في الذكرى الحادية عشرة لأحتلال العراق:

 

متى سيحاسب المتسببين فيه ومن سيفعل ذلك؟

 

 

د. سعد ناجي جواد

آذار

في مثل هذه الأيام تحل الذكرى الحادية عشر على بداية الحرب الأمريكية-البريطانية-الأوربية على العراق الذي أنتهى بأحتلاله بالكامل في نيسان 2003. ويشكل هذا العدوان غير الشرعي ذكرى مؤلمة على قلوب محبي العراق وابناؤه الشرفاء. وفي

هذه السطور لا أريد أن أعود الى مناقشة الأسباب الكاذبة التي أستخدمت لتبرير الحرب والأحتلال. ولا ما آلت اليه الأمور من قتل وتدمير وفساد ليس له نظير، ويكفي أن أشير كل من لايزال يشكك بالأثار الكارثية لتلك الحرب الى تقرير منظمة هيومن رايتس ووج لهذا العام كي يعرف ماحل بالعراق بعد كارثة الأحتلال. ولكني سأتطرق الى أمور أخرى ربما يكون من المفيد التذكير بها. أولا لابد من التذكير أن الحرب والأحتلال قد مهد لهما بحملات أعلامية كبيرة شاركت فيها كل وسائل الأعلام المرئية والمسموعة و الصحف الأمريكية والغربية وبدون أستثناء، وشمل الأمر الصحف اللبرالية والتي تتبجح بأنها لا تلتزم بسياسة دولها. ومع ذلك فأن كل هذه الجهات والأقلام انصرفت الى امور أخرى ولم يتم محاسبة أي منها على ما أقترفته من جريمة بحق العراق وشعبه. ألأكثر من ذلك أن الرأي العام سواء في الولايات المتحدة او بريطانيا او أوربا تم أهماله ولم تؤخذ أحتجاجاته الهادرة الرافضة للحرب بعين الأعتبار، وتم المضي في العدوان دون أي اعتبار أخلاقي أو سياسي.

في العراق ايضا وفي مثل هذه الأيام قبل أحد عشر عاما كان الناس في ترقب لما سيحدث. ومن المؤسف القول أن البعض كان يترقب ذلك فرحا متصورا أن ما سيحدث سيجلب الديمقراطية والرفاهية وأحترام حقوق الأنسان. وفي النقاشات التي سبقت الحرب كنت أحاول عبثا مع من يفكر بهذه الطريقة من بعض الزملاء أن ابين لهم خطأ هذا الظن، وأذكرهم بأن كره حزب البعث وسياسته يجب أن لايدفعهم لقبول عدوان خارجي وحرب مدمرة وأحتلال أجنبي. وكان البعض يتهمني بأني أتحدث بعاطفية بعيدة عن العقلانية. ولم أكن اعتقد، ولا أزال، كيف يمكن لأي عاقل أن يتصور أن الولايات المتحدة وبريطانيا كانا يضمران خيرا للعراق أو للعراقيين او للعرب بصورة عامة. وربما نسى او تناسى القابلين بالتهديدات الأمريكية البريطانية أن البلدين لم يكونا يحملان سوى الشر تجاه العراق. أنا أعترف بأن حبي للعراق ولعروبتي لايمكن أن يضاهيهما أي حب. وأن موقفي الرافض لمخططات الولايات المتحدة وبريطانيا وحلفائهما لم يكن مبنيا على موقف وطني وعاطفي فقط. ولكن العقل والشواهد التي كنت أستعرضها في ذاكرتي كانت كافية لكي ترشدني الى مثل هذا الموقف. فلا يمكن أن أنسى ما فعله الحلفاء بالعراق أثناء وبعد حرب تحرير الكويت. ويكفي أن أتذكر أن قوات التحالف دفنت بالجرافات أكثر من ثمانون ألف جندي عراقي في خنادقهم الترابية، هذه الجريمة التي كشفت بصورة جلية بعد نهاية حرب 1991. ولايمكن أن أنسى قتل النساء وألأطفال في ملجأ العامرية في نفس الحرب والذي لم يكن يضم سوى من لجأ الية من المدنين العزل، كما لايمكن أن أنسى حجم الدمار الهائل الذي تسببت به الغارات الجوية بمعالم العراق وجسوره وبنيته التحتية. ولايمكن أن أطرد من ذاكرتي ليلة قبول الأطراف المختلفة بقرار وقف أطلاق الناركيف عشنا نحن ابناء بغداد ليلة ليلاء مرعبة، حيث بدأ القصف المتواصل منذ غروب الشمس وحتى فجر اليوم التالي الذي تقرر فيه أن يبدأ وقف أطلاق النار، وشمل مواقع قصفت من قبل ومواقع لا علاقة لها بالأهداف العسكرية بمئات الغارات من الطائرات الأمريكية وطائرات التحالف، ومنها طائرات عربية ومع الأسف، لا لهدف سوى الحاق الدماربالعراق وقتل أكبر عدد ممكن من الأبرياء بغرض أرعاب السكان. وفوق كل ذلك لايمكن أن أتجاهل قرارت الحصار المدمرة والتي أستمرت حوالي ثلاث عشرة سنة وبدون أي مبرر أنساني او أخلاقي. أن من يتتبع محاضر جلسات اللجنة الدولية المكلفة بمراقبة الحصاريجد، وبصورة لاتقبل اللبس كيف أن أعضاء هذه اللجنة، وخاصة العضوان الأمريكي والبريطاني فيها كانا يتصرفان بطريقة مستخفة بحياة العراقيين المحاصرين ومصائرهم ويزيدون من عذاباتهم اليومية ويتفنون في منع وصول الأغذية والأدوية لهم. ولا أعتقد أن احدا يمكن أن ينسى كيف أن هذه اللجنة منعت وصول أقلام الرصاص لأطفال العراق وادوية القلب وضغط الدم العالي بدعوى أن فيها مواد يمكن أن تسهم في أنتاج أسلحة الدمار الشامل!!! ويكفي أن اذكر أن هذا الحصار حصد أرواح أكثر من مليون وثمنمائة الف نفس، كان بينها اكثر من نصف مليون طفل. هذا العدد الهائل من العراقيين الذي قالت عنه وزيرة خارجية الولايات المتحدة سيئة الصيت مادلين اولبرايت، بأنه ثمن يستحقه هدف الأطاحة بالنظام العراقي!!!. علما بأن نفس الوزيرة، والتي كان أقطاب من أطلقوا على أنفسهم اسم (المعارضة) يلهثون لنيل رضاها، والتي تكتب الآن عن (مأساة حقوق الأنسان في سورية)، صرحت في برنامج تلفزيوني آخر، وعندما سئلت عن سبب أستمرار الحصار على الرغم من ان العراق أصبح خال من أسلحة الدمار الشامل ومن القدرة على أنتاجها اجابت وبكل برودة دم (نعم هذا صحيح ولكن العقول ماتزال موجودة هناك)، الأمر الذي يفسر تصفية أكثر من خمسمائة عالم عراقي بعد الأحتلال وهي عملية مستمرة ليومنا هذا. كما وصل الأمر بأحد أقطاب هذه المعارضة أن يصر في تقرير تلفزيوني على أن قصف ملجأ العامرية كان عملا عسكريا مبررا لأن النظام كان يخفي فيه ترسانة أسلحة، علما بأن قائد القوات الجوية الأمريكية في حرب 1991 وفي نفس البرنامج أكد أن قصف الملجا كان خطاءا عسكريا كبيرا أودى بحياة الكثير من ألأبرياء. ولايمكن أن أنسى أن القادة السياسين الأمريكان قبل عام 2003 والذين كانوا من المحرضين على العراق كانوا من أشد حلفاء الصهيونية ومستعدون لفعل أي شيء لحماية الكيان الصهيوني، مثل بوش وتشيني وبيرل وولفوتس ودوني وأنديك. حتى أن الأخير اتهم في عام 2000 صراحة من قبل وكالة الأمن الفدرالي الأمريكي، الأف بي آي، بأنه تجسس لصالح أسرائيل عن طريق تسريب وثائق سرية لها. ومع ذلك ظل بعض أقطاب المعارضة في الخارج يصرون على أن أنديك هو (افضل من يفهم معاناة العراقيين وانه مخلص في نواياه تجاه العراق). وكل هذا لا يمكن قياسه بالكمية الهائلة من أسلحة الدمار التي أستخدمت في العراق وضده مثل اليورانيوم المنضب والقنابل الفسفورية وغيرها من الأسلحة الفتاكة التي لايزال أثرها يلوث البيئة العراقية ويفتك بأبنائها، والغارات المتقطعة المدمرة التي أستهدفت العراق مابين 1991 و2003 والتي كانت تحصد أرواح الأبرياء في الغالب. وبعد كل هذا كيف يمكن لعاقل، حتى وإن لم يكن وطنيا او محبا للعراق أن يتصور ان ما كانت تضمره الولايات المتحدة وبريطانيا وحلفائهما فيه خير للعراق ويهدف الى أحلال الديمقراطية والرفاهية وأحترام حقوق الأنسان. وفي الحقيقة فان احترام الأنسان العراقي وحقوقه قد تجلى بأبهى صوره في فضائح سجن أبو غريب والقتل اليومي الذي ظل العراقيون يعيشون في ظله حتى اليوم. لقد قدرت مجلة لانست الطبية البريطانية المحترمة والرصينة في عام 2007 أن عدد قتلى العراقيين وصل الى سبعمائة الف ضحية، في حين ان تقرير منظمة ألترنت الأمريكية اكد في عام 2009 ان عدد القتلى وصل الى مليون شخص، وبالتأكيد فأنه تجاوز هذا العدد الآن بكثير. ومع كل ذلك فأن الأعلام الأمريكي والغربي والذي همش القضية العراقية بعد الأحتلال لا يتطرق الى العراق اليوم إلا بما ندر. ولا أدري أين ذهب الأعلاميون وأصحاب الأقلام التي روجت للعدوان وللأحتلال وللأكاذيب التي بررت قيامه، وكيف تم السكوت عليهم. وكيف ان منظمات حقوق ألأنسان في الدول ألأوربية لم تطالب بأحالتهم الى القضاء لكذبهم وتزويرهم. علما أن عددا غير قليل من هذه الأجهزة الأعلامية و الأقلام يمارس اليوم نفس الدور مع ما يحدث الآن في سوريا ولبنان والقضية الفلسطينية، ومارسه قبل ذلك مع ليبيا.

وفي هذه المناسبة لابد من التطرق الى الدور السيء الذي لعبه بعض من حملوا الجنسية العراقية وللأسف الشديد في تحريض الولايات المتحدة وبريطانيا والغرب على العراق، ولو ان هذه الدول لم تكن بحاجة الى هذا التحريض لأن خططها كانت جاهزة. ولكن ما يدمي القلب هو كيف افلت هؤلاء المحسبون على العراق بهوياتهم بعد أن ظهر زيف كذبهم. فمن (العالم النووي) الكاذب، الى مدعي امتلاك العراق لمختبرات بايولوجية متنقلة الى غيرهم الذين تسببوا بقتل مئات الآف من العراقيين الأبرياء من أجل أن يحصلوا على أقامة او جنسية الدول التي لجأوا اليها. ولا أولئك المقيمين في الخارج الذين ابتهجوا بالعدوان على العراق بحرق سفارات بلدهم في الدول الأوربية لكي يعودوا ويتبوأوا مناصب رفيعة فيه. أو أؤلئك الذين كان أهم أهداف (نضالهم في الخارج) هو أدامة الحصار القاتل على أبناء جلدتهم ومهاجمة كل من يطالب برفعه او تخفيفه. أما أن الغالبية العظمى منهم قد غيرت طريقة حديثها الآن وبدأت تتحدث عن أحتلال بعد أن كانت تنعته بالتحرير، وتنتقد دول التحالف بتدميرها للعراق، فأن ذلك لن يخال على الكثير من العراقيين الذين يعلمون جيدا بأن هذا التغيير في المواقف جاء بعد أن أفلسوا من التمتع بالمناصب التي كانوا يحلمون بها بدعم أمريكي وأن رصيدهم الشعبي هو لاشيء، وبالتالي فأنهم يحلمون بأن تنخدع الناس بهم وتنتخبهم.

لقد آن الآوان لكي تتبنى جهة عراقية او عربية أو دولية منصفة عملية احالة كل من تسبب بالكارثة العراقية من صحفيين وأعلاميين ورموز للمعارضة السابقة وملفقين للأكاذيب الى القضاء نتيجة كذبهم وتزييفهم كي ينالوا جزائهم العادل. كنت أتمنى أن أقول أن على الحكومة العراقية أن تفعل ذلك ولكن كيف لحكومة أتت مع الأحتلال وحصلت على ما حصلت عليه بمباركته أن تقوم بهذه العملية الكبيرة. بالتأكيد أن القصاص من المتسببين إن حدث لن يعوض العراقيين عن ما أصابهم ولن يعيد الحياة الى أكثر من مليون ضحية ذهبت نتيجة لهذا العدوان الهمجي وتبعاته ولن يعوض ملايين الأرامل واليتامى والمهجرين الذين نتجوا عنه، ولكنه يمكن أن يجعل من أجرم عبرة لمن يحاول أن يفعل نفس الشيء الآن وفي المستقبل.

 

* أكاديمي عراقي