<%@ Language=JavaScript %>  د. رفعت سيد أحمد فى أجواء الذكرى الثالثة لثورة  يناير تعالوا نعيد القراءة بنظرة مختلفة عودة الروح .. تأمل جديد فى رائعة توفيق الحكيم

   

لا

للأحتلال

لا

للخصخصة

لا

للفيدرالية

لا

للعولمة والتبعية

حضارة بلاد الرافدين   

    

                                              

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين                                    

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                            

 

فى أجواء الذكرى الثالثة لثورة  يناير تعالوا نعيد القراءة بنظرة مختلفة

عودة الروح ..

تأمل جديد فى رائعة توفيق الحكيم*

 

د. رفعت سيد أحمد

 

أخطر مقاطع الرواية التى ربما لم يلتفت إليها النقاد الكبار والثوار هى ذلك الحوار الرائع الذى جرى بين مفتش الرى الإنجليزى وعالم الآثار الفرنسى عن (الإنسان المصرى) وثوريته الكامنة التى ما تلبث ان تنتفض حين تمس كرامته الوطنية اوتهان مقدساته

* مفتش الرى الإنجليزى يسخر من الفلاحين المصريين فيرد عليه عالم الآثار الفرنسى : هؤلاء يمتلكون ما لا تمتلكه انت او  دولتك ،هؤلاء  يمتلكون  الحكمة العليا فى دمهم .. جئ بفلاح منهم وأخرج قلبه تجد فيه رواسب عشرة آلاف سنة من تجارب ومعرفة وثورة رسب بعضها فوق بعض وهو لا يدرى !!

* هؤلاء مثل أجدادهم يغنون قائلين  : عندما يصير الوقت خلوداً سنراك من جديد حيث الكل فى واحد.. هؤلاء بهم القوة الكامنة .. والثورة الكاملة !

 

بقلم د. رفعت سيد أحمد

*  مع بدء الاحتفالات بالذكرى الثالثة لثورة يناير ووسط حالة التخبط والفوضى التى تعيشها مصر اليوم وبعد عجز البعض عن فهم ما جرى فى 30 يونيو 2013 ورسالة الشعب والجيش إلى نخبته بأن تنتبه وألا تكرر أخطاء الإخوان فى حكم مصر ، وسط هذه الأجواء دعونا نتأمل مجدداً وبعيون معاصرة ، أهم صفحات الرواية الخالدة (عودة الروح) لتوفيق الحكيم ، تلك الرواية التى استند إليها عبد الناصر – كما قال لاحقاً – فى ثورته وقيل أنه تأثر جداً ببطلها ، ونحسبه – وهو ما لم يقله – قد تأثر بالفقرات التى سنوردها فى هذه القراءة الجديدة ، وهى الفقرات التى على كل سياسى فى مصر ونخبتها أن يعيدوا فهمها لأنها ببساطة تكشف معدن الشخصية المصرية ، وخطورتها حين تثور ، فى هذا السياق لم أجد أجمل مما كتبه توفيق الحكيم فى رائعته (عودة الروح) والتى صدرت طبعتها الأولى فى الثلاثينيات ، ليعبر بها عن تميز الشخصية المصرية وحضاريتها وأنها تختزن بداخلها عوامل الثورة والنهضة ، مهما كان مظهرها الخارجى فقيراً أو بائساً ، ترى ماذا قال الحكيم ؟! سنذهب إلى أهم وأخطر مقاطع الرواية الخالدة – وفقاً لتقديرنا الشخصى – تلك الرواية التى أثرت فى جمال عبد الناصر وكانت أحد أسباب إلهامه بالثورة ، لقد دار حوار بين مفتش الرى الإنجليزى وبين عالم الآثار الفرنسى بعد وليمة طعام التهماها لدى والد (محسن) بطل الرواية وأحد أثرياء الريف المصرى وقتها ، وبعد انتهاء الوليمة دار بينهما حوار عن الفلاح المصرى البائس الذى يرونه أمام أعينهما يتحرك فى حياة بائسة وبدائية شديدة الفقر ، فماذا قالا :

- يسأل (الفرنسى) الانجليزى الذى هب للدخول إلى الحجرة لينام : إلى أين ؟ ألا يؤثر فيك هذا النسيم الرقيق يا " مستر بلاك " ؟ .. فالتفت إليه الانجليزى ، ثم التفت إلى النافذة ، كأنما يبحث عن هذا النسيم يريد أن يراه بعينه ، وكان الفلاحون عندئذ قد بدأوا ينهضون زرافات ووحداناً ؛ كل يحمل فأسه أو منجله ؛ كى يستأنفوا أعمالهم بالحقول ! .. فقال الانجليزى لرفيقه : لا أرى إلا أسراباً من ذوى الجلاليب الزرقاء ! .. فنظر الفرنسى إلى الفلاحين ثم قال معجباً : ما أجمل ذوقهم .. لون لباسهم كلون سمائهم .. فارتسمت على فم الانجليزى ابتسامة تهكم ، وقال : إنك تبالغ إذ تحسب لهؤلاء الجهلاء ذوقاً ! فأجاب الأثرى الفرنسى بإيمان وقوة : جهلاء .. إن هؤلاء الجهلاء يا " مستر بلاك " أعلم منا ! ..

فضحك الانجليزى وقال أيضاً فى تهكم : لأنهم ينامون مع البهائم فى حجرة واحدة ! .

فأجاب الفرنسى بجد : نعم وبالأخص ، لأنهم ينامون مع البهائم فى قاعة واحدة . فالتفت إليه "مستر بلاك" محدقاً مبتسماً : " إنها نكتة ظريفة يا " مسيو فوكيه " ! ..

فأجاب الفرنسى : بل حقيقة تجهلها أوروبا للأسف .. نعم إن هذا الشعب الذى تحسبه جاهلاً ليعلم أشياء كثيرة ، لكنه يعلمها بقلبه لا بعقله ! إن الحكمة العليا فى دمه ولا يعلم ! .. والقوة فى نفسه ولا يعلم ! .. هذا شعب قديم : جىء بفلاح من هؤلاء وأخرج قلبه تجد فيه رواسب عشرة آلاف سنة ، من تجارب ومعرفة رسب بعضها فوق بعض وهو لا يدرى !! .

نعم هو يجهل ذلك ، ولكن هناك لحظات حرجة ؛ تخرج فيها هذه المعرفة وهذه التجارب . فتسعفه وهو لا يعلم من أين جاءته ، هذا ما يفسر لنا – نحن الأوروبيين – تلك اللحظات من التاريخ ، التى نرى فيها مصر تطفر طفرة مدهشة فى قليل من الوقت ! .. وتأتى بأعمال عجاب فى طرفة عين ! .. (تأملوا هذا الكلام منذ العشرينات والثلاثينات .. قاله توفيق الحكيم نقلاً عن مستشرق فرنسى داخل روايته الخالدة عودة الروح .. قاله وكأنه يعيش لحظة ثورة يناير 2011 ، ثورة الشعب الذى يختزن الحضارة والتاريخ فى قلبه !!) .

***

ثم يقول الفرنسى مخاطباً الانجليزى : لا تظن يا مستر بلاك ان هذه الآلاف من السنين، التي هي ماضي مصر قد أنطوت كالحلم ولم تترك أثرا في هؤلاء الأحفاد... أين أذن قانون الوراثة الذي يصدق حتي على الجماد؟... ولئن كانت الأرض والجبال إن هى إلا وراثة طبقة، عن طبقة، فلماذا لا يكون ذلك في في الشعوب القديمة التي لم تتحرك من أرضها، ولم يتغير شيئ من جوها أو طبيعتها؟...

نعم إن أوروبا سبقت مصر اليوم، ولكن بماذا ؟... بذلك العلم المكتسب فقط، الذي كانت تعتبره الشعوب القديمة عرضا لا جوهرا ودلالة سطحية علي كنز دفين، لا انه هو في ذاته كل شيء !...

إن كل ما فعلناه – نحن الأوربيين الحديثى النشأة – هو أننا سرقنا من تلك الشعوب القديمة هذا الرمز السطحي، دون الكنز الدفين؛ لذلك جىء بأوروبى وافتح قلبه تجده خاليا خاويا !... الأوربي إنما يعيش بما يلقن ويعلم في صغره وحياته؛ لأنه ليس له تراث ولا ماض يسعفه غير أن يعلم!... احرم الأوربي من المدرسة يصبح أجهل من الجهل!...

قوة أوروبا الوحيدة هي في العقل !... تلك الآلة المحدودة التي يجب أن نملأها نحن بإرادتنا . أما قوة (مصر) ففي القلب الذي لا قاع له ... ولهذا كان المصريون القدماء لا يملكون في لغتهم القديمة لفظة يميزون بها بين العقل والقلب. العقل والقلب عندهم كان يعبر عنهما بكلمة واحدة هى : القلب!..." .

وسكت الأثريّ الفرنسي برهة ونظر إلى وجه المستر بلاك (الإنجليزى) ليتعرف على أثر ماقال فيه، فوجد ملامح جامدة وشفتين تنفرجان عن ريبة وشك ! ...

فاستطرد الفرنسي يقول :

- نعم يامستر بلاك ! ... هؤولاء الفلاحون لهم ذوق ... وذوق جميل ! ... وهم لو سألتهم عن كلمة ذوق لجهلوا معناها ... أما نحن فنعرف جيدا معنى كلمة ذوق ولكن ثق أن فينا عددا كبيرا ليس له ذوق ! ... نعم هذا هو الفرق الوحيد بيننا وبينهم : إنهم لايعلمون ماعندهم من كنوز !

* عندئذ هم " الانجليزى " بالنهوض وهو يقول متهكماً : إنكم معشر الفرنسيين تضحون بالحقائق فى سبيل الكلام ! ..

فأجلسه " مسيو فوكيه " بيده ، وقال محتداً :

- الحقائق ؟ .. الحقائق معى يا مستر بلاك .. إنك تعرض بضعف هذا الشعب الآن .. أليس كذلك ؟ .

- وأيضاً أخلاق أهله لا تعجبنى .. أخلاق أهله ؟ ..

- نعم ..

ثق يا " مستر بلاك " أن الفاسد من هذه الأخلاق ليس من مصر ، بل أدخلته عليها أمم أخرى كالبدو أو الأتراك مثلاً ، ومع ذلك فلا يؤثر هذا فى الجوهر الموجود دائماً ..

- قل لى ما هو هذا الجوهر ؟ ..

- إنك ترتاب فى قولى ! .. ولكنى أكتفى بأن أقول لك احترس ! .. احترسوا من هذا الشعب ؛ فهو يخفى قوة نفسية هائلة ! .

***

يواصل توفيق الحكيم فى رائعته (عودة الروح) الحوار بين مفتش الرى الانجليزى وعالم الآثار الفرنسى ، يواصله وكأنه كتبه اليوم فى أحداث ثورتى 25 يناير و30/6/2013، حيث يجدد فيه وبأسلوب أدبى عبقرى أبرز ملامح الشخصية المصرية ، التى تختزن بداخلها (الثورة) بكل معانيها ومعالمها كما تبدت فى ثورات (1952) و(25 يناير 2011) و(30 يونيو 2013) ، يقول الحكيم : واستوى بعد قليل العالم الفرنسى فى كرسيه ، واشعل لفافة أخرى ، وأرسل نفخة من الدخان فى الهواء ، ثم قال :

- أرى أن قولى لم يفحمك يا " مستر بلاك " ؟ .. فالتفت إليه " المفتش الإنجليزى ، بأدب ، وقال : اعترف بذلك ! ..

فسكت " الفرنسى " هنيهة ثم قال :

- نعم .. لنا العذر ألا نفهم هذا ؟ يقصد (الشخصية المصرية من خلال الفلاح المصرى وقتذاك) .. إن لغتنا نحن الأوروبيين – لغة المحسوسات .. إننا لا نستطيع أن نتصور تلك العواطف التى كانت تجعل من هذا الشعب المصرى كله فرداً واحداً، يستطيع أن يحمل على أكتافه الأحجار الهائلة عشرين عاماً ليبنى الهرم ، وهو باسم الثغر مبتهج الفؤاد ، راض بالألم فى سبيل المعبود . إنى لموقن أن تلك الآلاف المؤلفة التى شيدت الأهرام ، ما كانت تساق كرهاً كما يزعم " هيرودوت " الإغريقى عن حماقة وجهل .. وإنما كانت تسير إلى العمل زرافات وهى تنشد نشيد (المعبود) ، كما يفعل أحفادهم يوم جنى المحصول . نعم كانت أجسادهم تدمى ، ولكن ذلك كان يشعرهم بلذة خفية ، لذة الاشتراك فى الألم من أجل سبب واحد ! ..

وكانوا ينظرون إلى الدماء تقطر من أبدانهم فى سرور لا يقل عن سرورهم برؤية الخمور القانية تقدم قرابين إلى المعبود ! .. هذه العاطفة عاطفة السرور بالألم جماعة .. عاطفة الصبر الجميل ، والاحتمال الباسم للأهوال من أجل سبب واحد مشترك .. عاطفة الإيمان بالمعبود والتضحية ، والاتحاد فى الألم بغير شكوى ولا أنين .. هذه هى قوتهم ! .

ثم ينتقل توفيق الحكيم فى رائعته (عودة الروح) ليقول على لسان عالم الآثار الفرنسى متحدثاً إلى مفتش الرى الإنجليزى أيضاً : هل رأيت فى بلد آخر أشقى من هؤلاء المساكين ؟!.. أنت مفتش رى ، وتعلم جيداً يا " مستر بلاك " أوجدت أفقر من هذا الفلاح المصرى ؟ ولا أهول عملاً ؟ .. إنى أعلم ذلك أنا أيضاً ، فقد اشتغلت بالحفر عن الآثار فى قرى الصعيد ، وخالطت بعض الفلاحين وعلمت كل شىء .. عمل ليل نهار فى الشمس المحرقة والبرد القارس وكسرة من خبز الأذرة ، وقطعة من الجبن مع بعض الأعشاب من السريس وغيره مما ينبت وحده .. تضحية مستمرة صبر دائم، ومع ذلك فها هم أولاء يغنون ! .. اسمع برهة يا " مستر بلاك " .

وسكت " الأثرى الفرنسى " هنيهة ، كأنما يستفسر روح هذه الأغنية التى تأتى مع النسيم ، ثم استطرد يقول :

- أتسمع هذه الأصوات المجتمعة الخارجة من قلوب عدة ؟ . ألا تخالها خارجة من قلب واحد؟ إنى أؤكد أن هؤلاء القوم يحسون لذة فى هذا الكدح المشترك ، هذا أيضاً هو الفرق بيننا وبينهم ؛ إن اجتمع عمالنا على الألم أحسوا جراثيم الثورة والعصيان وعدم الرضا بما هم فيه ، وإن اجتمع فلاحوهم على الألم أحسوا السرور الخفى واللذة بالاتحاد فى الألم ، ما أعجبهم شعباً يصنع الغد !! ..

أسند المفتش الانجليزى يده إلى جبينه لحظة كالمتأمل ، ثم قال :

- ما كنت أحسبك جاداً ، وأنت تفهمنى أن بين مصر اليوم ومصر بالأمس علاقة ! .. فأجاب العالم الفرنسى : وأى علاقة ؟! .. قلت وأقول أيضاً : إن الجوهر باق دائماً ! .. إن هؤلاء الفلاحين الذين يغنون من قلب واحد ، المتعددين الذين تجمعهم العاطفة والإيمان فى واحد ؛ مازالوا يعون بقلوبهم ، ولا يعلمون تلك العبارة التى كان أجدادهم يندبون بها موتاهم فى الجنائز : " عندما يصير الوقت خلوداً ، سنراك من جديد ، لأنك صائر إلى هناك ، حيث الكل فى واحد ! " .

وها هم اليوم الفلاحون الأحفاد من جديد .. يذكرون فى أعماق قلوبهم أن الكل فى واحد ! .. أجل يا مستر " بلاك " .. لا تستهن بهذا الشعب المسكين اليوم ، إن القوة كامنة فيه " .

* انتهت مقتطفات من واحة العمل الإبداعى الخالد لتوفيق الحكيم " رواية عودة الروح " ، وبقيت دلالاتها ، والتى أبرزها أن أغلب السياسيين من نخبتنا ، كما من نخبة أهل الغرب ، مازالوا مثل مفتشى الرى الإنجليزى ، لم يفهموا جوهر الشخصية المصرية ، وطبيعتها الثورية فهل آن لهم أن يدركوها قبل فوات الأوان !!  رحم الله توفيق الحكيم .

 

E – mail :  yafafr@hotmail.com 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

 

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا