<%@ Language=JavaScript %> اللقاء الأخير مع عبد الكريم قاسم مع صحيفة «لوموند» الفرنسية في 5 شباط 1963

   

لا

للأحتلال

لا

للخصخصة

لا

للفيدرالية

لا

للعولمة والتبعية

حضارة بلاد الرافدين   

    

                                              

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين                                    

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                            

 

 

اللقاء الأخير مع عبد الكريم قاسم

 

قاسم لصحيفة «لوموند» الفرنسية في 5 شباط 1963: أتعهد علنا بأن يشهد عام 1963 ولادة البرلمان العراقي المنتخب

 

بغداد: 4 شباط/ فبراير 1963، من إدوارد صعب:

أمضيت بعضاً من الليلة الماضية برفقة الزعيم عبد الكريم قاسم. بدأت مقابلتي معه في التاسعة من مساء الخميس وتواصلت حتى فجر الجمعة، ففي حوالي الثانية عشرة ليلاً كان على الزعيم قاسم أن يستقبل مبعوثين من محطات الإذاعة والتلفزة الفرنسية، عبّر لهم عن انشراحه لعودة العلاقات الدبلوماسية مع فرنسا.

لا يحب رئيسُ الحكومة العراقية أجهزة التسجيل الصوتية ولا ضوضاء آلات التصوير، كما يبغض المقابلات التقليدية المستعجلة. أما أجوبته فهي عامة، بل عامة جداً أحياناً. ولقد بدا لي متوتراً، يبدد توتره بمنديل صغير يضغط عليه بشكل دائم في راحة يده اليسرى، التي تسند كتفاً تعرض للشلل منذ أن اخترقته رصاصات خصومه، فمحاولة الاغتيال، التي نجا منها بمعجزة عام 1960 [الصحيح عام 1959] تركت آثاراً عميقة عليه، خرج منها ضعيف البدن.

هذا الرجل، الذي أعود لملاقاته للمرة الأولى منذ حزيران 1959، ربما لم يفقد شيئاً من حيويته، إلا إن ثمة تجاعيد تعتلي الآن جبهة وجهه الأسمر، كما أن ملامحه توحي ببعض القلق. قال لي: "إن ساعتين او ثلاثاً من النوم تكفيني يومياً، وانا مستمر هكذا منذ اربع سنوات، فعندما اسمح لنفسي بالنوم أطول من ذلك يداهمني إحساس بالذنب. تنتظرني واجبات كثيرة، بينما عمر الإنسان قصير جداً".

سمح لي الزعيم قاسم، بمعية ضابطين من مساعديه وبضعة مراسلين أجانب كانوا في مكتب ملاصق لمكتبه، ان ازور قسم الارشيف العائد لسكرتيره الصحفي الضابط برتبة رئيس سعيد نوري. وهنا طلب الزعيم ان يقدم لنا الشاي، ثم توجه لي منهمكاً في أحاديث عن مواضيع لا ترابط بينها أحياناً. موضوعاته المفضلة هي الحديث عن حب المقربين، والتضامن العالمي ولا سيما على البؤس، إضافة الى الوسائل الكفيلة بتحرير الفقراء من مشاكلهم. يقول الزعيم: "أنا نفسي منحدر من وسط فقير جداً، وهو ما اعترف به بكل فخر، كان ابي نجاراً، وقد واجهت أمي الكثير من الضنك في سعيها لكي احصل على تعليمي المدرسي. لذلك استطيع ان اتصور ماذا تعني المدرسة في حياة الأطفال. وهو ما يفسر لكم لماذا انا في عجلة لضمان التعليم المدرسي لكل الأطفال الفقراء في بلادي، ذلك لأنني اريد ان أجنبهم المشاق التي واجهتها في طفولتي".

حتى تلك اللحظة، كان حديثه مثيراً للعواطف، إلا ان نبرته واسارير وجهه ما لبثت ان تغيّرت كما لو انه أخذ بلعب دور شخص آخر اكثر تلاؤماً معه، حيث راح يبدو صارماً، بل مهدداً، وهو يضيف: "لكن حذار، إن اقدامي ثابتة بمتانة على الأرض، كما ان رأفتي لا تذهب ابعد من الحدود المقبولة. انني لا احب التنظير، لكن عندما يتعلق الامر بالمساس بهيبة الدولة سنضرب بسرعة وبشدة، فنحن لا نمزح عندما يتعلق الامر بالمساس بالمبادئ. ان ما قام به نفر من الطلاب قبل ايام حيث سمحوا لأنفسهم بالاعتصام في مكاتب إدارة جامعة بغداد، هو تجاوز على سلطة الدولة. واقول بشكل واضح: على الدولة، ولا اقول على عبد الكريم قاسم. ولذلك، ارسلت مفرزة عسكرية لإخراجهم منها، إلا انني مع ذلك حرصت على ان اجرد الجنود من الاسلحة قبل ان ارسلهم لينصحوا صناع الفوضى بالعودة الى رشدهم".

الدسائس الأنجلو ـ أمريكية

وفجأة توقف الزعيم عبد الكريم قاسم عن الكلام، إلا ان شفتيه استمرتا في التحرك، أو هكذا تبديتا لي، كما لو انه اخذ يتفوه بكلمات موجهة لغيري، ثم للحظة خيل لي ان ابتسامة منه أوشكت على الارتسام على وجهه، غير انها لم تكن في الواقع سوى حركة لا إرادية من فكه الاعلى. كان ينظر إلي نظرة توحي بالتركيز، مما اكد لي أن الرجل متألم جسدياً كما معنوياً. وهنا انتقل الى الحديث عن فرنسا قائلاً: "توجد بيننا وبين الشعب الفرنسي روابط لم يمكن لأحد ان يفسدها بما في ذلك حرب الجزائر. لقد قمنا بسببها بقطع علاقاتنا مع الحكومة الفرنسية. وتوجب من اجل ان نعيد علاقاتنا مع فرنسا، تدخل رجال الأدب الذين جاءوا الى بغداد للمشاركة في احتفالات ذكرى الفيلسوف العراقي الكندي، فلقد تأثرت جداً من جانبي بخطابات الاساتذة جاك بيرك وبلاشير، إذ اكتشفت آنئذٍ الى أي درجة كان شعبنا قريباً من الشعب الفرنسي".

ويواصل الزعيم قاسم قائلا: "إلا إنني لا أقول ذات الشيء حيال الانجليز والأمريكيين، فما الذي لم يفعله هؤلاء لكي يستعبدوا العراق ولكي يحكموا قبضتهم على ثرواتنا؟ والأدهى من ذلك، انني استلمت قبل بضعة ايام فقط مذكرة تهددني فيها واشنطن بفرض عقوبات ضد العراق اذا تمسكت بمواقفي. ولا ادري كيف يعطون لأنفسهم الحق باستخدام لغة كهذه؟ ان الفترة الهاشمية ولّت الى غير رجعة. وهم لا يدركون ان جمهوريتنا لا يمكن قهرها طالما هي نابعة من ارادة الشعب وحده.

ـ إدوارد صعب: هل هناك مؤامرات أخرى تهدد نظامكم؟

ـ عبد الكريم قاسم: هناك المؤامرة الأخطر. وهذه ليست موجهة ضد العراق ولا ضد سوريا انما ضد فلسطين بشكل خاص، فهناك مؤشرات في الأجواء توحي بوجود مؤامرة لتصفية المشكلة الفلسطينية تقودها الولايات المتحدة الأمريكية. وهم يدركون ان النجاح في تنفيذها يقتضي التخلص قبل اي شيء من الحكومات التقدمية المناهضة لاسرائيل. والأمريكيون يتمتعون سلفاً بتواطؤ عدد من الدول العربية، ولم يبق عليهم سوى خنق سوريا والعراق. لذا، هم يخلقون بنا شتى الصعوبات داخل البلد بهدف اشغالنا بعيداً عن الاهتمام بالمشكلة الفلسطينية. وفيما يتعلق بسوريا، فانني اقولها علناً باننا سنكون الى جانبها مع اول اشارة، فهم يسعون، كما في العراق، الى تلغيم البلاد من الداخل. انني اعرف اسماء كافة العناصر المخربة، الا ان الامر لا يعود لي بصفتي رئيساً للحكومة اصدار الامر باعتقالهم انما اترك الأجهزة المسؤولة في الدولة كي تقوم بواجباتها الملقاة على عاتقها. ايضاً ان من المفيد ان نمنح لكل فرد منهم فرصة العودة الى رشده، فما اعتقده احياناً مع نفسي هو انه لا بد ان يأتي ذلك اليوم الذي سيعودون فيه الى جادة الصواب. انني أفضّل العفو عند المقدرة، لكن يجب عدم استغلال ذلك. وكما تعلمون فان عليّ منع عناصر التخريب من التقاط انفاسها. ورغم هذا كله لا تتوقف اذاعات وصحف بعض الدول العربية من اتهامي بالاختلال وحتى الجنون الحاد وبالدكتاتورية وبغيرها من الاتهامات. لكننا لن نترك لهذه الاتهامات ان تستفزنا، ولا سيما نحن نعرف أنها تصدر عن ادوات في خدمة الاستعمار. وهذا الاخير اوجد له بعض الوسائل، يأمل عبرها ان يتسلل الى صفوفنا.

ـ إ. ص.: سيادة الرئيس، مضت سنتان منذ وعدتم العراقيين بدستور دائم وبانتخابات وبمجلس تشريعي. اين وصلتم في انجاز كل هذه المشاريع؟

ـ ع. ك. ق.: أتحدى أن يُذكر لي مثال واحد عن تعهد قطعته ولم التزم به. ففي يوم من الايام، وكان ذلك في 11 حزيران 1959 خلال مؤتمر الشبيبة الديمقراطية الذي انعقد في بغداد، قطعت وعداً ببناء (مدينة الثورة). آنئذ اعتبرني كثيرون مجرد حالم وطوباوي. لكن الجميع اليوم بامكانهم الذهاب الى هذه المدينة اللطيفة التي يعيش فيها ثلاثمئة وخمسون الفاً من السكان جميعهم من ذوي الدخل المحدود. وقريباً ستكون لها حدائق عامة وشوارع مبلطة ومسبح كبير. وفيها الآن عدد من المدارس ومستشفى ومستوصفات بنيت بالتزامن مع بناء المنازل. وهذا ليس كل شيء. هناك ايضاً سد دربندخان الاروائي الذي كلف الدولة 26 مليون دينار واترك الكلام عن الطرق والساحات والنصب والعمران والمصانع الحديثة والاصلاح الزراعي وغيرها. وكل هذا بهدف اشاعة الرفاه الاجتماعي. اننا لا نعادي الاغنياء ما داموا مستعدين لمعاونتنا في سعينا الهادف الى رفع المستوى الاقتصادي والاجتماعي للفقراء. اما فيما يخص الدستور، فانني اتعهد الآن علناً بان لجنة من الخبراء ستشكل في نهاية شهر شباط 1963، لتكلف بإعداد مشروعي دستور دائم وقانون انتخابي جديد. وسنضع تحت تصرفها من اجل ذلك، نصوص عدد من الدساتير الاجنبية ومنها النصوص السويسرية والالمانية والفرنسية والمصرية والسورية. وفي كل الأحوال، أنا أتعهد علناً أمام الشعب بان يكون عام 1963 هذا عام ولادة الجمعية الوطنية العراقية.

* * *

صار الوقت متأخراً حيث كانت عقارب الساعة تشير إلى الثانية فجراً، إلا ان الزعيم قاسم بدا كمن يشعر بحاجة قوية للتكلم عن منجزات ثورته. وعنها تحدث طويلاً. انه يرفض تهمة الدكتاتورية التي توجه له ويشعر بسرور ان يرى من يستمع له وقد اقتنع بما يقوله. على أية حال، بإمكاننا ان نتصور ما نشاء عن هذا الرجل الذي أعلنت الصحافة الدولية والعربية مراراً طوال السنوات الأربع الماضية عن سقوطه الوشيك بينما هو عرف ان يصمد في موقعه، بيد ان الزعيم قاسم لم يعد ثورياً، فلقد وجدته واقعياً مؤمناً برسالته ويتمتع بطريقة تفكير راجحة واكثر تطوراً من تلك التي يتمتع بها كثير من زعماء الدول العربية، سواء الذين ينظرون له نظرة حقد او نظرة شفقة.

كانت الساعة قد بلغت الرابعة وخمسة واربعين دقيقة من ذلك الفجر الذي بدأ يطل علينا. عندئذ وجدت ان الأوان قد آن كي انصرف. استأذنت الرجل، فمدّ لي يده مصافحاً وهو يقول: "سلّم لي على عمال المطبعة في الجريدة".

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

 

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا