشّعر العربيّ قديما وحديثا تزخر بالقصائد البيانيّة الصّريحة والضّمنيّة، إلاّ أنّ البيانيّة في نصّ الصّائغ لا تنحصر في شواغل مفهوميّة فنّيّة وظيفيّة بحت، بل تتّسع لشواغل أعمّ وأشمل، تجعل "القصيدة" هاجسا وجوديّا كونيّا، لا مجرّد نظر فنّيّ مقول شعريّا، أي أنّ النّصّ ليس كلاما شعريّا على الكلام، بل إنّ الشّعر (القصيدة) كون يعيشه الشّاعر شوقا، فيتّخذه صورة  للوجود، كما يراه..شوقا لا ينتهي، إلى قصيدة لا تجيء...

  قرائيّا، ندخل كون "الانتظار" كما ندخل أيّ نصّ، بمعانينا، وكأنّها "معاني" الشّاعر أو "المعاني" في القصيدة كما تشكّلت وانخرطت مكوّناتها في شبكة من العلاقات المعقّدة المولّدة لما لا يتناسب و"انتظار" أفهامنا وهي تستبدّ، وتدخل القصيدة مقتحمة، مسلّحة بمعانيها الجاهزة.. وكأنّنا نقول:" وهل يمكن أن يعني غير ما نحن نعلم، وغير ما نتوقّع وننتظر؟".. والقاعدة "الأخلاقيّة" الإبداعيّة أنّ النّصّ ينبغي أن يعني غير ما نعني وننتظر أن يعني، بل إنه ينبغي أن يصدم "انتظارنا" ويخيّب توقعنا، ويعلّمنا مالا نعلم من المعاني في "الانتظار" والإبداع والحبّ...

· ويمكن أن نجد في ما ينشأ من هوامش على النّصّ من أقوال الشّاعر نفسه ما يؤثّر، وقد يوجّه القراءة وجهة ما، فندخل قصيدة الصّائغ ب"تعاليم" ربّ القصيدة نفسه:

" أنا أنتظرها دائماً.. تعودت انتظار أمطارها، وتعوّدت جفافها.. فارشاً حقول أوراقي وروحي.. قد تأتيني في الصباح الباكر، وقد تأتي في أخريات الليل، وقد تأتي بينهما.. منسابة هادئة، أو صاخبة هادرة.

قد تأتي دفعة واحدة، وقد تأتي متقطعة، ليس لها حدود معينة ولا برنامج ولا تخطيط    مسبق.. نعم. تعودتُ انتظارها.. ولا أملّ ولا أتعب.. لأنَّ هطولها عليّ ينسيني كلَّ  مكابدات ترقبها.. تأتيني أحياناً وأنا جالسٌ الى طاولتي بين أوراقي وكتبي، وتأتيني  أحيانا في صخب الشارع أو في الباص، أو بين الأصدقاء..

هكذا تتنوع زيارتها ومواسمها وهكذا تتنوع حالات انتظاري لها.."(1)

وهو إذ يختصر الانتظار في " مكابدات التّرقّب" فإنّه يضيء جانبا من نصّه ويسكت عن جوانب تاركا لنا أن نقرأ..

·       هكذا بدت لنا القصيدة انطلاقا من عنوانها ووجوه انتشاره فيها، فقد رأيناها "قصيدة انتظاريّة" صورة من الشّاعر وله، من حيث هو "بنية انتظاريّة" في ذاته..وهو في هذا صورة "مثاليّة" للإنسان ينتظر، فيكون وجوده مطلقا، بنية انتظاريّة موسومة بالتّرقّب والقلق والهشاشة وشتّى امتدادات ذلك واتشاراته وضمّه الأشياء في العالم داخل هذه البنية القلقة..

·       هذه "الانتظاريّة التي اشتققناها من "الانتظار" ( وهو حدث محدود منقض في الزّمان والمكان) واتّخذناها مقولة (category) أي مفهوما مجرّدا ضامّا كل العلاقات بين الأفكار وبين الأشياء في النّصّ وفي الكون.. وهي منتشرة في التّشكيل الشّعري معجما وتركيبا وتصويرا ودلالة، في تواشج ووحدة وانصهار بين كلّ هذه المكوّنات.. متظافرة متدافعة متفاعلة منتجة لأفق انتظاري خاص..يحكي التجربة الإبداعية للشّاعر، وأفق انتظاريّ عامّ يحكي تجربة الإنسان ومصيره..

1)     العنوان: " في انتظار القصيدة "

    بين الخبريّة والحاليّة والسّببيّة :

اقتران فعل /حال الانتظار( إخبارا وصفيّا عن المتكلّم) بفعل آخر أو أفعال أخرى تجد معناها وعلّة وجودها في معنى الانتظار أو معانيه..كما تجوز العبارة تعليلا لوجود ما، وللوجود، تعليلا "أنطولوجيّا" يكتسب به ذاك  المعنى، أو يبحث له عن المعنى في الذّهاب بالفعل/الحال إلى أقصاه، تجلّيا للمنتظر..القصيدة...ولذلك يأتي النّصّ مفسّرا أو مضيئا العنوان/التّعليل.. الخبر :

{أنا} في انتظار القصيدة

{هكذا أكون} في انتظار القصيدة

{حين أكون} في انتظار القصيدة

{أحيا} في انتظار القصيدة

{أموت} في انتظار القصيدة

·       الانتظار علاقة بين منتظر ومنتظَر..ومنزلة  لكلّ منهما بالنسبة إلى الآخر...

·       الانتظار نظر إلى قادم قريب أو بعيد.. توق وتوقّع وصول وحلول..

·       تتظافر اللغة والثّقافة والتّاريخ لتنزيل الانتظار والمنتظر والمنتظر في سياق إبداعيّ روحيّ عقائديّ خلاصيّ: في انتظار "غودو"..وانتظار المهديّ..وانتظار من تشدو فتناجي :"أنا في انتظارك.."وانتظار القصيدة.. ولا نخال الصّائغ معنيّا بهواجس " بيكيت" أو أهل الإمامة..وإنّما هو معنيّ بالقصيدة شاغلا إبداعيّا قد يلتقي في بعده الوجدانيّ أوالثّقافيّ أوالرّوحي، بالمنتظرين بعضهم أو كلّهم..

·       المنتظر عُرّف تعريفا استغراقيّا  "شاملا الحقيقة والماهية" المطلقة (القصيدة). وفي ذلك إيحاء جوهريّ بما ترمز له "القصيدة" من مطلق وكمال وجمال وتعال عن وجوه النّقص في " قصيدة" ليست " القصيدة"..وكم قصيدة كانت، فعُهدت، فصارت القصيدة، ولكنّ النّفس تاقت إلى قصيدة أخرى لتكون "القصيدة"..وهكذا يمضي الوجود من قصيدة إلى قصيدة، " في انتظار "القصيدة.."

2)   الانتظاريّة..طقس إبداعيّ عشقيّ مقدّس..

يسير الخطاب الانتظاريّ في اتّجاهين، في "انضباط" فنّيّ صارم، عن طريق "الالتفات" انصرافا من الشّاعر، متكلّما، من الإخبار إلى المخاطبة، ومن المخاطبة إلى الإخبار.." وجاء الالتفات في المقاطع الأوّل والثّاني والرّابع، ولم يكن في الثّالث.. وهو على وجه واحد واتّجاه واحد: من الإخبار إلى المخاطبة.. وليس هذا "الأسلوب" من وجوه الزّينة الشّعريّة هنا، بل إنّه من أبرز عناصر البنية الانتظاريّة في الخطاب، إذا اعتبرنا "الموضوع" واحدا، وإن بدا باسمين: الحبيبة/القصيدة :

هي/أنت

هي/أنت

أنت

هي/أنت

ويمكن أن نربط هذا بما نجوّز لأنفسنا تسميته "التفاتا زمنيّا" و"التفاتا وجدانيّا"، فنرى المتكلّم ينطلق من الحاضر زمنا للتّوق، إلى المستقبل زمنا تجيء فيه القصيدة أو لا تجيء، ثمّ يلتفت إلى الماضي زمنا لحضور موضوع الحنين، كانت فيه الحبيبة ولم تعد.. ثمّ إلى المستقبل زمنا ، يراد أو لا يراد، لاستعادة ما كان..

وما ذهبنا إلى هذا إلاّ استجابة لأفق انتظارنا، وقد تشكّل ثقافيّا وشعريّا على التّجاور أو الانصهار والتّماهي في وجدان الشّاعر، أيّ شاعر، بين الحبيبة امرأة أو وطنا، أو امرأة وطنا، والقصيدة...ولكن "لا شيء" يجبرنا في قصيدة الصّائغ على ركوب هذه الثّنائيّة..وإن جاز ذلك فليكن على وجه خاصّ تفرّديّ، يتماهى فيه الموضوعان: الشّعر والحبّ أو القصيدة والحبيبة..وليتجلّ هذا التّماهي على الوجه الذي يقوله النّصّ، ولا يقال من إسقاطات القراءة عليه، دون غياب أو تغييب لذواتنا القارئة المنتجة للمعنى..

ولئن بدا لنا المدخل الانتظاريّ ناظما كاشفا مؤسّسا للكون الذي يبنيه الشّاعر في هذا النّصّ، فإنّ أبرز ما يفاجئنا به أنّه غير مستجيب لأفق انتظارنا حين أقبلنا عليه بتوقّع انتظاريّ شائع مشترك..وتتجلّى هذه "الخيبة" الانتظاريّة في قيام النّصّ، في ما بدا لنا جوهرا له وخصيصة كبرى تميّزه، على انتظاريّة " مفتوحة " غير مغلقة، دائمة غير محدودة، روحيّة  لازمانيّة، مقترنة باحتماليّة قلقة قلقا مطلوبا كالأبد أو المطلق الذي يخشى، إن صار حضورا، أن يعقبه الموت، في وجود لا يستقيم إلاّ انتظارا، إذا انتفي وانتهى، نفى الحياة وأنهاها..ولذلك لم يكن الانتظار "حدثا" بل حالا ووسما أو سمة للشّخصيّة وللوجود، فكان "انتظاريّة"...

ذلك ما رأيناه انتظاريّة "صائغيّة" خاصّة منشؤها ومهادها الفنّ والشّعر ومداها المفتوح الوجود ومسيرة الإنسان فيه...

3)   على بابها...

على باب الهيكل..

 

" قد طهَّرتُ شفتيَّ بالنار المقدَّسة لأتكلَّم عن الحبّ..." (جبران)

           هكذا يقف الصّائغ/الشّاعر على باب القصيدة (إن اعتبرنا الضّمير المتّصل عائدا عليها) موقفا عباديّا مقدّسا استعاديّا لطقوس العبادة الأسطوريّة الأصيلة :

أوقدتُ صبري.. على بابها

شمعةً.. للترقّبِ

ثم انحنيتُ..

 من ذاته وباطنه يشتقّ نوره/شمعته في ليل الوجود الحالك، صبرا على المحنة وتقرّبا      إلى آلهة الشّعر لعلّها تمنحه " النّار"  شعلة إلهام وعرفان..صورة ل"مكابدات الترقّب"    يرسم، انتظارا لوحي أو نور أو باب من أبواب الغيب يفتح، ليكون العلم.. والشّعر علم..

 ذاك مقامه الانتظاريّ، يتماهى فيه وراهب في ديرأو عابد في معبد أو صوفيّ في جبل أو بحر، أو نبيّا في غار، ينتظر فتحا أو فيضا أو إشراقا أو ملاكا يُقرئه..

لكنّ الانحناء الذي كان صلاة وتقديسا يتحوّل ليكون فعلا حاميا، خشية ضياع شيء ثمين:

 

ثم انحنيتُ..

على أضلعي

خشيةً أنْ تفرَّ طيورُ الحنينِ الحبيسةُ.. نحوكِ

         وفي أوّل تحوّل التفاتيّ، يضعنا الشّاعر أمام صورة استعاريّة مركّبة ذات إيحاء متعدّد  كثيف، يقرن فيها الانتظار بالحنين، والمستقبل بالماضي، مريدا أن يكون المستقبل استعادة للزّمن الهارب "المضيّع" في الماضي..بيد أنّ الحال أعقد من أن تكون حنينا "بروستيّا" حزينا، أو هي قريبة من ذلك على نحو انقساميّ، فتبرز "الأنا المنتظرة" راغبة في موضوع الانتظار، و"أنا الحنين" راغبة في "حماية" حنينها من التّبخّر والضّياع، لنكون أمام وضع مركّب، حكته الصّورة المركّبة،  والمظهر الأجلى للتّركيب هو اقتران الترقّب والحنين والقلب :

أنْ يفلتَ القلبُ

هذا المبلّلُ بالوجدِ

من قفصي...

لتتكامل صورة القلب مركزا للحركة، حركة الانتظار "خشية وحنينا ووجدا" ويبدو القلب "طائر" حنين، حبيس الصّدر أو في صورة القفص  نفسه تنحبس فيه "طيور الحنين".. وهي في منطق الصّورة وإيحاءاتها طيور يخشى الشّاعر إفلاتها وضياعها بغابات حبّ المخاطبة العظيمة المناجاة.. فيظلّ القلب "مستوحدا..متعبا..منطفئا.." :

ويضيعُ بغاباتِ حبكِ

مستوحداً

متعبَ الجفنِ

منطفئاً بالغصونْ..

وانسجاما مع روح "الفلسفة الانتظاريّة" التي تحكم النّصّ بنية تصويريّة ودلاليّة، يبدو الحنين حالا يريدها الشّاعرة حبيسة قلبه وشوقا لا يؤول اتّصالا بموضوعه ومتعلّقه..فيبدو "الوصل"، مرغوبا تقليديّا، غير مرغوب، خشية ضياع الحنين وتبدّده وانطفائه في "غابات حبّ" يبدو أعظم وأوسع ...

4)   القلق الحلو...

تنتشر البنية الانتظاريّة وتتجذّر بمفارقات وصفيّة دلاليّة مفاجئة مدهشة منشئة مسافات للتّوتّر جديدة، فيفارق القلق "مرارته" الحسّيّة ويرقى عن شائع "القلق" لأنّه قلق العاشق الشّاعر المبدع، يحبّ قلقه ويريده حالا لا تفارقه، فيشكوها ويحبسها في صدره، وبها يحيا مستحليا ألمها:

على قَلَقٍ كأنّ الرّيحَ تَحْتِي  أُوَجّهُها جَنُوباً أوْ شَمَالا (المتنبّي)

أو هو يخشى الوصل و"اللّقاء" لما أبانه في المقطع السّابق، ويصبح إخلاف العهد والموعد أمنية، واللّقاء، لو كان، رهيبا عاصفا يهزّ "القلق" السّاكن، ويُعقب انطفاء وخواء..وتلك هي حال القلق إن أخذناها في بعدها الإبداعيّ الشّعريّ وبعدها العشقيّ، لتتأكّد الانتظاريّة الشّعريّة انتظارا لقصيدة لا يراد لها أن تجيء، والانتظاريّة العشقيّة شوقا إلى امرأة تواعد ولا تفي :

 

ياليتها.. لا تجيءُ

فأنَّ الزّوابعَ.. لا ترحمُ الغابةَ اليابسةْ..

لذلك يأتي الوجه الثّاني للالتفات سرديّا سردا "تكرّريّا" استعاديّا للّقاء في لحظة منصرمة مفلتة..وليس في هذا ما يكسر المنطق السّابق، بل هو تكريس له واستتباع..فينفتح الشّاعر على المكان في الماضي، بحثا وسعيا إلى "الإيقاع" في الخطو المتوارب، مستثمرا معطيات الواقع (الشوارع، الأزقّة، الزّحام..) إبرازا لمعنى البحث والضّياع وعسر الاستعادة والعودة إلى حيث "اللّحظة" لحظة " افتراق.." وانقطاع لوحي اللّحظة الشّعريّة، تكون في شارع أو زقاق أو منعطف أو رصيف أو صوت أو خطوة أو.. ولا تستعاد تلك اللحظة، ليظلّ الشّاعر باحثا عنها..ولا تجيء...وهذه اللّحظة هي قصيدته التي لا تجيء وامرأته التي لا تفي...

وأمضي..

بكلِّ الشوارعِ.. أمضي

بكلِّ الأزقّةِ.. حيثُ افترقنا

وحيث تلفّتُ – مثلَ المضيّعِ

أبحثُ عن خطوكِ المتواربِ

بين الزحامْ

 

5)   الانتظار...الصّراع والامتناع

تبلغ القصيدة الانتظاريّة ذروة نموّها وتوهّجها في هذا المقطع الثّالث الموسوم ب"حواريّة"  حادّة منبثقة عن سّرديّة "مشعرنة" فيرتفع(أو ينخفض) صوت باك حارّ متدفّق فائض عاشق مشتاق.. في "مونولوج" هو أكمل الأدوات الشّعريّة التي سخّرها الشّاعر في هذا النّصّ، وكان "درسا تطبيقيّا" في إجراء جانب من خصائص هذا الضّرب من الكتابة الشّعريّة، ونعني به السّرديّة والاثر الشّعريّ الحادّ واللّحظويّة تكثيفا وتبئيرا، والتّوهّج، محاكاة للتّجربة الوجدانيّة الإنسانيّة، ما أمكن، ومكّن الشّعر..

وتجلّى كلّ ذلك في التّنويع التّركيبيّ، وكان تصاعدا من الاستفهام إلى التّمنّي (بلو  الامتناعيّة في الماضي..) فالاستدراك فالظّرف..:

 

لماذا....؟

وكيف....؟

لو....

لو......

لو.....

لو.....

ولكنني....

ولمّا.....

 

 

وكانت بؤرة التّوتّر في التّرديد التّركيبيّ الذي برز فيه  تكرار (لو) تعبيرا عن التّمنّي واستحالة استعادة اللحّظة الشّعريّة العشقيّة الهاربة المنقضية..واقترن ذلك بإحساس بالعجز وجد في "الحبسة" انحباسا للعبارة وانعقالا للّسان واكتفاء برأس التّركيب، ما يحكي اللّحظة في "عفويّتها" و"مجّانيتها" وقوّة أثرها، حتّى بالصّمت والفراغ :

 

أيتها…؟

حتى……!

– لو…

ولكنني…!

6)   الانتظاريّة...إيمان

يمثّل المقطع الرّابع مآلا ومستقرّا للمغامرة العشقيّة الوجوديّة الشّعريّة..فهو ينشأ احتمالا.. توقّعا لحدوث الفعل وعدم حدوثه..وفي ذلك نقلة وجدانيّة يستوي فيها الحدث مثبتا ومنفيّا في المستقبل، ويخرج الانتظار خروجا نهائيّا على معانيه السّابقة، ليقترن بضرب من الهدوء والسّلام والسّكينة، وتفارق الأنا ماضيها وحاضرها، وتتّجه إلى المستقبل في خطاب انتظاريّ إيمانيّ حاسم جازم بيّن صريح ، فيه يقين وقوّة..وتتعاقب "القصيدة" و"الأميرة" حضورا احتماليّا في الخطاب، لما بينهما من تواشج كلاسيكيّ صورة وقيمة ومنزلة، وقد تكون المعنيّة واحدة: "قصيدة أميرة" تمرّ "تحت نوافذ القلب.." تحرّك سواكنه ونبضه لتكون فيه وبه، باعتباره "طاقة هائلة على الحنين..".. ويدعم الالتفات في وجهه النّهائيّ هذه الوحدة، لينفتح مدى الانتظار، فينحدّ بالموت إيحاء بمطلق الانتظار، وعلوّ موضوعه على ما يُطلب، إلى ما هو فوق الزّمان وأبعد من الحياة ومن الموت..:

 

وأبقى على الدربِ..

مرتقباً خطوَكِ الحلوَ

حتى أموتْ!

ليبقى الشّاعر على ظمئه، لا ترويه قصيدة، عاشقا أبديّا، منتظرا الحبيبة التي لا تجيء، والقصيدة التي لا تجيء..لأنّه أكبر، وقلبه أعظم وأعلى وأسمى وأطهر..

ومن كان كذلك، وكان قلبه كذلك، عاش غريبا ينتظر ما لا يكون: الحبيبة الكاملة.. والقصيدة الكاملة...:

ولكنني رغم بردِ الطريقِ.. وصمتِ الظلالْ

وما قيلَ عني... وما قدْ يُقالْ

سأشتلُ قلبي..

على الغيمِ

صفصافةً ظامئة...

 

 

(1)   صحيفة "الزمن" العُمانية.. 29/2/2008

 

حاورته: بدرية الوهيبي – مسقط/صحيفة "الزمن" العُمانية/29/2/2008

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا