%@ Language=JavaScript %>
|
لا للأحتلال لا للخصخصة لا للفيدرالية لا للعولمة والتبعية |
|||
---|---|---|---|---|
صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين |
||||
للمراسلة webmaster@saotaliassar.org |
فصل من رواية جديدة للروائي المغربي محمد الهجابي:
بيْضةُ العقْرِ*
محمد الهجابي
المقال هذا، الذي ترجمته أنا من اللغة الفرنسية، هو لإبراهيم. المقال بعث به إلى نشرة تيارنا الطلابي. لم يطلب ترجمة له. ولم يطلب نشره. لكنني بادرت فترجمته. وأتمنى أن يحظى بالنشر. قرأته لمرات قبل أن أفعل. هو ليس بمقال في الواقع. لعله شهادة بالأولى. أنا شخصياً أصنفه في خانة الشهادات. يقول الرجل إنه حرر هذه الأسطر في خضم حصول أحداث الدار البيضاء، وبعث بها إلينا، تماماً كما ضمنها مذكرته، دونما حذف لفقرة أو تغيير لجملة. حافظ عليها كما كتبها في حينه. ولقد سعيت، من ناحيتي جهد المستطاع، إلى الحفاظ على عفوية خط الكلمات. ربما تصرفت في الشهادة. الآن صرت أسميها شهادة. على أن تصرفي هذا لم يكن بالكبير. وهكذا، كتب إبراهيم: «لم أبكِر هذه المرة كي أحلق ذقني، وأنسلك في لباسي، وأتأبط محفظتي الجلد الأسود كي أقصد الثانوية. لم يكن هذا هو الذي بكَرني يومه السبت 20 يونيو. خبر الإضراب العام كان قد ارتسّ في الناس، وبات واقعاً مقضياً. لا يمكن للتلاميذ أن يؤموا القسم، ولا طاقم التدريس أيضاً. حالة الاستنفار للقوات العمومية التي عاينتها البارحة أمام الثانوية وفي أحياء اسباتة، هنا بالدار البيضاء، تجعل الآباء يحتفظون بأولادهم في دافن البيوت. هو الخوف إذاً. خوف يدوّم على الأسر هنا في قرية الجماعة بحي اسباتة. وثمّة حالة ترقب قصوى. ولعلها الأجواء نفسها التي تعمّ باقي أحياء المدينة. لا يمكن أن يكون وضع حينا لوحد فحسب. منذ الإضراب الاستباقي الذي دعت إليه نقابة ا.م.ش يوم الخميس 18 يونيو، والذي استجابت إليه الك.د.ش، وحي اسباتة في حالة حصار. فاركونيتات بوليس في الشوارع وأمام مؤسسات التعليم. قلّت الحركة على الأرصفة. المرء لا يبارح بيته سوى لقضاء مأرب ويعود سريعاً. أخبار مظاهرات بمدن المغرب تأتي ردافاً. هناك اعتقالات ومتابعات وحصار لمقرات النقابة والأحزاب. وهناك تأهب ظاهر ليوم السبت. إضراب الخميس كان تمريناً. إضراب يوم السبت هو الإضراب. أمْس الجمعة سمعت هذا الكلام بمقهى. وسمعته كذلك لدى مدرسين. وهناك من كان يدور على المحلات التجارية ويؤكد أن المستغفر يلح على إنجاح الإضراب. ومنذ الأربعاء لم أبرح الحي. لا، لم يكن ما بكَرني اليوم هو القسم. كنت أريد أن أقوم بجولة في الحي أقف فيها على جديده. ربما مشيت إلى شارع الساقية الحمراء. لا بدّ لي من أن أكوّن فكرة عما يجري في الخارج. هاجسي كمناضل هو الدافع، ولا شك. حينما نزلت الدرج لاحظت من طرف خفي والدتي تشيعني من مدخل الدور السفلي. أحسب أنها كانت ترغب في الاطمئنان عليّ. ولعلها ودّت لو تمنعني من الخروج بإشارة أو بلفظ. لم تجرؤ عليّ. هي تعرف أنني لا أغامر. لكنها تعرف أيضاً أنني مناضل. إضراب أبريل 79 لا زال عالقاً بذهنها. عالق بذهني أنا كذلك. لا أحد في الساحة الواسعة المقابلة للدار. شبه سكون يغمر الفضاء. في الأزقة المجاورة قلة قليلة من المارة. أبواب الحوانيت مقفلة. ومثل ذلك بالنسبة للمقاهي. لم أمض بعيداً وإذا بفاركونيت بوليس تمر في خلافي. لا أعرف لمَ يطلقون عليها اسم عايشة! لونها الأبيض؟ كتابتها الحمراء؟ الساعة السابعة صباحاً الآن. في العادة، حوانيت تكون أشرعت أبوابها قبل هذا الزمن بكثير. بعضها الآخر ينتظر إلى أن يكون النور قد عمّ تماماً. الأولى تختص ببيع الحليب والخبز وما شابه. الثانية عبارة عن متاجر كبيرة للبيع بالجملة أساساً. عدت من حيث جئت، وصعدت إلى طابقي. فطرت، وأخذت كتاباً، أتصفحه دونما طموح يذكر إلى قراءته. على الأقل ليس الساعة. الشارع يملأ دماغي. أنا هنا في الغرفة، لكن بالي هناك في الشارع. ومن هنا، من نافذة الغرفة، رحت أتسمّع حركة الشارع. بقيت بلباسي أنتظر كأنما أتوقع في كل دقيقة حصول شيء. بيني وبين الشارع صف دور من طابق أو طابقين. أصل إليه عبر درب. على أنه باستطاعتي من مكاني هذا سماع الأصوات العالية العابرة منه. أصوات موتورات سيارات وباعة جائلين ومتظاهرين أيضاً. بإمكاني سماع ذلك. نعم، قد تبلغني الأصوات في غير منتهى صفائها. ومع ذلك تطرق صغو أذني على قدر مهم من الفرز. اللحظة التي أدون فيها هذه الملاحظات لا صوت فارز أسمع. كل ما هو حاصل هو سكون جاث على سعة الشارع مع فاركونيتات بوليس تجوبه من حين لآخر. أتلمس السكون وأتخيل الفاركونيتات. أختي دخلت علي بصينية شاي. عند حوالي الساعة العاشرة والنصف التحق بي أخي الأصغر حسن في غرفتي مفصد الجبين بالعرق. ومن خلل لهاثه قال إن درب عمر يشهد مواجهات بين أصحاب الدكاكين والمتاجر ورجال السلطة. وأضاف قائلاً إن آخرين أخبروا بأن الوقائع نفسها جارية بين البوليس وسائقي الأطوبيسات. وفي الحال، انتصبت واقفاً وغادرت المنزل. من السهل التفطن إلى أن مواطنين هنا باسباتة على علم بما يجري بأحياء المدينة. وجوههم تشي. اقترب مني أحد أبناء الحومة عند عطفة الدرب، وقال لي إن كلاً من درب غلف، وساحة السراغنة، ودرب السلطان، ودرب الكبير، وشارع الفداء، وحي الفرح، ودرب ميلا، ودرب السادني، والقريعة، ومودي بوكيتا، وبنمسيك، وحي لالة مريم، وحي السلامة، ومبروكة، والبلدية، والحي المحمدي، ودرب مولاي الشريف، وعين الشق، وبورنازيل، وسيدي عثمان، والبرنوصي، وعين السبع، وأحياء أخرى من المدينة تغلي بالشعارات. أنظر هناك آلسي محمد، وأشار بيده، إلى مقدم الحومة مدعوماً بالمخازنية كيف يرغم أبّا الحوس، الرجل الستيني، على فتح حانوت بقالته. ماذا ننتظر نحن في اسباتة؟ ولما لم أفت برأي تركني الشاب وسار جهة شباب متجمهرين في زاوية درب فرعي ينظرون. أنا رأيتهم يتهامسون ويتشاورون، وفجأة انطلقت حناجرهم بالصفير وبالشعارات: ألمقدم سر بحالك الحومة ماشي ديالك، ألمقدم سر بحالك الحومة.. ثمّ علت شعارات أخرى حول الغلاء. اختفى المقدم وراء المخازنية، وحلّ البوليس بالمكان، نزلوا من فاركونيتهم وشرعوا يفرقون كل من تجمع في المحيط. توزع الشباب على الأزقة. وصاح أحدهم: آآساليغان، آآسليغان. وتبعه آخرون يهتفون: آآسليغان سر بحالك المغرب ماشي ديالك.. وفجأة بدأ الرشق بالحجارة والدخان، الرشق من طرف الشباب والدخان من طرف البوليس. كان واضحاً أن البوليس محضر لهذه المواجهات. وصار من الصعب التحكم في الموقف. تراجعت أنا أحتمي بباب. بدا لوقت أن معركة حقيقية هي في سبيلها إلى النشوب بين البوليس والقوات المساعدة التي حلت بدورها بالحي على وجه السرعة من جهة، وبين أبناء الحي الذين لم يستسيغوا عملية الاعتداء على أبّا الحوس بدايةً، ثمّ تصادياً مع ما يحدث بباقي الأحياء من جهة أخرى. عند منتصف النهار تجمهر الشباب من جديد وشرعوا يصفرون ويهتفون: آآلقتلة آآلقتلة. كانت قوات العمومية قد احتلت الشارع. وكان خبر سقوط أول قتيل قد انتشر بين السكان، فمن قائل إنه شيخ في السبعين، ومن قائل إنها طفلة. أخيراً تأكد أن الأمر يرتبط بطفلة لم تبلغ سن 12 بعد ما وجّه إليها قناص رصاصة حية بدرب غلف أصابتها في المقتل. سرت إلى غرفتي على الساعة الواحدة بعد الزوال، أخذت مذكرتي بين يدي، وفتحت الراديو لعلي أسمع نبأً في الموضوع. حركت الإبرة إلى فرانس أنتر، وإذا بالمذيع ينقل أخباراً عن دفع رجال السلطة بالمغرب من مقدمين وشيوخ إلى التهجم على أبواب الحوانيت لكي تفتح يوم الإضراب، وعلى بيوت التجار يطرقونها للضغط عليهم، بواسطة التهديد والوعيد، حتى يباشروا أعمالهم التجارية، فيما تمّ استبدال سائقي الأطوبيسات برجال غرباء عن المهنة. وأشار المذيع إلى حالة الحصار المضروبة على مقرات النقابة وحزب ا.ش.ق.ش، وجريدتي المحرر وليبراسيون. وقال إن ألسنة الدخان تطاولت أعناقها في سماء الدار البيضاء. وبينما أنا أستخبر فرانس أنتر عن الجديد في نشراتها الإخبارية المتعاقبة تناهى إلى مسامعي، غير بعيد، عويل نساء، فقفزت مبارحاً الراديو إلى الدرب. كان الجيران يطلون من النوافذ، وبعضهم واقفاً بالعتبات، ينظرون جميعهم إلى عملية اقتحام البوليس لدار يتقدمهم شيخ الحومة. وبعد ثوان فحسب مرقوا وبين أيديهم أحد شبان الحي وقد لوّوا ذراعه اليمنى خلف ظهره. رموا به إلى جوف فاركونيت، وانطلقوا إلى الشارع يتبعهم عويل وشعارات وحجارة. كانت الساعة الرابعة عصراً. من جديد تردد في الفضاء هدير من الشعارات، فسرت في إثر العشرات من سكان الحي بعدما تأيّد أن اعتقالات همت شباباً بمختلف الدروب ومنهم حتى الأطفال، تضاعف عدد المتظاهرين كلما تقدمنا في الشارع. تلميذان من قسم لي سارا إلى جنبيّ. شاهدت جاراً أربعيني يتقدمني. ولم نكد نصل إلى نهاية الشارع حتى ظهرت عربات مدججة بالعساكر والقوات المساعدة وعربات جيب للدرك إلى جانب بوليس. قفزوا دفعات إلى الأرض مشهرين سلاحاً حقيقياً. المتظاهرون هرعوا إلى الأزقة والدروب الفرعية. وكان لا بد لي أن أبحث عن سبيل لتفادي الاعتقال، فدخلت درباً أمشي، ومنه إلى درب، فآخر، إلى أن صرت قدام المنزل. في السماء حلقت هليوكبتر. رفعت رأسي ألاحق تحليقها المنخفض. ولست أدري كيف هبّت صورة الشيلي زمن سالفادور أليندي إلى شاشة ذهني. هل من علاقة رغم السياقات التاريخية الفاصلة؟ الصورة وردت علي هكذا بشكل مباشر وبتلقائية. ربما لولعي بالسينما، ولربما لقراءاتي المتعددة للتجربة الشيلية. رآني أخي حسن فجاء يخبر أن نوبير الأموي اعتقل إلى جانب أعضاء من قيادة النقابة ومن حزب ا.ش.ق.ش، واستطرد مفصلاً بأن مئات القتلى سقطت بواسطة الرصاص الحي وآلاف الجرحى غصت بها المستشفيات، كما أن آلاف السكان شملتها حملة الاعتقال العشوائي. تعجبت من أين يأتي بهذه الأخبار. ساءلته مصادره، فرد علي بأن كل ما صرح به هو دقيق يأتيه من طلبة اتحاديين، وزايلني بسرعة حتى دون أن ينهي كلامه. وقبل أن تبتلعه عتمة الدرب حذرته من الوقوع في الاعتقال. التفت إليّ وابتسم، ثمّ تلاشى. فكرت في المنظمة، لكن كيف السبيل إلى الاتصال بالرفاق في شروط كهذه. رجعت مرة أخرى إلى إبرة الراديو أديرها على امتداد شريطه المُضيء والمرقم أبحث، في المزيج من الأصوات المنبعث منه، عن المزيد من الأخبار. محطات تتحدث عن قتلى بالمئات والجرحى بالألوف، وثمّة صعوبة في التحقق مما يجري بباقي المدن التي تعرف حروباً حقيقية بين السكان ورجال المخزن، بحسب المذيع. محطات تقول إن السلطات المغربية طردت مراسلي وكالات أنباء وصحف أجنبية. معلق إذاعي وصف ما يجري بالمغرب بنعت Insurrection»»، ولم يصفه بنعت «Emeute» أو Manifestation»». أنا أعرف ما يعنيه مفهوم «الانتفاضة» في منظومتنا الفكرية والسياسية نحن الماركسيين. أقصد الانتفاضة كما حددتها اللينينية بخاصة. كثيراً ما خضنا، نحن اليسار الماركسي، حتى لا أقول اليسار الشيوعي، في مفاهيم مثل «الانتفاضة الشعبية» و«الأزمة الثورية» و«التمرد العفوي» و«الانقلاب البلانكي» و«العصيان المدني».. وغير ذلك من المفاهيم في توصيف وضع سياسي محتدم. قرأت أيضاً نصوصاً مكرسة لكرامشي وروزا ليكسمبورغ وتروتسكي وماو تسي تونغ ولي ذوان. وأفهم كذلك ما صار من تفكيرنا الجديد داخل المنظمة بعدما نحتنا مفهوم «خط النضال الديموقراطي الراديكالي» بما يعنيه من خط سياسي يقوم على مفاهيم من قبيل: «النضال الديموقراطي» و«الاستعداد الجماهيري الوازن» و«المشاركة الديموقراطية» و«الوعي الديموقراطي» و«المصلحة» و«التاكتيك» و«موازين القوى الفعلية».. وهلمجراً. أخبار متضاربة من هنا وهناك حول وقائع الإضراب تتناقلها المحطات الإذاعية. ليتني أستطيع الاتصال بالرفاق. تنقصني معطيات عن حقيقة ما يجري. هل من رفاق تمّ اعتقالهم؟ وما هو الموقف السياسي من هذه الأحداث؟ وهل من تنسيق بين قيادة المنظمة وباقي القوى السياسية؟ أعرف أننا ما نزال على طريق الشرعية لاستجماع قوانا وتنظيمها، وأنه لا مجال للحماسة غير المحسوبة وغير المدروسة بدقة. وأعرف أن الموقف يقضي أيضاً بالمساندة الكاملة لمطالب النقابة والشعب في التراجع الكلي عن الزيادات المجنونة في الأسعار. ماذا نسمي ما يحدث غير انتفاضة شعبية ضد الجور والاستبداد؟ رائزي في خروجي إلى الشارع هو هذا الاستبداد. آخر الانتفاضات كانت في مارس 65. عشتها وأنا بعد صغير في الثالثة عشرة من العمر. أتذكر العديد من ماجرياتها. وما أشبه اليوم بالأمس! الظلم والطغيان نفسهما. ذاكرة الشعب حية. ذاكرة الحكام قاصرة. ليت أحداً يمدني بمعلومات. في حاجة أنا إليها كي أكوّن صورة. أقرب رفيق إلي بحي اسباتة هو على بعد أربعة أزقة، زنقة 89. هي رفيقة بالأحرى، وتشتغل في التعليم وعضو المكتب النقابي كذلك. والخروج في هذا الوقت من الليل معناه التعرض للاعتقال. الهليكوبتر ما انفكت تجوب السماء. أسمع هدير مروحيتها، فيما أنا أكتب. هذه السطور أحررها للتاريخ. فتحت الراديو على فرانس أنتر، بعد لقم سريعة من طعام سددت بها جوعاً صبرت عليه منذ فطور الصباح، ثمّ مررت بالإبرة على الإذاعة الوطنية، وإذا بي في خضم بيان للوزير المعطي بوعبيد. فزعت لوعيده وهو يشهر قائمة العقوبات في حق المضربين من توقيف وطرد.. وما إلى ذلك. قلت إن هذا الرجل أحمق. حقاً إن السلطة تفقد صواب الماسك بها. وهذا هو جنون الحكم بعينه. ثمّ إنني سمعت طلقات رصاص وصمت مكين. وثبت من مكاني على الفور إلى الدور السفلي أصيح: حسن آآحسن حسن آآحسن. خرجت الوالدة والأخوات يسألنني عما يجري. سألت: أين حسن؟ ولمّا لم ألاق جواباً اندفعت إلى آخر الدرب. ثمّ سمعت صوت أخي ينادي عليّ من الخلف. دفعت به أمامي إلى البيت دفعاً. ردّد منفعلاً: إنه الرصاص. الرصاص. صرعوا أحدهم وجروه جثة هامدة إلى السيارة، ثمّ انطلقوا به. قال إنه رأى ذلك بعينه. الشباب رأوهم يجرونه. إنهم قتلوا واحداً وجرحوا آخرين. أحد المجروحين اختفى في ظلمة درب يمشي على ثلاث وهو يحضن بطنه. مجروحون سار بهم الشباب إلى بيوت في الجوار. دخلت بحسن إلى المنزل وقلت له: الزم البيت ولا تغادر. هذا أمر. وقبيل منتصف الليل تحديداً، أصدرت وزارة الداخلية بياناً نارياً تحمل فيه مسؤولية الأحداث إلى كل من حزب ا.ش.ق.ش والك.د.ش، متهماً إياهما بالتحريض على العنف، وبالعجز عن تأطير الإضراب. شعرت بالغثيان وأنا أسمع هذا البيان. وأحسب أنه تمهيد نحو المزيد من التعسف. أكذب إن قلت إنني أغمضت العين هذه الليلة. في الفجر غفوت قليلاً. ثمّ أفقت. أطلت من النافذة إلى الدرب. سكون. وقطع حجارة متناثرة على الأرض. فتحت الراديو، ودخلت الحمام، ولبست كسوتي. نزلت إلى الوالدة وسألتها عن حسن. قالت: إنه في فراشه. صعدت إلى غرفتي أحمل فطوري، وأفردت صفحة جديدة من مذكرتي كي أسجل فيها ما سيحصل يومه الأحد 21 يونيو. وقت الأخبار قال مذيع فرانس أنتر إن ما حصل يوم السبت 20 يونيو بالدار البيضاء على وجه الخصوص هو "مذبحة كبيرة". محطات قالت إنها "مجزرة رهيبة". آخرون وصفوه ب"السبت الدامي". وبدأت الإذاعات في تقدير نتائجه الأولية. فكرت في الخروج والاتصال بالرفاق. حاجتي إلى معرفة أحوال المنظمة كبير. لكن كيف؟ سرت إلى الشارع، فبدا لي خالياً من المارة. ليس خالياً تماماً، إذ هناك عربة مخازنية وبوليس يرابطون في نقط من الشارع. أمر واضح أن معركة حامية جرت بالشارع البارحة. أكوام حجارة في كل مكان وقطع خشب وأوساخ وزجاج وبقايا حريق. رميت ببصري إلى مواقع حولي أبحث عن بقايا خراطيش. أكيد أن المشي في الشارع بات من المجازفات. سأكون غير واقعي إن سرت في مثل هذه الظروف إلى قلب الدار البيضاء. كيف أطلب من أخي اتخاذ حذره، وآتي من الأفعال ما أنهيه عنها؟ رجعت إذاً إلى الراديو في غرفتي. لكن أذني كالمجاسّ موجهة صوب الشارع. الساعة الآن العاشرة صباحاً. أعرف أن حسن غادر البيت. كيف أمنعه؟ يعرف أيضاً أنه صار جسري إلى المعلومات. بعد حين، رأيته بعتبة الغرفة، فألمعت إليه بالقعود. لم أسأله الجديد. من تلقاء ذاته قال: إن البوليس تعزز بقوات التدخل السريع وبقوات الجيش المستقدمة من مدينة خريبكة وهي تجر وراءها عربات مصفحة. لو خرجت ستجدها في الشارع. وقال إن إشاعات تؤكد أن العشرات من الأطفال قضوا اختناقاً بكوميساريا سيدي البرنوصي في زنزانة من 10 متر مربع. كان حسن يحكي فيما أنا أجدني لحظتها عاجزاً عن فعل شيء ملموس. داخلي أحسست بالحرج. وقال إن جهات ذكرت أنها شاهدت البصري والدليمي وحسني بنسليمان وحسن الصفريوي بعمالة الدار البيضاء. مرة أخرى ألفيتني أطرح السؤال: من أين تأتي بهذه الأخبار يا حسن؟ كيف تحصل عليها؟ ومرة أخرى قال: الاتحاديون. قلت له أنت تعلم أنني أمارس السياسة، وقد مارستها أكثر من عشر سنوات، ومع ذلك أجد صعوبة جمة في توفير معلومة واحدة مما تنقله أنت إليّ. صرتَ صعباً يا أخي. ابتسم حسن وانصرف تاركاً إياي أتقلب في هواجسي وشكوكي. أدوّن هذه الانطباعات بما لها وما عليها. أدوّنها للتاريخ. في الخارج تصلني في هذه الوقت بالضبط شعارات الشباب. معنى ذلك أن التجمهرات استؤنفت، وأن الاصطدامات ستبتدئ بعد قليل لا محالة. أين يكون حسن؟ تركت ما في يدي وبارحت الغرفة. في الباب صادفت الوالدة تطل، وتطلب من أحدهم أن يستدعي لها حسن. قبلت قنة رأسها ورجوتها أن تعود إلى الداخل. قلت لها إنني سأتولى أمر أخي الصغير. في الواقع، أردت أن أطمئنها فحسب. أعرف أنه من الصعب علي أن أتحكم في حركة الولد، ولا سيما أن جل أقرانه في الشارع. أتمنى فقط أن لا يتأذى. لمحت مدرعة تتقدم نحو المتظاهرين وخلفها القوات تشهر سلاحها، فوضعت يدي على قلبي. ما يشاكل متاريس أقيمت بالشارع. حجارة وصناديق خشب وأشلاء متنوعة وعجلات مطاط وأكياس خيش وآجور.. سمعت دوي رصاص في الفضاء. لم يسقط أحد. لكن الجموع تفرقت وذابت في الدروب. بدوري انسحبت إلى البيت. لا وجود لحسن. فرانس أنتر تخبر بأن نوبير الأموي ومجموعة من أعضاء المكتب التنفيذي للك.د.ش قد تمّ اعتقالهم وساقت أسماء كل من البزيوي وشناف وخيرات والأشعري ومنشد ولمراني ولحسايني والشرقاوي رئيس بلدية عين الذياب ومحمد كرم الكاتب العام لفرع الحزب. وأكدت موت أطفال بالمقاطعة 46 بسيدي البرنوصي نتيجة الاكتظاظ. عند هذا الخبر اندهشت من معطيات حسن. كل ما يحمله إليّ الولد إذاً هو صحيح مئة في المئة. تذكرت أخي ورحت أتطلع من النافذة. في الجهة المقابلة شاهدت جاراً يطل ويشير إليّ بالأصابع بما يعني أنه رأى حسن يمر من الدرب وهو يجري مع رفاقه. تغدينا ولا أثر لحسن. قلقت الوالدة كثيراً. بعد الظهر لم يكشف عن علامة. قلقت بدوري وقررت أن أخرج للبحث عنه. وفي الوقت الذي أردت أن أفتح الباب سمعت وقع حذاء في العتبة. فتحت فألفيتني وجهاً لوجه مع البوليس والمقدم. قالوا إنهم يبحثون عن حسن. انتفضت الوالدة في الداخل والبنات يصرخن في البوليس بأنه لا وجود للولد بالبيت ولا وجود له بالحي. بل هو مسافر عند أعوامه بسوس. قال المقدم كيف يكذبونه وقد رآه بأم عينه يرشق المخزن بالحجارة. قالت له السعدية أختي، كبرى البنات، إنه غالط. وكل ذلك من صنع خياله فقط. آنذاك دلف البوليس إلى الدور السفلي، بينما صعد بوليسي إلى الدور العلوي وسطح الدار. سمع البوليسي صوت الراديو في غرفتي فمال إليها. رأى الجهاز وإلى جانبه المذكرة مشرعة وكتباً. تراجع من دون أن يتفوه بكلمة. غادروا، كلهم، لكن الوالدة قعدت أرضاً وراحت تبكي وتحط ظهر كفها اليسرى على سبنية رأسها وفوق جبهتها، وهي تستحضر الوالد بالاسم في غيابه، وتخاطبه بصوت مسموع كما لو كان قاعداً وزانها، وتقول له معاتبة: كيف تسمح لنفسك يا السي أحمد في أن تبقى بفرنسا وقت حاجتي إليك في أن تكون بجواري في ما أنا عليه من محن. أنظر ماذا يفعل بي ابنك حسن، أنظر يا السي أحمد. كنت أرمقها، بينما تحلقت البنات على رأسها يواسينها ويشدن بخاطرها. هذا الموقف آلمني كثيراً، وحسبته يعنيني بالدرجة الأولى، فصعدت إلى غرفتي. ومن جديد طافت الهليكوبتر فوق الدور السكنية، وسمعت شعارات وصفيراً لوقت طويل، ثمّ جلبة، فطلقات رصاص. تكرر الأمر على امتداد ثلاث ساعات إلى أن سقط الظلام. وغبّ وقت نادت علي حسناء تقول إن ولداً قدم إلى البيت على عجل ينقل إليهم رسالة من حسن مفادها أنه بخير، وإنما قد اختبأ في موضع آمن بعدما توعده المقدم باليد من بعيد، ونعته للبوليس بالإصبع. ولما قلت لحسناء مؤنّباً إنه كان عليهن أن يستوقفن الولد حتى أراه، قالت إنه نقل الرسالة، ولم يترك لهن فرصة للكلام، واختفى في الدرب الشمالي. لم يعد لي من مصدر للأخبار سوى الراديو وخرجات إلى الشارع. والراديو أخبر بأن جريدتي «المحرر» و«ليبراسيون» قد منعتا، وأن مقريهما أفرغا من الصحافيين والعاملين، وأن مديرهما القرشاوي سيقدم إلى القضاء بتهمة التحريض على العنف والإخلال بأمن الدولة. ثمّ قامت محطات عدة، مساء هذا الأحد، بتقديم حصيلة ضحايا اليومين الأخيرين، وهي كما يلي بالتقريب: أزيد من 600 قتيل، وأكثر من 4500 جريح، وما يفوق 20000 معتقل. أقول إنها حصيلة مؤقتة. وأنا أتفق مع المحطات بأن الراجح هو أن هذه الحصيلة مرشحة للارتفاع. بل ولعلنا سنسمع، في قادم الأيام، ما هو أكثر درامية مما تذيعه المحطات وتتناقله الألسن الآن. أدوّن هذه الملاحظات، فيما أنا أفتح معصمي على الساعة العاشرة ليلاً. وها أنا سأضع القلم وسأغلق المذكرة كي أرتاح قليلاً، ثمّ أعود إليها. سأشرب حبة أسبرين وأرتاح. أحس صداعاً يشق رأسي. لا بد أن أفعل وإلاّ انفجر دماغي. فما أعيشه في داخلي اللحظة أقوى من أن يحتمل. أنا غاضب. نعم، أشعر بغضب لا يقاس. وأحس بأنني سخيف وأنا لا أصنع شيئاً حقيقياً حيال ما يجري في الشارع. وربما لهذا السبب أيضاً يخرم هذا الصداع رأسي كما يخرم البرغي الصامولة..». النص الذي أمد به إبراهيم هيئة التحرير توقف عند هذا الحد للأسف. وشخصياً، تمنيت لو كان استرسل في حديثه عفو الخاطر، فنقل لنا تداعيات وقائع اليومين أو الثلاثة أيام التي عاشتها الدار البيضاء بعامة، وحي اسباتة بخاصة، من شهر يونيو 1981. وأراهن أن نص الشهادة إياها يزيد بكثير عن هذه الورقات التي بعث بها هو إلينا. أما لمَ سمح لنا الرجل بالاطلاع على هذا القدر فحسب، فهو مما لا أستطيع أن أفضي فيه بفكرة. وفي كل الأحوال، هأنذا أقوم بترجمة المحصّل عليه متمنياً أن أكون قد أمّنت روح النص الأصل وعكسته.
*يستحضر هذا الفصل (السابع عشر) من رواية «بيضة العقر» (2014) ذكرى انتفاضة 20 يونيو 1981 بالدار البيضاء (المغرب). وفي المنجز الروائي لمحمد الهجابي:
- بوح القصبة (2004)
- زمان كأهله (2004)
- موت الفوات (2005)
- إناث الدار (2011)
- كل هذا، سهل المنال (تنتظر النشر)
- بيضة العقر (تنتظر النشر)
تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم
الصفحة الرئيسية | [2] [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا
جميع الحقوق محفوظة © 2009 صوت اليسار العراقي
الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا |
|
---|