<%@ Language=JavaScript %> ارا خاجادور مآثر الدكتور عبد الصمد نعمان الأعظمي

   

لا

للأحتلال

لا

للخصخصة

لا

للفيدرالية

لا

للعولمة والتبعية

 

                                              

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين                                    

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                            

 

 

مآثر الدكتور عبد الصمد نعمان الأعظمي

 

 

ارا خاجادور

 

يغادر بعضنا البعض الآخر في هذه الأيام بصمت في الغالب، وسر ذلك الصمت يكمن في ضخامة الفجيعة العامة التي تغطي البلاد من أقصى شمالها الى أقصى جنوبها، ومن أقصى غربها الى أقصى شرقها مع بعض الفروقات النسبية البسيطة وغير الجوهرية، وفي وسط اللهيب المستعر تسكن بغداد كبرى ضحايا العراق "الجديد".

 

إن بؤس و خطورة و مرارة ما يمر على البلاد، لم يترك مجالاً حتى لبعض ما عرفناه في عهود الظلام القابلة للإحتمال لممارسة أشكال معينة من التعبير الممكن والمناسب لتوديع عزيز أو إعلان الحزن على وداعه الأبدي بما يستحق من واجب علينا.

 

وفي ظلِّ تمزيق الوطن في ظرفنا الراهن باتت حالة مألوفة أن لا يعلم أو لا يسمع البعض منا برحيل البعض الآخر من الأصدقاء أو الرفاق أو الأقرباء سماعاً مباشراً، حيث تمنع ذلك أسوار الإسمنت المقامة هنا و هناك، وأحياناً يكون العلم بالرحيل غير مباشر وبعد حين، وقد لا يصل الخبر أصلاً حتى داخل المدينة العراقية الواحدة بحكم الحواجز التي لا تحمي أمن المواطن ولا الوطن، وكلما طالت فترة عدم المعرفة عن حالة ما، كان الشعور بمرارة الفقد أعظم، ولا يقلل من الإحساس بالفقد أننا من بلد بات الرحيل فيه إجبارياً، وليس وفق قوانين الطبيعة في الحياة والموت، وذلك بفعل "الديمقراطية" المُصدرة إلينا عنوة بقوة الإحتلال والقهر وضعف النفوس وغياب وحدة الصف، ولا أقول غياب أو ضعف وحدة الصف بين القوى المفترض أنها واعدة سياسياً وإجماعياً، أو الذين لم يساوموا على حاضر ومستقبل الأوطان، وإنما باتت حالة عامة، وليس هنا مجال شرح أسباب ومقومات ذلك.  

 

اليوم حين علمت برحيل الدكتور عبد الصمد نعمان الأعظمي بعد مضي بعض الوقت على رحيله الأبدي المؤلم إجتاحني شعور عميق بالألم إختلط فيه العام بالخاص، ولكن وجدت في الوقت نفسه شفيعاً وعزاءً وما يخفف وطأة الرحيل، أن الرجل غادرنا بصحبة سجله النقي وعطائه الكريم، وهذا بحد ذاته فعل متواصل يأبى الموت.

 

تداعت لدي ذكريات طيبة عن الراحل المناضل المقدام، ذكريات خطت نفسها بنفسها، ليس على مستوى العلاقات الشخصية الإنسانية فقط، ولكن على مستوى ما هو أبعد من ذلك، حيث عمل دور الفرد في الجهد النضالي والإجتماعي وما يترك خلفه، وأهم خلاصة برزت أمامي في هذه اللحظات الحزينة ما إنطوت عليه سيرة الراحل في الإيثار وضرب المثل الملهم.

 

كان عبد الصمد نعمان الأعظمي يؤثر على نفسه وعياله مشاركة الناس في تحمّل مصاعب حياتهم على حساب راحته ومصيره الشخصي، وكان إحساسه بالهم العام عميقاً، وكان أهلاً لتحمل مسؤوليات ذلك على مختلف المستويات ودون إنقطاع وفي كل المواقع. لقد تخيّلت قسوة الأيام والشهور الأخيرة من حياة الراحل، الى جانب ما يصلني من صدى أيامه في عامرية بغداد، وهو يرى وطنه الذي نذر نفسه وعقله وجهده في سبيله، يراه وقد حلَّ فيه القتل المجاني والتهجير الجماعي وسرق المال العام وتحطيم كل روافد نهضة محتملة في الطبابة والتعليم والخدمات الأخرى والإنتاج وحتى حق العيش.  

 

ومن المعلوم إن كل إنتصارات قوى التقدم في بلادنا كان من بين رافعاتها الأساسية قوة المثل الذي يقدمة أشخاص في المسيرة العامة، ومن بينهم وفي صفوفهم الأمامية كان الفقيد الذي غادرنا، وأتخيل أنه كان في حالة يعتصره الألم على ما حلَّ حوله، وكيف تجري عمليات قهر المثل وتدميره قبل قهر الإنسان والبلاد، وكيف حلَّ الإنتفاع محل الإيثار، وكيف يهان المناضلون، ويرتقى في سلم المنافع الواهي الأرعن القتلةُ واللصوصُ وخونة الأهل والدار.

 

كان الفقيد بارزاً في نشاطه بين زملائه طلاب كلية الطب في أربعينات القرن الماضي، وكان موقعه في الصفوف الأمامية، وعند تخرجه كان في الصفوف الأمامية أيضاً بين العاملين في المجال الطبي والصحي وفي خدمة المواطنين المحتاجين لتلك الخدمات وغير القادرين على تغطية كلفتها بأمكانياتهم الشحيحة وسوء حالتهم المادية، أقول كان الراحل الكريم لكل المواطنين الفقراء وليس للتقدميين منهم فقط.

 

كان الطبيب المتخصص بالأمراض الصدرية د. عبد الصمد نعمان الأعظمي إنساناً بكل ما تحمل الكلمة من معان طيبة ورائعة، وكان مع العديد من زملائه يتظاهرون مع العمال من أجل زيادة الأجور في أولى نضالات شعبنا الواعية سياسياً وإجتماعياً من أجل الإستقلال وإقرار الحقوق العامة، وذلك يوم كانت كلية الطب ـ جامعة بغداد أرضاً خصبة لتعلم مهارات الإشفاء الى جانب مهارات النضال من أجل العراق كل العراق والكادحين منه بصفة خاصه أيضاً.

 

وبديهي أن يتحول الراحل الذي أصفه بالشهيد في حياته الى سجين لدى الطغم الحاكمة ومطارد من قبلها، وكلما إتسع نطاق عمله السياسي والإجتماعي زاد قلق وحقد تلك الطغم عليه. بعد 14 تموز 1958 كاد الراحل أن يكون طبيباً لكل أعضاء الإتحاد العام لنقابات العمال، الذي تأسس حديثاً كأحد ثمار الإندفاع الشعبي العاصف، هذا الى جانب المنظمات و الفئات الأخرى، وكان العلاج بالمجان وأحياناً حتى الدواء للمراجعين الأكثر فقراً. وبعد أشهر بدأت مسيرة تموز تتعثر، وكان للراحل نصيب من ذلك التعثر، حيث كان نصيبه من الملاحقة والإيذاء كبيراً.  

 

بعد إنقلاب 8 شباط 1963، كان من الطبيعي أن يكون الراحل بين ضحايا الإنقلاب تعذيباً وإعتقالاً، وتتويجاً للإضطهاد والإيذاء و ذروة لهما، تم نقل فقيدنا مع المئات من المناضلين الآخرين الى سجن نقرة السلمان الصحراوي ـ مدرسة المناضلين ووطنهم ـ الذي أغلق فترة بعد ثورة 14 تموز 1958، ولكن لم يستمر أغلاقه طويلاً، ليشهد السجن بعد ذلك عهداً جديداً ثانياً، وقد زادت فيه أعداد المعتقلين والمحجوزين عن عهده الأول قبل إسقاط الملكية عام 1958.

 

إستقبل السجن مئات المعتقلين الجدد على خلفية الإنتقام من الطلبة الذين رفضوا المشاركة بالإضراب الطلابي، الذي فرض أواخر عام 1962 بالتهديد والعنف، وكان ذلك الإضراب تمهيدأ أساسياً لإنقلاب شباط 1963، وإستقبل السجن كذلك الجنود المساهمين في حركة 3 تموز 1963 الثورية، وكذلك الضباط الموجودين في سجن رقم واحد بمعسكر الرشيد قبل قيام حركة 3 تموز، خشية من دور لاحق لهم، هذا إضافة الى نقل مئات المعتقلين الآخرين من سجون بغداد الى سجن نقرة السلمان، وبين هؤلاء السجناء الجدد عمال وأطباء ومثقفون ومهنيون وأساتذة جامعات وغيرهم من فئات الشعب، وقد تم نقلهم جميعاً بقطار لشحن البضائع، وأطلق على ذلك القطار أو الرحلة لاحقاً إسم قطار الموت.  

 

كان السجين الراحل الدكتور عبد الصمد نعمان الأعظمي من بين الأبطال الذين سجلوا الملحة  الشهيرة المعروفة بـ "قطار الموت"، ومن المعلوم أن عملية نقل السجناء السياسيين في قطار مخصص لنقل البضائع والمواشي يُمثل رحلة رهيبة إستهدفت كسر إرادة السجناء، إن لم يكن قد إستهدفت قتلهم. وقد إستشهد فعلاً عدد منهم. إن تلك الرحلة التي حملت مئات المناضلين ضمت على سبيل المثال لا الحصر: عبد الوهاب الرحبي؛ غضبان السعد؛ مكرم الطالباني؛ كريم الحكيم؛ الشهيد حامد الخطيب؛ د. رافد أديب؛ فاضل الطائي؛ الرائد يحيى نادر؛ علي ابراهيم؛ د. سعيد غدير؛ د. قتيبة الشيخ نوري؛ د. سعد عزيز؛ د. صلاح العاني؛ و د. طارق عواد. ومن هؤلاء الأبطال من فارقنا قبل حين، ومنهم من ذهب شهيداً في معارك لاحقة، ومن مفارقات تلك الرحلة أو المسيرة الإجبارية إنها ضمت مناضلين كانوا ضمن سجناء المرحلة الأولى لسجن نقرة السلمان في عهد ما قبل تموز 1958، منهم الراحل المناضل عبد الوهاب الرحبي.   

 

وهنا في السجن لم تفارق الراحل عبد الصمد نعمان الأعظمي وبقية زملائه الأطباء خاصية الميل بل الإصرار على تقديم الخدمات الطبية للمحتاجين إليها في السجن وحوله، فأقاموا عملياً عيادة وصيدلية في ذلك السجن التاريخي الشهير لتقديم الخدمات الطبية والدواء أيضاً، ولم تقتصر خدمات الأطباء السجناء على شركائهم في السجن بل شملت سكان المنطقة وحتى السجانين وعوائلهم أيضاً.

 

ومن مآثر الراحل أنه في الحالات التي تتطلب تحركاً من طراز جديد، خاصة في المنعطفات الحادة لتحقيق هدف نضالي بخصائص ديمقراطية أو أكثر عمقاً من الناحية الإجتماعية أو لتأسيس  حالة جديد تخلو الساحة العراقية منها في داخل الوطن وخارجه، وتتطلب ثقة من نوع خاص، يقف أسم الدكتور عبد الصمد نعمان الأعظمي شاخصاً، فعلى سبيل المثال عندما رفضت حكومة ثورة 14 تموز إجازة الحزب الشيوعي العراقي تداعى بعض الشيوعيين والديمقراطيين والوطنيين لتقديم طلب عام 1962 لإجازة "الحزب الجمهوري" الذي ضم في صفوفه كوكبة مضيئة من الشخصيات المشهود لها بالوطنية من بينهم: عبد الفتاح إبراهيم؛ شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري؛ الدكتور طه باقر؛ أحمد جعفر الأوقاتي؛ نيازي فرنكول؛ الدكتور صديق الأتروشي؛ عبد الرزاق مطر؛ عبد الحليم كاشف الغطاء ؛ مهدي فريد الأحمر؛ وآخرون، وكان الفقيد الراحل في صميم تلك التجربة أو المحاولة لخلق حالة جديدة وضرورية لإغناء الحياة السياسية والحزبية في البلاد.

 

وبعد إطلاق سراحه في نهاية الستينات ظل ملاحقاً من قبل الأجهزة القمعية، وفي محاولة لإبعاده عن العاصمة بغداد، حيث ميدان نشأته الأولى وساحة نضاله تم نقله الى كردستان، وهنا أيضاً في كردستان وجد مكاناً رحباً لمواصلة تقديم خدماته للفقراء والمعوزين، كان يقوم بمراجعة مرضاه في قراهم وبيوتهم، ومن خلال إيقاعه الخاص بتقديم المساعدة والمثل النزيه الملموس ينشر عطر فكره التقدمي والإنساني المحب للعدل وكرامة الوطن والدفاع عن حقوقه المسلوبة من قوى داخلية وخارجية.

 

عاش حتى يومه الأخير مخلصاً للقيم التي تربى عليها، قيم الأصالة الثورية والإنسانية، قيم الإيثار والتضحية بصمت وتواضع. رحل وهو يرى أقسى مآسي الشعب العراقي، خاصة وإن الأقدار شاءت تجعل بيته في منطقة يصفونها وفق مصطلحات هذه المرحلة المروعة من تاريخ شعبنا العراقي الأبي بالساخنة في منطقة العامرية/ بغداد.

 

هذا المناضل إفتتح مسيرتة الغنية والمعطاة في أوائل الأربعينات، وكان في طليعة من قادوا وثبة كانون 1948 الخالدة، وواصل نضاله في مجالات عدة حتى يوم الوداع الأخير. كان حريصاً على التمسك بالقيم الثورية التي سادت أيام العطاء الحقيقي، ومن بين تلك القيم البارزة الإهتمام بتربية العائلة، وأن يبدأ المناضل بتربية أسرته الصغيرة. نعم لقد ربى الراحل أسرته على ذات القيم الطيبة والأصيلة التي نشأ عليها. ولم أستغرب حين رأيت من خلال الصحافة دوراً لكريمته الأستاذة تحريرعبد الصمد نعمان الأعظمي، في حديث لها بإسم حركة تضامن المرأة، وهي تعلق على حالة من أخطر الحالات التي مر ويمر بها أبناء شعبنا العراقي، وهي ظاهرة الإختفاء القسري للمواطنين العراقيين وتأثير تلك الظاهرة المشؤومة على المرأة بالتحديد، إن الإختفاء القسري يتربع حالياً على قمة المأساة العراقية النازفة على يد ميليشيات وسيّافي الدين السياسي.

وهذا المشهد يؤكد أن الحياة مستمرة، والعطاء لا يتوقف مهما بدا الدرب وعراً.

المجد للرفيق والصديق والأخ العزيز طيب الذكر الدكتور عبد الصمد نعمان الأعظمي.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا