<%@ Language=JavaScript %> عبد الحسين شعبان فضاء الشيوعية وهواء الصندوق!

   

لا

للأحتلال

لا

للخصخصة

لا

للفيدرالية

لا

للعولمة والتبعية

                                              

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين                                    

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                            

 

 

فضاء الشيوعية وهواء الصندوق!

 

 

عبد الحسين شعبان

 

أثار كتاب عامر عبدالله " النار ومرارة الأمل- فصل ساخن من فصول الحركة الشيوعية" اهتماماً كبيراً وجدلاً واسعاً لدى أوساط مختلفة، احتفت بصدوره، بل أن بعضها كتب خواطراً عن عامر عبدالله لمناسبة صدور الكتاب ومن وحيه، حتى قبل أن يصدر وذلك لمجرد الإعلان عنه، وخصوصاً بعد حوار الصحافي زيد الحلّي معي عند زيارتي الأخيرة إلى بغداد وعشيّة صدور الكتاب الذي كان قيد الطبع.
وقد امتدّ الحوار ليتجاوز عامر عبدالله إلى الحركة الشيوعية: تاريخها وحاضرها ومستقبلها، وعلاقتها بالحركة الوطنية بمختلف أطرافها سواءً قبل ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958 أو بعدها، وصولاً إلى مشاركة الحزب بالوزارة العام 1972 واستيزار عامر عبدالله ثم استقالته في أواخر العام 1978، لاسيّما بعد انفراط عقد "الجبهة الوطنية والقومية التقدمية".
لعلّ الاهتمام بعامر عبدالله، لم يكن لأنه شيوعياً، فهؤلاء كثيرون مرّوا في حياة الحزب وإدارته من المسلكين والحزبيين الروتينيين، بل لكونه مفكّراً بكل ما تعني الكلمة حيث ترك بصمته الواضحة على الحركة الشيوعية العراقية، بل والعربية، وكان يتمتع بحيوية سياسية بالغة مثلما هو طموحه الذي لا تحدّه حدود، وكان حاد الذكاء يستطيع إلتقاط الجوهري من الأشياء، وقد كان ذلك أحد أسباب خصوماته الحزبية الكثيرة، وأحد مصادر شقائه كمثقف مبرّز، ولاسيّما وهو صاحب رؤية وقلم وموقف أصاب أم أخطأ، وكانت اجتهاداته وآرائه مصدر جدل كبيرين.
حيّا عمود خاص للفنان الكبير يوسف العاني عامر عبدالله مستذكراً علاقته معه، وخصوصاً صبيحة يوم 14 تموز (يوليو) 1958 في دمشق مشيداً باستحضار دوره والكتابة عنه، وفعل همام عبد الغني الكادر القيادي في حزب "القيادة المركزية" الشيء ذاته لمناسبة صدور الكتاب، وكتب عنه زيد الحلي مرّة ثانية بعد صدور الكتاب، وكان الراحل الفنان الكبير نوري الراوي يستعد لكتابة مادة عن عامر عبدالله وذكريات مضى عليها سبعة عقود من الزمان كما سبق وأن حدثني، لولا أن المرض داهمه وأقعده، وفعل آخرون ذلك، وكتبوا لي مباشرة، ولا أريد استعراض جميع الأسماء والرسائل والاتصالات وهي محفوظة لديّ ومدوّنة عندي.
كما أن أوساطاًَ عراقية وعربية وكردية غير شيوعية أبدت اهتماماً بالكتاب بعضهم عسكريين سابقين، وهو ما لمسته مباشرة من خلال اتصالات مباشرة بي سواء في بغداد أو في أكثر من عاصمة عربية وأوروبية، والأكثر من ذلك أن خصوماً تاريخيين للحركة الشيوعية ومن التيار القومي العربي، كانوا أكثر اهتماماً بعامر عبدالله والكتاب من بعض من كانوا رفاقاً أو زملاء لعامر عبدالله، وتلك مسألة لفت الكتاب النظر إليها، وهو ما واجهه بالفعل بعد صدوره.
وهنا الفرق الشاسع بين الحزبي والسياسي، فعامر عبدالله لم يكن حزبياً بالمعنى الضيق للكلمة ممن ينتمون إلى الصندوق ولا يتنفّسون الاّ من هوائه، بل كان سياسياً منفتحاً وكاتباً مجدّداً، لديه معرفة واسعة واطلاع كبير وإلمام بقضايا المجتمع والاقتصاد والتربية والعلوم والأدب والفن والثقافة، وكان يستطيع أن يستنبط الأحكام في ضوء منهجه الجدلي، أي كان مجتهداً وتلك واحدة من إشكالياته، وهي بالمناسبة إشكالية أي مفكر، خصوصاً وقد تجاوز بيروقراطية الصندوق، لينطلق في الحياة بكل آفاقها متّخذاً من الشيوعية فضاءً رحباً. واهتمت بالكتاب كذلك بعض الأوساط الشيوعية العربية، وهو ما قد أعود إليه في وقت لاحق.
قلّة محدّدة هي من أغاظها صدور الكتاب أو عبّرت عن ذلك على نحو مباشر، فتعاملت معه بازدراء ومع كاتبه بنوع من السخط، بل إن هناك من سأل من هو معنيٌ بعامر عبدالله، لماذا يكتب فلان كتاباً عن عامر عبدالله، وهو أمر مستغرب، وكان الجواب ولماذا لا يكتب عنه...!؟ وصل الأمر إلى إطلاق اتهامات، بل سُباب ما أنزل الله به من سلطان، وهي أمور يحاسب عليها القانون لمن لا يعلم ذلك، وإن كانت الكراهية أحياناً تنسي حقائق بسيطة، لكن القانون لا يحمي المغفلين.
لعلّ هذه القلّة صدمتها بعض الحقائق عن ماضي لم يمضِ، ولربما لا يريد أن يمضي، حتى وإنْ كان تناولنا له من باب النقد التاريخي، دون إساءة إلى أحد أو طعن فيه، بل أحياناً العبور على ما هو مُحرج، لاسيّما إذا كان جارحاً لاعتبارات كثيرة، أهمها الجانب الإنساني والاعتبار الأخلاقي، ولكن دون التهاون في الجانب الفكري أو السياسي.
ومع ذلك فقد وجد البعض في المعلومات المنشورة بالكتاب، وعلى لسان عامر عبدالله وبعضها خطّته يراعه على شكل رسائل ومذكرات احتجاج سواءً للسوفييت أو إلى الرفيق عزيز محمد وكتبها مع الرفيق باقر ابراهيم وآخرين، ناهيكم ما ورد من حوارات ونقاشات وآراء، يضاف إليها انطباعات وتقديرات، أمرٌ مثيرٌ ومُحرجٌ ويخدش من صورته أمام "جمهور" لا يعرف ما الذي حصل؟ ومثل هذا " البعض" ظلّ يحرص على إبعاد عامر عبدالله عن دائرة الضوء، حتى وإن كان قد رحل عن دنيانا، لكن شبحه ظلّ ماثلاً في النفوس والعقول، فما بالك إذا كان هناك من يريد تبديد النسيان؟
لا أنكر على أي أحد حقه في تقييم دور عامر عبدالله سلباً، فشخصية مثله تتحمل هذا التقييم المتناقض، سواءً في الماضي البعيد نسبياً أو في الماضي القريب، وهو كأي مجتهد تختلف الناس حوله، علماً بأن الكاتب لم يقصّر في نقد بعض مواقفه، وخصوصاً " اللندنية"، وذلك جزء من النقد الذاتي الذي لم يتورّع الكاتب عن ممارسته بحق نفسه بكل أريحية، وكان الأجدى مناقشة دور عامر عبدالله بروح الحرص والشعور بالمسؤولية، ولكن للأسف إنصبت الشتائم فوق رأس الكاتب الذي ارتكب الكبائر بنشره بعض الحقائق والوثائق، فقد كان يدرك إنه كمثقف لا يحاول إلا أن يحيد عن وظيفته النقدية، سواء رضي فلان أو علاّن أم لم يرضَ، وهو يعرف بحكم تجربته إن عجز البعض عن ردّ النقد، هو الذي يدفعه لاختيار طريق الشتائم والاتهامات، عوضاً عن الحوار الجاد والمسؤول.
لقد تعامل الكاتب بنفس طويل مع الكثير من العقد في تاريخنا بقلب حار ورأس بارد دون أن تؤثر عليه مثل تلك الانزعاجات أو الازعاجات والحساسيات، ولم يتزحزح عن موقفه النقدي قيد أنملة إيجاباً أو سلباً، الاّ إذا ثبت لديه العكس، وفي نهاية المطاف كل إنسان مسؤول أخلاقياً عمّا يكتب أو يتكلّم، وتعكس تلك الأخلاقية السيماء الشخصي والجوانب الإنسانية للعلاقات بين الرفاق وبينهم والآخرين كبشر مثلهم مثل غيرهم، فما قيمة المبادئ مهما علت وتسامت إن لم تصحبها الأخلاق والاحترام للنفس وللآخر، ولعلّ احترام الآخر هو جزء من احترام النفس.
وإذا كانت ردود الفعل صارخة ومنفعلة، فإنها تعبّر عن ضيق الصدر وتكشف ضعف الحجّة مهما حاول الإنسان إخفاء جزء منها أو عدم إظهاره لها، لكن لحظة الانفعال السريعة تلك كفيلة أحياناً بإظهار ما أخفاه الزمن وما اعتمل في النفوس من كراهية وحقد، ومن تجاوز على اعتبارات التخاطب وآدابه وأصوله، ناهيكم عن أواصر الرفقة والزمالة، ولو كان البعض يستخدم مثل تلك " الشجاعة" (الانترنيتية) بحق الأعداء أو الخصوم، لقلنا إن ذلك جزء من نهج عام، ولكن الحديث عن هؤلاء يتم بخيط من الحرير وباستخدام كل المطهّرات كي يصدر منها ما يزعج العدو أو الخصم.
ولم نسمع أو نقرأ ما قيل عن " الرفيق" بول بريمر وحاشيته أو عن الاتفاقية العراقية- الأمريكية سوى تبريرات ومجاملات وصيغ مائعة ، بل إننا سكتنا خلال فترة الجبهة عن احتفالات حزب البعث بعروس الثورات 8 شباط (فبراير)، وكان هناك من يتسابق لتجميل مواقف حزب البعث باعتبار تجربته هي نموذج للعالم الثالث، وأصبح صدام حسين كاسترو العراق، مثلما نسينا الشهداء الأبرار في مجزرة بشتاشان، وأخذ البعض يتسابق في الولاء لأصحابها ممن أصبحوا في موقع المسؤولية، ولست أرغب في نكأ الجراح أو إثارة الحساسيات، لكن الحقيقة ينبغي أن تُقال.
لقد حرص الكاتب وفي كل ما كتبه على التذكير بالاحترام والتقدير للنقد، وإنْ كان قد عالجه بطريقته الواضحة وبلغة سياسية سجالية دون أية إساءة شخصية أو تجريح منذ بداية الضوء أو حتى خاتمته. وعندما حدثت مشكلة بين الرفيقين خالد حسين سلطان وجاسم الحلوائي، وتجاوزت حدود المألوف في النقد وامتدت إلى التشهير والإساءة العائلية والشخصية، كنت أول ممن بادر لمخاطبة المعنيين بالكفّ عن ذلك والتوجه صوب نقد السياسات والابتعاد عن كل ما هو شخصاني ومسيء، لأن هذه الإساءة ستلحق الضرر بنا جميعاً، وليس بالرفيقين المتصارعين المتنابزين.
من السهل على المرء أن يتعامل بالمثل ويسطّر عشرات الاتهامات وهي صارخة وبعضها معروف، وليس مثل الطلاسم أو الأسرار، الاّ أن هذا التراشق والتباغض والكيدية لا يوصل للحقيقة، فضلاً عن ذلك فلست ممن يفضلون مثل هذه المنازلة، وعندي أن الإساءات والاتهامات والإدانات لا يمكن ردّها بالمثل، ولا أعالج الخطأ بالخطأ، بل أربئ بنفسي وتاريخي الانزلاق إلى هذا المستوى الذي لا أتمنى لأحد أن ينزلق فيه، لأن ذلك سيشوّه صورتنا أمام الأعداء، لاسيّما إزاء قدسية الشيوعية ونبلها وغرضها.
وهكذا "خطيئتان لا تنتجان فضيلة"، و"جريمتان لا تنجبان عدالة"، و"اتهامان لا يصنعان حقيقة"، وكل منّا يعرف عن الآخر من الحقائق الكثير، وفيها الغثّ والسمين، وكلّ منّا يعرف إن مثل هذه الإساءات جرى مسحها من سجلاّت الحزب في لحظة تطهّر كما فعل سلام عادل بعد أن استمرت أكثر من ثلاث سنوات، أيام تمزّق الحزب بين راية الشغيلة والقاعدة وكتل أخرى في الخمسينات، وهكذا أصبحت جماعة راية "البلاط" الانتهازية جزءًا من قيادة الحزب اللاحقة وبضمنهم عزيز محمد وجمال الحيدري، والقصة طويلة ومعروفة، وقد أوردت جزء منها في أحد هوامش الكتاب. وأطاح المؤتمر العشرون بدزينة من مؤتمرات ستالين لنحو 30 عاماً، خصوصاً تلك التي زكّت حفلات إعدام بالجملة ونكلت بخيرة قيادات الحزب، ولكن للأسف لا يزال البعض لا يريد أن يتعلّم من الدروس التاريخية.
وإذا كان البعض يحرص على اسم سلام عادل، فهذا هو تراث سلام عادل إذا أريد التشبث به، والتعامل مع منجزه الكبير، أما كيل الاتهامات والتباكي على سلام عادل فإنه لن يوصل الحزب إلى مبتغاه، ناهيكم عن مجانبة الحقيقة!!
ومع ذلك لم تستطع محاولة الإساءة إلى الكتاب وصاحبه والكاتب، غضّ الطرف كلياً عنه، خصوصاً وقد جاء الكتاب على تقييم لعامر عبدالله بما له وما عليه ارتباطاً من فترة عويصة من تاريخ الحركة الشيوعية، وعلى نحو اتّسمت بالنقد بعيداً عن لغة التمجيد وكذلك بعيداً عن لغة التنديد، لكنه حاول ردّ الاعتبار للتقويم الفكري والسياسي لشخصية من عيار عامر عبدالله، أثّر على مدى ما يزيد عن ثلاث عقود من الزمان في تاريخ الحركة الشيوعية والوطنية العراقية.
على الرغم من بضع ملاحظات لا تمسّ جوهر الكتاب، ولكنها تمثّل قراءة خاصة له، ومواقف تكاد تكون جاهزة ومكتوبة ولا تخرج عمّا هو سائد ومكرّر وليس فيها جديد بخصوص أحداث كركوك أو الموصل، يقدّرها الكاتب ويحترم كاتبها، لكنه يختلف في وجهة النظر السائدة تلك، لأنه يعتبرها قراءة "افتئاتية" على الواقع وليس "إفترائية"، ناقشها بوضوح وضمن رؤية، تكوّنت لديه منذ نحو ربع قرن أو ما يزيد، وتعمّقت لديه تقديرات مختلفة إزاءها، وهو لا يزعم أنه يمتلك الحقيقة، لكن هذه هي وجهات نظره، دعمها بمصادر ومراجعات ومقابلات، ناهيك عن دراسته القانونية.
وأتذكّر أنني كتبت تقريضاً لكتاب علي كريم سعيد الموسوم" من حوار المفاهيم إلى حوار الدم" وهو أقرب إلى رحلة في ذاكرة طالب شبيب القيادي البعثي السابق ووزير الخارجية الأسبق في صحيفة الحياة في أواسط التسعينات، تضمنت قراءة مختلفة لما ورد في الكتاب لانقلاب 8 شباط (فبراير) العام 1963 الدموي ولحزب البعث وممارساته الفاشية، ولكن عند مروري على أحداث الموصل، تعرّضت إلى نقد موقفنا على نحو ما يسمح به العرض، وخصوصاً ضمن مراجعاتي.
وبعد بضعة أيام ردّ عليّ أحد الرفاق "القياديين" في الجريدة ذاتها بتعليق لبضعة أسطر (وباسم مستعار)، مشيراً إلى مسؤولية القوى الرجعية والقومية، وأن عدد ضحايانا فاق عدد "قتلاهم"، وهو أمرٌ لا علاقة له مباشرة بما جرى في محكمة الدملماجة السيئة الصيت من إعدامات خارج القضاء، وعلى طريقته الساخرة، اتصل بي ليسألني إنْ كنت قد قرأت ما كتبه "الشخص المزعوم"، فأجبته بنعم، وسألني هل سأردّ عليه؟ قلت له لا، فقال لماذا؟ قلت له "المعلوم لا يردّ على المجهول"، فعليه أولاً أن يكتب باسمه، وقال ماذا لو كتب باسمه هل ستردّ عليه؟ قلت سأفكّر، فإذا كان يستحق سأفعل ذلك وإن كان لا يستحق فقد أهمل وأتغاضى ولا أعير اهتماماً لتعليق هنا ومناكفة هناك، ثم مازحته ولكن لو كتبت أنت سيكون من الممكن تبادل الحوار عبر جريدة محايدة، ثم اقفلنا الموضوع مع تمنيات بليلة سعيدة.
الغريب في موضوع كتاب عامر عبدالله الذي أثار مواجع كثيرة، أن بعض من ناقش الكتاب لم يقرأه ولم يطلّع عليه ولم يتناول ما ورد فيه ولم يعرف ماذا بحث وعن أي شيء تحدّث، هكذا حصلت " الفزعة" العمياء، فهي لا ترى ما في خارج الصندوق، ويصدمها نور الحقيقة دائماً، وانهالت السكاكين والشتائم ليس بحق الأعداء، بل بحق رفيق لديه وجهة نظر، لكنه تم استغلال الحوار للرسالة المفتوحة الموجهة للمؤلف، لتكال له الاتهامات والطعون التي تصل حدّ التخوين والتجريح الشخصي، انطلاقاً من "يقينيات" راسخة تمس الشرف السياسي والأخلاقي، وصولاً إلى العمالة بأشكالها بما فيها الذمّة المالية والشهادة العلمية والدرجة الأكاديمية، وكل ذلك في إطار من العصبية والعصبوية "العشائرية" وكأن الأمر يتعلق بانقراض "الملّة" أو بقائها، وليس حواراً بين شيوعيين حول كتاب لزعيم شيوعي!
أقول "زعيم شيوعي" لأن الزعماء في حزبنا قليلون، وكانت قيادة فهد وقيادة سلام عادل مشروع زعامة لا شيوعية فحسب، بل عراقية أيضاً، لكن النظام الملكي ومن خلفه المستَعْمِر حصدوا الأولى، في العام 1949 وهي في طريقها للاكتمال والتفتح، مثلما حصدت الموجة الفاشية في العام 1963 الزعامة الشابة وهي في طريقها إلى النضج والاغتناء، وهكذا خسر الحزب قيادات من الوزن الثقيل، وكان الغالبية من الذين أصبحوا في موقع المسؤولية منذ ذلك التاريخ أقرب إلى الإدارة الحزبية، وكان عامر عبدالله من أكثر هؤلاء يتمتع بدور زعيم شيوعي وقائد عراقي، ولعلّ ذلك ينبغي أن يُفرح الآخرون ولا يغيظهم، وعلى الأقل يغبطهم لا يثير حسدهم، والفارق كبير بين الغبطة والحسد، فالغبطة تعني التمني بأن يكون لك مثلما لدى الآخرين من نعمة، أما الحسد فهو التمنّي بـ: زوال نعمة الآخرين.
لعلّ خصومنا عند محاربتهم لنا فإنهم دائماً يختارون ويشخّصون بعض نقاط ضعفنا الإنسانية ويحاولون التركيز عليها، فإذا كان فلان ضعيفاً أمام النساء، استغلّوه من هذه الناحية، وإذا كان الرفيق الآخر ضعيفاً أمام المال دخلوا عليه من هذه الزاوية، وإذا كان رفيق آخر رقيق في الأصل الاجتماعي، وجدوا له الوظيفة التي تمنحه المكانة، وهكذا، أما بعض رفاقنا، فإنهم للأسف الشديد يحاولون تسويد نقاط قوتنا المضيئة، أو تشويهها فالاعتزاز بالنفس خطيئة، والاجتهاد مريب والرأي إنما هو تربّص، سواء أيام الجبهة العتيدة أو بعدها، وكأن الرفيق كل شغله الشاغل، حتى وإن كان بلا عمل، يبحث ويفتش عن أخطاء الحزب ليعارضه. وأي منطق معوج هذا؟
ولعلّ مثل هذه العقلية لا تستطيع تصوّر تكوين رأي خاص، خارج المنظومة السائدة، ويعتبر بعضهم أن المعلومات التي تصل من إدارة الحزب وكل ما تقوله أقرب إلى الحقيقة، ناهيكم عن كونه صحيحاً، دون أن يدركوا أننا بشر وتتحكّم فينا نوازع مختلفة، وفي تربيتنا العامة والخاصة الكثير من العقد والأمراض الاجتماعية، بل هناك جوانب ضعف تؤثر على صدقية البعض، وفي حياتنا السياسية واليومية هناك الكثير من الشواهد، وينسى بعضهم أن معلومات الحزب تأتي عبر رفاقه، ولكل واحد منهم قنواته الخاصة أيضاً، وإنْ كان بعضهم يكتفي بما لدى الصندوق ويأخذ كل ما يريد منه باعتباره الحقيقة الراسخة، وهو الأغلبية المتلقية، وبعضهم يغذّي الصندوق عبر الفضاء الواسع، ويتفاعل ويؤثر ويدقق ويصحّح، والأمر له علاقة بدرجة شعور كل واحد بدوره، وقد يعتبر بعضهم ممن اعتادوا عن تنفس هواء الصندوق حتى وإن كان خانقاً أحياناً، أن ثمة في الأمر غرابة وكل غريب مريب في عرف الذين استمرأو العيش في الصندوق، بل ظلّوا لا يستطيعون رفع رؤوسهم خارجه أو خارج سقفه، أما الفضاء الحر للناس والمجتمع والحياة والشيوعية فهو شيء مريب.
إن إلصاق التهم هي الطريقة المثلى لأصحاب الصندوق، فالرفيق إذا عارض أو أبدى وجهة نظر فقد يكون مدفوعاً أو مندسّاً أو مدسوساً أو حتى جاسوساً، ولكن هل سمعت رأياً للجواسيس يكافح به وينافح عنه، فالجواسيس عادة خنوعين مطيعين مذلّين مهانين. كان عامر عبدالله يقول علينا استنطاق الساكتين، فالساكتون يضمرون ويخفون ولا يعبّرون عمّا يفكرون به، وغالباً ما يتجهون إلى المداهنة للرأي السائد.
لعلّ الكثير من علوم الجاسوسية أصبحت معروفة، ولا يكفي بضعة تعليمات حول اختراقات العدو التي تلقّن في المدارس الحزبية، كافية في كشفهم، إلاّ من في رؤوسهم هوسٌ، ولكن دون معرفة بالأساليب الحديثة لا يمكن بعقلية مفوض الأمن التقليدي ملاحقة هؤلاء؟ لعلّ أول ما تقتضي وظيفة الجاسوس هو عدم الظهور والاختفاء وراء الآخرين وعدم اتخاذ مواقف واضحة، ويتجنّب الدخول في الصراع والسجال والمعارضة، وحسب سعدي يوسف هل رأيت جاسوساً يسكر؟ فتلك تعليماته الدقيقة كي لا ينكشف أمره ويفقد السيطرة على نفسه ويضطر للثرثرة؟ أن مهمته تتطلب الصمت والزوغان والغموض؟ أما الرفيقة إذا تحدثت فحسب البعض فهي ساقطة، فما بالك إذا كان لها رأي؟ وهناك من دعا إلى قطع لسان ثلاثة منهن، إحداهن مناضلة باسلة وزوجة شهيد.
في التجارب التاريخية هناك من يروي عن " قيادي" اعتقل في ظروف غامضة، وتعهد بالتعاون مع الأجهزة النازية، وبعد التحرير احتل موقعاً قيادياً، وكان مداهناً ومهادناً وكتوماً، حتى اتصل به الأمريكان وأخبروه بأن ملفّه حسب توصيفات مفوضي الأمن جاهز، وما عليه الاّ الرضوخ أو افتضاح أمره. لم يطلبوا منه معلومات سياسية أو حزبية أو حتى عسكرية أو اقتصادية، ولم يطالبوه بكتابة تقارير أو لقاءات أو غير ذلك. كل ما طلبوه منه في حالة تقدّم ثلاثة من المرشحين لأي منصب حكومي أو حزبي، فما عليه الاّ اختيار الأضعف، وهكذا ألغم الحزب بعناصر ضعيفة والضعيف يختار الضعفاء دائماً.
في حادثة مثيرة ألقي القبض على أحد الأعضاء القياديين الذي استدرج إلى قبرص والكويت وكاد أن يقع في الفخ النهائي في اليونان، كانت الخطة تقتضي مفاتحته إما العمل لحسابهم أو فضح أمره بوسائل رخيصة، وبسبب تداخل لمخابرات دولية وصراع نفوذ سوري- عراقي هو من " أنقذه" ،وهو ما أبلغني به بعد إطلاق سراحه وللقصة ذيول أخرى.
مصيبتنا إن الكثير من التداخل حصل علينا خلال السنوات الأخيرة، سواءً في فترة الجبهة الوطنية وهي كثيرة ومتنوعة أو ما بعدها في الخارج، ومثل أي حزب يعيش جسمه الأساسي خارج البلد تدخل عليه عوامل جديدة وعناصر غريبة، ليس بعيداً عنها أجهزة ومخابرات دولية، فإضافة إلى امتداد بغداد وأذرعها منذ تلك الأيام، هناك مخابرات علي دوبة والسافاك الإيراني واستحدثاته الجديدة بعد الثورة الإيرانية، إضافة إلى مخابرات عربية وأجنبية متنوعة، ولم تقصّر معنا مخابرات الدول الاشتراكية " الشقيقة"، فقد اشتغلت بنا طولاً وعرضاً، ولعلّ ما نشر من وثائق وأسماء في صحفها ومطبوعاتها كفيل بنا لوقفة مراجعة.
وكم كان الرفيق ثابت حبيب العاني " أبو حسان" يتحسس من بعض تلك "القنوات"، وكم كان يتألم، وهو ما كتبه البروفسور كمال مجيد عنه في صحيفة القدس العربي بلندن؟ ويأتي اليوم من يقول لك إن " رجل المخابرات والبعثي" إياد علاوي هو المسؤول عمّا حصل لأبي حسّان عبر وشايته لعامر عبدالله، التي ظلّ مقتنعاً حتى أواخر حياته بصحة المعلومات وكأن إدارة الحزب أخذت منوّماً طيلة 17 عاماً، علماً بأن عامر عبدالله ومنذ العام 1982 ظل يكتب الرسائل ويخاطب عزيز محمد وقد اطلعت عليها، ويؤكد أنه على قناعة تامة بزيف تلك المعلومات، لكن بعض المتنفذين الذين قادوا حملة ضد أبو حسان حالت دون اتخاذ قرار شجاع بتصحيح وضعه، وذلك حتى قبل مفاتحته بالتهمة التي أنكرها جملة وتفصيلاً (في العام 1984) .
وكنت قد استفسرت من منذر المطلك الذي كان على صلة بموضوع اعتقاله وأكّد لي أن من أشرف وأنبل وأشجع الشيوعيين هو ثابت حبيب العاني، وهنيئاً للحزب وجود رفاقه مثله، وشرح لي بالتفصيل ملابسات اعتقاله، حيث أنزله من سيارته الفولكس واكن في الكرادة، بعد لقاء في بيت أخيه مظهر المطلك، الذي قتل في ظروف غامضة لاحقاً، وضم فيها الرئيس أحمد حسن البكر ونائبه صدام حسين من حزب البعث وعزيز محمد وثابت العاني (من الحزب الشيوعي) ويبدو أن رجال ناظم كزار (وليس بمعزل عن الاتفاق مع صدام حسين) كانوا يتعقبون سيارة المطلك، وعندما تأكدوا بابتعادها بعد إنزال العاني، داهموه واعتقلوه ونقلوه إلى جهة مجهولة.
وكنت قد أشرت إلى قناة الاختراق من جانب الأجهزة البريطانية، ليس في حادثة "أبو حسان" فحسب، بل في البيان الذي أصدرناه مع مجموعة عراقية وهو غفل من التوقيع العام 1981، وأثار حينها جدلاً صاخباً، واتّضح انها ذات القناة التي اخترقتنا. وفي الكتاب تفصيلات إضافية حول الموضوع، بما فيها زيارة وزير الدفاع السوفييتي الجنرال غريشكو التي تأخرت لبضعة أيام، وقد سلّط ضوءًا على هذا الحادث مهدي الحافظ في عمود تم نشره في صحيفة المنبر في العام 1987، وفيما بعد مقابلات وحوارات مع عامر عبدالله ومنذر المطلك وآخرين.
ومع ذلك وبعد كل ذلك ينضوي الحزب تحت خيمة إياد علاوي في انتخابات العام 2005، في حين يتم الهمس سرّاً عمّا ذكره من ارتباطه بأكثر من 14 جهاز مخابرات في العالم، فأي خلق شيوعي هذا؟
ثم من استدرج عدداً من إداري الحزب إلى بغداد، وكيف عرف وطبان التكريتي بذلك، ولماذا أبلغ القيادة الكردية المفاوضة في بغداد عن وجودهم؟ والحكاية وتبعاتها موجودة في الكتاب، بما فيها مصير " الواشي" حسبما ذُكر، ولكننا لم نطّلع على التحقيق ومن اتخذ القرار بتصفيته خارج القضاء، وتلك أمور بحاجة إلى وقفة جدية وقانونية بشأنها دون اتهام أحد، وهناك أكثر من رأي بخصوص الموضوع سبق أن سمعته من رفاق في إدارة الحزب.
لعلّ طريق الاتهام هو أسهل السبل وأرذلها عند تقييم الناس، أما الساكت أو الخنوع أو المدجّن فهو مقبول، حتى إذا عمل في التنظيم الوطني وأصبح بعثياً لسنوات، وقد يكون مكانه محفوظاً، وحتى لو اعترف ووقّع على صكوك وتعهدات بالبراءة، فهناك مائة تبرير، فهو بموافقة إدارة الحزب وضمن اتفاق خاص، وقرار من م.س وهكذا.
لقد تعلّمت من تجربتي الشخصية الحزبية والسياسية، أن الرأي هو مشكلة المشاكل، فقد يتم غفران جميع خطاياك إذا كنت متوافقاً مع الرأي السائد، والويل والثبور لك إذا تميّزت برأيك. ولعلّ ذلك ما جلب لي الكثير من المتاعب المحبّبة، بل والشقاء اللذيذ، وإذا كان رأيي في الجبهة الوطنية أو ممارساتها سلبياً، فهذا لا يعني أنه سيكون إيجابياً إذا انتهج الحزب طريقاً مغامراً، وقد انقلب الكثيرون من هذه الضفة إلى تلك وبالغوا بالمرّتين.
ونعرف من كان متحمّساً لضرب الحركة الكردية في العام 1974، ومن حاول فرض الرأي لحل اتحاد الطلبة واتحاد الشبيبة ورابطة المرأة ومن اندفع بتأييد اتفاقية 6 آذار (مارس) العام 1975 بين شاه إيران وصدام حسين ومن تصرّف لدرجة التهوّر إزاء حركة خان النص وطالب بالمزيد من الإجراءات القمعية، ثم من اندفع بإرسال وجبات الرفاق إلى كردستان بطريقة عشوائية ودون قناعة الكثير منهم، لاسيّما الطلبة الذين اضطروا إلى قطع دراستهم، وكنت قد كتبت حينها إلى م.س منتقداً هذا التصرّف، خصوصاً بوضع بعض الرفاق أمام خيار الحفاظ على العضوية أو الذهاب إلى كردستان، وهو ما أبلغني به عدد من الرفاق والرفيقات الأمر الذي أصدر م.س تعليماته بإيقاف إرسال الرفقا الطلبة وأصحاب العوائل والمرضى وغير ذلك.
وإذا كنت معارضاً وأول من قدّم صدام حسين للمحاكمة في كتاب منشور وقدّم له باقر ابراهيم في العام 1981 عن "النزاع العراقي- الإيراني" وتحمّلت عائلتي الكثير من الأذى بسببه ويعرف ذلك كثيرون، فهذا لا يعني موافقتي على الاحتلال الإيراني للأراضي العراقية، لاسيّما بعد الانسحاب العراقي من الأراضي الإيرانية في العام 1982، حيث بدأت طبيعة الحرب تتغيّر، وخصوصاً عندما أعلنت إيران عن مشروعها الحربي والسياسي ومحاولتها لفرض بديلها الإسلامي وعملت على اجتياح الأراضي العراقية.
وكيف لي أن أرضى وأنا المعارض وأمين سرّ المعارضة باستمرار الحصار الدولي والدعوة إلى تشديده خلافاً لوثائق مؤتمر فيينا وصلاح الدين العام 1992، وبالطبع فقد اعترضت، واعتبرتها والمشروع بكامله مرتهن للخارج وللولايات المتحدة وتكوّنت لدي انطباعات بذلك، وإذا كان هذا رأيي وأعلنته، خصوصاً بالضد من ضرب العراق وضد الحصار الدولي الجائر والتعويل على المشروع الخارجي، وهو ما توصلت إليه خلال الأشهر القليلة من وجودي في المؤتمر، لهذا سارعت للانسحاب منه، بصوت عالي، وهو ما أثار ارتباكاً في أوساط المؤتمر، وأعقب انسحابي، انسحابات لاحقة بالتقسيط لقوى وشخصيات اكتشفت بعد حين أنها في إطار شركة لها إدارة خاصة لا علاقة لها بمشروع المعارضة المعروف، وهو ما قلته في مقابلات منذ أواخر العام 1983 وهي منشورة وموثقة، وما بعده.
وإذا كان الحزب يعرف منذ البداية أن المؤتمر مموّل أمريكياً، فلماذا استقتل للإنضمام إليه ويعرف من كان يعارض انضمامه ومن سعى لضمه ولديّ جميع المعطيات الخاصة بذلك، بما فيه الاجتماع التحضيري أيلول(سبتمبر) الذي كتبت بيانه وضمّت لجنة الصياغة كل من: كمال فؤاد وفلك الدين كاكائي وابراهيم الجعفري ورحيم عجينة وكاتب السطور الذي ترأس اللجنة، كما كتبت البيان الختامي للمؤتمر بعد شهر ونيّف من هذا التاريخ (أواخر تشرين الثاني/نوفمبر العام 1982)، ولكن عندما تطوّرت الأمور بعد بضعة أسابيع وصدرت تصريحات تؤيد ضرب العراق وتدعو إلى تشديد الحصار عليه (بحجة الحصار على النظام)، قررت الاحتجاج بكتابة مذكرة بعد اجتماعين للمجلس خلال الأشهر الخمسة الأولى، وهي منشورة ومعروفة ومدوّية، وكنت قد سلّمت نسخة منها إلى الرفيق عبد الرزاق الصافي الذي كان عضواً في المجلس التنفيذي للمؤتمر وهو يعرف مواقفي جيداً في الشام وفي كردستان وفي لندن، ثم أعقبتها باستقالة بعد أسابيع ولم ينبس أحد بكلمة واحدة.
وفي الوقت الذي غادرت المؤتمر احتجاجاً على سياساته العملية، كانت ملاكات الحزب وجماعة الصندوق تشتغل للعمل في مؤسساته، وقد دعا أمين عام الحزب (العام 1994) د.أحمد الجلبي إلى إطفاء شمعة الحزب الستين في إربيل في احتفالية خاصة بالمناسبة. وهي منشورة وموثقة. ولم ينسحب الحزب من المؤتمر الاّ بعد ما يزيد عن سنة من انسحابي منه، وبمذكرة لا ترتقي إلى موقف الحزب ومكانته، وبعد انسحاب أطراف كثيرة منه أو إعلان تجميد نفسها أو استعدادها للانسحاب، أما التخرّصات حول أسفار مزعومة فلم يكن ذلك سوى خيال مريض هو مرجع لبعض من لا حجّة له ويريد النيل من الآخرين، وبالمناسبة فقد دأب الكثير من أعداء الشيوعية على ترويج الأكاذيب والإشاعات فهذا سمير عبد الكريم (الإسم المرادف لجهاز المخابرات العراقية) نشر في الكتاب الذي صدر في أواخر السبعينات والمؤلف من 5 أجزاء والموسوم "أضواء على الحركة الشيوعية": إن فهد عشية إعدامه أبدى استعداده وتعهده لمغادرة العراق وعدم العودة إليه مطلقاً إذا تم إطلاق سراحه.
وقال هاني الفكيكي القيادي البعثي والمسؤول في قصر النهاية في كتابه "أوكار الهزيمة": إن سلام عادل أبدى استعداده لتأييد انقلاب 8 شباط (فبراير) العام 1963 بعد إلقاء القبض عليه، وفتح الحوار إذا توقفت الملاحقات بحق الشيوعيين وأطلق سراح المعتقلين، وهو ما تردد بشكل آخر على لسان حازم جواد.
للأسف فإن بعض شيوعي الصندوق يردّدون لدوافع مختلفة، بعض ما يقوله أعداء الشيوعية بحيث يصبح كلامهم "مرجعاً"، ولعلّ أخطر المعضلات التي تعرضت لها الشيوعية كفكرة نبيلة وحركة سياسية واجتماعية ، ثم فيما بعد كنظام هي، على أيد أصحابها من ضيقي الأفق الذين حوّلوها إلى "شيوعيلوجيا"، أي فكرة نسقية مغلقة وأحكام جامدة وتعاليم سرمدية (شيوعية ضد الشيوعية) وتحت عناوين مختلفة أصبحت أقرب إلى التعاويذ والأدعية، وأي اختلاف سيلقى بك في النار، حيث تبقى الفرقة الناجية، هكذا فعل ستالين وبولوبوت وشاوسسكو وأنور خوجه ومنغستوهيلاميرام وغيره.
إن أعظم الإساءات للشيوعية جاءت من بعض الشيوعيين الذي صبّ بعضهم في طاحونة الأعداء حتى وإن حملوا "المنجل والجاكوك" ولبسوا الأربطة الحمراء، وهتفوا بحياة الشهداء، لكنهم في الحقيقة ألحقوا ضرراً بسمعة الشيوعيين واتبعوا أساليب لا تختلف عن أساليب القوى المعادية للشيوعية، عند الاقتراب من الحكم أو في خارجه، وهناك القصص والروايات المثيرة لاسيّما في فترات الاختراق السياسي، والتي تصل أحياناً لدرجة "الوشاية" المباشرة أو غير المباشرة سواء لأجهزة عراقية أو أجهزة بريطانية أو دولية ومهمة هذه الأجهزة على المستوى العالمي لن تعيد ميتاً أو جنازة، فهي مثل المقبرة ، كل ما يصلها تحتفظ به، حتى لو كانت تدرك أنه كاذب 100%، لكنها تحتفظ به فقد ينفعها يوماً، ولن تكافئ أحداً على " كرمه" و"تبرعه" بالإساءة لرفاقه.
لا أدري لِمَ يستبدل رفيق مهمته الرفاقية النبيلة والحوار المبدأي والأخلاقي، بمهمة مفوض أمن؟ باعتباره يحمل الملفّات وبيده وثائق الإدانة وشهادات حسن السلوك ويعرف الباطن والمخفي والمُضمر، بل إنه يتحرّى ويخترق حتى ما في الضمائر، وهي المهمة التي لا تليق بأحد ولا يتمنّاها أحد، حتى من يقوم بها، تراه أحياناً في لحظة صفاء يلعن الدنيا ومن فيها، وقد عرفت محققون كانوا " يبكون" وكأنهم هم الضحايا، وبعضهم ضحايا بالفعل للنظام السياسي والاجتماعي ولوظيفة القمع التي أدمنوها أو أكرهوا عليها.
بعض مفوضي الأمن ممن أحيل على التقاعد، أصبح بلا أي إثارة، حتى وإن تطوّع لتمشية معاملات بزعم أنه يعرف الروتين، ولكن تعنّ عليه بين الفينة والأخرى اختلاق قصة عسى أن يلفت النظر إليه، وهو وإن اضطرّ إلى عرض خدماته بحيث يجلس أمام مركز الشرطة يسأل الآتي والذاهب عن امكانية تسهيل معاملته، لكن لا أحد يثق به حتى من يكلفه أحياناً بالمهمات غير المرغوب بها، لأنه ليس مصدر ثقة.
كان ناظم كزار لا يصدر أمر اعتقال بحق المطلوبين أو الملاحقين بصفتهم، فهذا سارق بنك، وذاك مغتصب لفتاة وثالث تاجر مخدرات ورابع شاذ جنسياً وخامس مختلس، وسادس لأنه مزوّر وسابع مطلوب بتهمة خطيرة مثل العلاقة بالصهيونية، وكانت هذه التهم تسبق عملية الاعتقال، ولاسيّما عند مداهمة منزل المطلوب، وخصوصاً إذا لم يتم إلقاء القبض عليه فيسرّب الخبر بهدف تسميم الأجواء وإحداث الرعب المسبق.
وهكذا ترى بعض المعتقلين في قصر النهاية ينهارون قبل أن يصلوا إليه، ويعرف كزار أن تهمة الشيوعية أو الانتماء إلى تنظيم ناصري أو بعثي يساري أو غير ذلك من التنظيمات الكردية لا تعني شيئاً، لذلك يركّز على ما هو أبعد ويسلّط الضوء على ما هو أخطر، ويبدو أن حصيلة بعض أصحابنا من حياتهم الحزبية هي نماذج مقاربة لناظم كزار، ونسى هؤلاء أن علم التحقيق كما درسناه فيه مدارس عديدة، منها المدرسة التي تلقي على المتهم ثلاثون تهمة أو خمسون، وعليه الإجابة عنها، وقد تخطأ في واحدة أو أكثر وحينها سيتغيّر مسار القضية، لكن هذه الطريقة أصبحت معروفة، وهي قديمة مع وسائل الاتصال الحديثة ومنجزات الثورة العلمية- التقنية وتكنولوجيا المعلومات والإعلام والطفرة الرقمية "الديجيتل".
كان عامر عبدالله يردّد دائماً: نحن محظوظون لأن السلطة ليست بيدنا، ولكنّا قد رأينا مجازر مثل مجزرة قاعة الخلد وربما أكثر، وقد دوّن بعض المجازر التي حصلت في البلدان الاشتراكية في كتابه الموسوم "مقوضات النظام الاشتراكي"، الذي هو خلاصة تجربته وإن كان قد كتبها بمرارة، ولعلّ العطش إلى السلطة والصراع على المواقع هو سمة بارزة لشيوعيّ الصندوق الذين كان شغلهم الشاغل هو المكائد والدسائس، فهذا يطيح بذاك وذلك يتآمر على الآخر وهكذا، لدرجة جعلتهم يتصرّفون مع أي موقع مسؤول وكأنهم سلطة، وأحياناً دون روادع وباسم العمل السري الذي جلب لنا الكثير من الويلات والكوارث، حتى وإن كان مفروضاً علينا.
فنحن وإن كنّا خارج السلطة، لكننا ارتكبنا الأهوال دون مساءلة أو محاسبة قانونية أو أخلاقية تذكر من: تفتيش الغرف وفتح الرسائل والتلصّص على الأسرار وملاحقة الطلبة وعدم تمديد الاقامات وحجب الحصول على جوازات السفر والعلاج والفيزا، بل والاتصال بسلطات البلدان المضيفة لسحب الغطاء السياسي، مع تلميحات بالمشبوهية والعلاقات المريبة، وبعضها يصل إلى القيام بالتعذيب وقتل شيوعيين، ناهيكم عن عدم شعور بالمسؤولية في التعامل مع إرسال الرفيقات والرفاق إلى الداخل لتسجيل انتصارات وهمية، الأمر الذي يحتاج إلى كشف حساب وغير ذلك.
وهناك عشرات ومئات الأمثلة المعروفة في المنافي البعيدة والبلدان القريبة وفي كردستان، وأحتفظ بالكثير منها. وقد كتب الاعلامي شريف الربيعي مادة في صحيفة الحياة بعنوان "المشبوه"، تحدث فيها عن مراراته والتعامل مع الرأي الآخر ودوّن القاص محمود البياتي جزءًا من تجربته على هذا الصعيد، وكيف تم تهديده بالطرد وكيل التهم له ومطالبته بكتابة تقرير عن الكتلة المنشقة " المنبر"، وينوي إصدار رواية عن ذلك، وأملي أن تساعده أوضاعه الصحية على استكمالها، وأستطيع أن أعدّد عشرات الأمثلة لمثقفين عراقيين عانوا الأمرين من ممارسات جماعة الصندوق.
وأتذكّر أنني عندما عدت إلى الشام من كردستان وذلك بعد مجزرة بشتاشان صيف العام 1983، أول ما فاجأني هو اتهام ضد اثنين من المثقفين الشيوعيين العراقيين، فقيل لي عليك مقاطعتهما لأنهما مشبوهان ويعملان لصالح جهة أجنبية، قلت لمن؟ قيل للموساد الإسرائيلي؟ قلت ومنذ متى، قيل أنهما اعترفا ولدينا الفايل؟ وما عليك إلاّ أن ترتاح وسوف نطلعك على التفاصيل وستقرأها بالكامل.
ضحكت بسخرية وردّدت مع نفسي "حدّث العاقل بما لا يليق فإن صدّق، فلا عقل له": وأردفت من باب الإستيضاح والمشاكسة قولوا إنهم مع النظام العراقي، فالأمر ممكن وقد يكون اختراقاً على الرغم من رفضي لتهمتهما لمعرفتي بهما، وقولوا أنهما على اتصال بالسوريين، فهو أمر ممكن، لكن أن يكونا مع الموساد ومع إسرائيل، فهذا أمر يكاد يكون مستحيلاً، وقلت ماذا لو عرف السوريون، فماذا سيكون مصيرهما والتهمة كانت رائجة؟ ويبدو أنه أريد لها أن تصل إلى السوريين!!
وقيل لي المهم عدم اللقاء بهما وعدم السلام عليهما أو الترحيب بهما، خصوصاً في الأماكن العامة وعند تجمّعات المثقفين، لأن ذلك قرار الحزب.. بالمقاطعة الاجتماعية لكي يشعرا بالعار والخزي. لم أكترث بتلك التحذيرات الساذجة واللئيمة، وعند خروجي من اللقاء أخذت تاكسي لأزور أحدهما وأستمع منه إلى القصة الكاملة، وهي ليست أكثر من نكاية وخروقات وتقوّلات، كنت أعرفها وهي سائدة في هذا الوسط الذي علينا التعامل معه بحذر وطول نفس ومرونة، وبعد يومين إلتقيت الرفيق الثاني، دون أي اعتبار للإجراءات التي اتخذتها جماعة الصندوق، والتي شملت لاحقاً العشرات، بل تم تقنينها عبر " نشرات داخلية" تتحدث عن أصحاب الاكتاف الرخوة الذين خارت عزائمهم، وتدعو إلى المقاطعة الاجتماعية! ولأنني كنت أعرف ذلك، فقد سبق لي أن دعوت عبد الرزاق الصافي "أبو مخلص" والرفيق عزيز محمد " أبو سعود" في منزل أحد الرفيقين في جلسة اجتماعية كان تأثيرها كبيراً، ولكن الأمور اتخذت بُعداً آخر عندما استخدمت عصا التأديب والعقوبات والإجراءات التعسفية، ولكل رفيق عشرات الأمثلة على ذلك.
يروي سعدي يوسف الشاعر الكبير في روايته "مثلث الدائرة" عن حملة عقوبات وملفّات وتحقيق واتهامات في اليمن ما أنزل الله بها من سلطان وهو ينقل ذلك على لسان المسؤول الذي عالج تلك الأمور بعقلية أمنية حيث تم فصل العديد من الرفاق مع سيل من الاتهامات والشكوك والعداوات والمقاطعات الاجتماعية.
وحين زرت اليمن في أواسط الثمانينات كانت الحال يرثى لها فالجو الأمني سائد والعلاقات متوترة، وقد طلبت 7 جوازات سفر من اليمنيين إلى رفاقنا الذين كانوا خارج "الكوتة" ومن المغضوب عليهم وسلمتها إلى علي شوكت عرمش وعدد آخر لا أتذكر إلى عدد من الرفاق في الشام.
لقد قدمّت نحو ثلاثة آلاف مذكرة للسوريين خلال عملي مسؤولاً عن العلاقات في الشام 1981-1982، ثم بعد ذلك في المنبر أواسط الثمانينات حتى نهاياتها وساعدت عشرات، بل المئات من الشيوعيين وأصدقائهم، وكنت أختلف مع الكثير من الرفاق في إدارة الحزب حول طلباتهم الشخصية، فذاك يريد هوّية عدم تعرّض باسم "مستعار" موجود في الجواز، وآخر يزعم أنه غير معروف وسرّي، لكنه يطلب التعريف به بشكل خاص من القيادة خوفاً من مداهمة رجال الأمن، وهذا يستدعى ويطلب مني الذهاب معه للمخابرات، ولقد عرفت الكثير من النماذج والمعلومات والأسرار التي لو دوّنتها لكانت صدمة حقيقية، لكنني كنت ولا أزال حريصاً عليها، حتى أن البيت الذي أريد استئجاره مقراً لقيادة الحزب، كنت قد استأجرته باسمي، وهو قرب السفارة السوفييتية، إضافة إلى منزل آخر كنّا نستخدمه بتعريف مني.
وأعتقد أن السوريين خلال تعاملهم معي كانوا يدركون مدى حرصي على عدم خرق القانون وفي الوقت نفسه حرصي على وضع حدود ومسافة بين الحزب وبين أجهزة الدولة ومؤسساتها، وكنت أسعى دائماً أن تمرّ غالبية القضايا من خلال قناة سياسية وهناك قصة رويتها جمعت عامر عبدالله وفؤاد بلاّط وكاتب السطور، حين اقترح علينا إقامة علاقة مباشرة مع علي دوبا، وكان جوابنا دون اتفاق ودون أن ينتظر أحدنا الآن: هو أننا نقيم علاقة سياسية ، وللقضية ذيول أخرى.
وخلال عملي رئيساً للمنظمة العربية لحقوق الإنسان في لندن، قمت بتقديم تسهيلات وكتابة رسائل لنحو 7 آلاف شخص، بينهم حوالي 6000 آلاف من العراقيين في بريطانيا وما يزيد على 1000 شخص في أوروبا إضافة إلى نحو 1000 شخص من العرب وخصوصاً من الفلسطينيين والبحرينيين والليبيين والسودانيين وغيرهم، بهدف الحصول على اللجوء السياسي واحتفظت بملفاتهم، بما فيها بعض مبالغاتهم، وكنت أنصحهم بما يقدّمون به أنفسهم، وهناك عشرات من القيادات العراقية الحالية، كان لي دور في حصولها على اللجوء السياسي، إضافة إلى قيادات شيوعية، بمن فيهم بعض الذين ارتكبوا بحق رفاقهم، لكن الحيدة كانت تقتضي عليّ مساعدة الجميع دون النظر إلى تفاصيل عملهم السياسي، التي لم تكن تعنيني ولا زلت.
ويخصّص سعدي يوسف عدّة صفحات من روايته لقضية النظرة التشكيكية والإجراءات القمعية الداخلية وأساليب الوشاية والإيقاع والدس وهي بكل الأحوال، تصرّفات لا تليق أن تكون بين شيوعيين، حتى وإن اختلفوا أو خرق بعضهم الضبط الحزبي المزعوم وهو ضبط مخترق من " الفوق" ومن الغير، كما هو معروف وليس من جانب رفاق مثقفين كل ما عندهم لا يؤخر ولا يقدّم، وهم أقرب إلى ضمير الحزب الذي يتّسع للنقد والمراجعة والتنوير.
لقد احتوى كتابي عن عامر عبدالله على وثائق ساهم الراحل في كتابتها وقد نشرت مجتزأً ضافياً من تقرير الكونغرس الثاني لعام 1956 والموسوم " خطتنا في سبيل التحرر الوطني والقومي..." ( المبحث الخاص بالسياسة التحررية العربية والمسألة القومية الكردية)، نظراً لأهميته وحيوية الاستنتاجات التي توصّل إليها، وهناك من يجادل بأن الرفيق سلام عادل هو من كتبه أو أشرف عليه، وهي مناكفة لم أجد لها مبرّراً، خصوصاً بإنكار مساهمة عامر عبدالله وهي معروفة، خصوصاً وهو كاتب ومؤلف ومترجم وما نشره بعد ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958 وما ألقاه من محاضرات، لاسيّما حول الوحدة العربية والاتحاد الفيدرالي وما نشره في صحيفة اتحاد الشعب (حتى وإن كان بإشراف سلام عادل) ما يؤكد ذلك، وللأمانة أقول أن عامر عبدالله أبلغني أنه هو الذي كتب التقرير بإشراف سلام عادل وموافقته، ولعلّ ذلك يمثل أسلوبه وتوجهه، وإن كان توجّهاً عاماً آنذاك، لاسيما في فترة ما قبل الثورة. والمهم فإن التقرير هو ملك الحزب سواء كتبه عامر عبدالله أو سلام عادل أو وضع الثاني خطوطه العريضة وكتبه وأنجزه عامر عبدالله. ولا أدري لماذا يستفز البعض من دوره ومساهمته؟!.
كما نشرت شهادته ضد محمد فاضل الجمالي في محكمة الشعب، لدلالتها الراهنة، فيما يتعلق بالموقف من المعاهدات المذلّة والمجحفة، بما فيها الإتفاقية العراقية – الأمريكية التي وافق عليها الحزب العام 2008.
ونشرت رسالة (مذكرة) احتجاج باسمه وعدد من قادة الحزب ويبدو أنها موجهة للسوفييت، كما أكد لي باقر ابراهيم لاحقاً، يشرح فيها تدهور أوضاع الحزب بعد الهجرة إلى الخارج العام 1978-1979 ويصف استغلال تلك الظروف من جانب بعض الرفاق القياديين لأغراض وصولية وذلك بالتحريض على وضع الحزب في طريق الانعزالية والمغامرة والتذبذب وإشاعة مظاهر البيروقراطية والفردية والتسلّط وأجواء التحريض والإساءة والتنكيل بكوادر الحزب وأعضائه.
وتقول مذكرة عامر عبدالله: لقد نجم عن هذا النهج المغامر تفاقم خسائر الحزب وتضحياته التي بلغت 500 شهيد يمثلون صفوة كوادر الحزب وعناصره الواعية... بالإضافة إلى بضعة ألوف طردوا من الحزب أو تُركوا تحت تأثير أسباب مختلفة... ونظراً لتفاقم الخسائر... فقد جرى التستر عليها واخفاؤها عن أعضاء الحزب وكوادره، حيث بلغ عدد الشهداء بين اجتماعي اللجنة المركزية من تموز 1984 حتى تشرين الأول 1985 (100 رفيق) وكان من بين هذا الرقم، الأحداث المفجعة بإعدام نحو 50 رفيقاً من مفارز الأنصار داخل مدينة إربيل في يوم واحد، وفق تواطؤ غادر مع دوائر الأمن العراقية.
تتطرق المذكرة إلى عقلية وإجراءات " التمييز القومي" داخل الحزب وتقلّص " دور القادة والعناصر العربية تدريجياً" ويعتبر ذلك ظاهرة مستمرة وبلغت ذروتها في المؤتمر الرابع وما بعده. وتدعو الرسالة إلى تعديل موقف الحزب من الحرب العراقية – الإيرانية، التي " اتخذت طابعاً عدوانياً توسعياً من جانب إيران".
وتنقل الرسالة ما قاله الرفيق عزيز محمد " إننا اجتمعنا لكي بلغي نصفنا النصف الآخر" وتصف الإجراءات تلك بالإنقلاب الفوقي، حيث جرت التهيئة له بحملات الدس والإساءة ضد عدد كبير من الرفاق القياديين داخل منظمات الحزب والصحافة والخليج وقبرص وغيرهما قبل ثلاث شهور من عقد المؤتمر، بوسائل تبعث على الارتياب حيث تسلل إليها هذا التأليب المغرض ...وطالبت الرسالة "وضع حد لأساليب التجسس والوشاية والتأليب داخل الحزب والتطاول على الشرعية الحزبية وانتهاك قواعد النظام الداخلي وتصفية مظاهر التسلط والبيروقراطية والقيادة الفردية".
واتخذت مذكرة أخرى باسم عدد من قادة وكوادر الحزب كتبها عامر عبدالله وحملت توقيع نوري عبد الرزاق، وتحدثت باسم باقر ابراهيم وحسين سلطان وعدنان عباس وماجد عبد الرضا ومهدي الحافظ وخالد السلام وأحمد كريم وكاتب السطور، وعبّرت عن مجموعة واسعة من كوادر الحزب وأعضاء الحزب ذات التوجه وطالبت بإعادة الحزب إلى ساحة عمله الرئيسي داخل الوطن ومعالجة الموقف من الحرب مع إيران في ظروف الاجتياح العسكري والتهديد المعلن بغزو العراق ومن أسلوب الكفاح المسلح وإضعاف استقلالية الحزب وتفشي الظواهر الغريبة في حياته واتخاذ إجراءات جائرة ضد عناصر قيادية كفوءة، ودعت إلى حلول ومعالجات منها: تكوين هيئة عمل مؤقتة ووضع وثيقة سياسية مركّزة حول الأهداف والمهمّات وتدارس أوضاع ما بعد الحرب وحل القضية الكردية ومسائل الحريات الديمقراطية وإعادة البناء.
كما دعت المذكرة جميع الأطراف لوقف النشر واستعادة مركزية الإعلام وإناطته بعناصر كفوءة وإعادة النظر بقرارات الفصل والاقصاء وتدارس إمكانية عقد كونفرنس على أساس تطبيع العلاقات ووقف الطعون المتبادلة ومعالجة الظاهرات المتفاقمة للنزعات القومية وترسيخ القيم الإنسانية والأخلاقية وتصفية مظاهر التملّق والمسايرة والتخضّع والتكيّف والولاءات الشخصية والدينية والطائفية ونزعات الارتزاق والوصولية والتخلص من مظاهر الاستعلاء والغطرسة والضغائن وميول الانفتاح وتصفية الحسابات.
وبغضّ النظر عن بعض جوانب التظلّم في المذكرتين (الأولى العام 1986 والثانية 1989)، فإن الحزب كان بحاجة إلى تجديد طاقمه القيادي، لكن الأجواء التي سادت لم تكن صحيّة، حيث شهدت أعمالاً كيدية وتصفية حسابات، ولهذا فإن الكثير من الطعون واجهها المؤتمر الرابع قبل انعقاده، وكانت النتائج معروفة سلفاً، بل إن بعض من لم يحصل على الأصوات الكافية جرى ضمّه إلى القيادة وأصبح بعضهم لاحقاً في م.س، مثلما تم ضم عشرة رفاق دون ذكر اسمائهم بزعم العمل السري وأنيطت المسؤولية بعزيز محمد في سابقة غير معهودة في الحزب (وسمّيوا الرفاق العشرة المبشرين بالجنة)... أقول بغض النظر عمّا ورد في المذكرتين من وجهات نظر، إضافة إلى وجهات نظر القيادة الرسمية، فإن المؤتمر الرابع طرح، أزمة الحزب الفكرية والسياسية والتنظيمية، التي لا تزال مستفحلة على نحو شديد، ولعلّ مجرد صدور كتاب عن عامر عبدالله، أثار لدى الجهة المحدّدة مثل هذا القدر من الإساءة والتشويه، حتى بعد مرور نحو ثلاثة عقود من الزمان على ما حصل، وعلى ما كتبه عامر عبدالله.
الأجدر والأجدى هو البحث عن حلول ومعالجات لأزمة الحزب، سواء ما يتعلق بتلك الفترة أو ما بعد الاحتلال، خصوصاً تحالفات الحزب، سواءً في انتخابات العام 2005 أو 2010 أو 2014، ولماذا تدهور رصيد حزب تاريخي إلى هذه الدرجة؟ وبالطبع فإن مثل هذا الأمر يحزّ في نفوسنا، وقد منحنا صوتنا ومن حولنا ومن سألنا من الأهل والأصدقاء إلى رفاقنا وأصدقائنا، على الرغم من كل الجفاء وسوء الظن، لكن الاختلاف واضح في التفكير وأول ما بدر إلى ذهني عقب إعلان النتائج هو ما السبيل لمعالجة مثل هذا الوضع؟
وأعدت السؤال: أليس هناك ضرورة لأعادة النظر بسياستنا، وبموقع الأمين العام وحتى لو كان الموضوع حساساً لأنه يأتي من طرفي، لكن هناك مطالبات عديدة دعت الرفيق الأمين العام حميد مجيد موسى لأن يقدم استقالته، وحين ندعو للتداولية والتناوبية ونرفض ولاية ثالثة لرئيس الوزراء، لماذا لا نتحدث عن أنفسنا؟ ولماذا لا يتخلّى الأمين العام طوعاً عن ولايته الرابعة ويبادر إلى اتخاذ قرار شجاع يقول فيه لقد فشلنا؟
ألم نفشل؟ ثم كيف نعطي قوة المثل؟ أم أن أحزابنا صارت بالجملة تسير بعضها وفقاً للوراثة: أحزاباً إسلامية وكردية، وبعضها الآخر يتم التمسك بالأمانة العامة لعقدين وما يزيد على الزمان، بل إن بعض هذه الأحزاب، لم يبق الاّ الأمين العام، الذي يرتب أمانة عامة على مقاساته.
آن الأوان للتشجيع على ثقافة الاستقالة والتداولية، وشخصياً كنت قد تمنيت للصديق العزيز حميد مجيد موسى البياتي، الصحة والسعادة وأن يكمل مشوار حياته بكل ما هو مثمر ومفيد، وأن يبقى شيوعياً حتى الرمق الأخير بصفة استشارية أو أية صفة أخرى غير تنفيذية، لكن عليه أن يترك موقع الأمين العام بعد الفشل المريع الذي تعرّضنا له. لا أظن أن في ذلك تحاملاً على أحد وليس انتقاصاً من دور أحد وليس لديّ أية مصلحة شخصية، ولعل شعوري بالمسؤولية وواجبي يدفعني لمثل هذه المطالبة العلنية.
كنت ولا أزال في ذلك الخضم وعصف التجارب والأخطاء العامة والخاصة، لا أتردد من نقد مواقفنا وأخطائنا ممسكاً باتجاه البوصلة، دون أن يمنعني ذلك من نقد بعض آرائي ومواقفي السياسية والفكرية، ولا أذيع سرًّا إذا قلت أن مشاعر بعضنا تبلّدت الى حدود غير قليلة، وبدلاً من رحاب الشيوعية حيث الجمال والنور والبحث عن الحقيقة والسعي لمساواة البشر ورفاههم والوقوف ضد الاستغلال، فقد تحوّل بعضهم، ولاسيّما من شيوعي الصندوق إلى أقرب الموظفين، لاسيّما في البحث عن "الغنائم" .
وقد قلت في حوار مع الرفيق كاظم الموسوي وأعدّه بكتاب صدر بعنوان " عبد الحسين شعبان- الصوت والصدى" حوارات في السياسة والثقافة: إن ذلك لا يمنعني من نقد بعض آرائي ومواقفي السياسية والفكرية، لاسيّما إذا أثبتت الحياة عدم صحتها أو تجاوزها الزمن، أو أن معطيات ومعلومات جديدة توفرت لدّي، وما توفّر لدينا من معارف يختلف عما كان عندنا قبل خمسة أو أربعة عقود من الزمان، الأمر الذي بحاجة الى إعادة نظر بالكثير من الاستنتاجات والمواقف.
وعلينا أن نتحلّى بالشجاعة لنقول ذلك على المستوى الشخصي أو العام، فالنقد لا يطهّر النفس حسب، بل يجعلها تقف بمسؤولية إزاء المستقبل، وتحسب كل خطوة بشكل أدق وأكثر رهافة، حتى وأن وقعت في الخطأ مرة ثانية وثالثة، المهم أن لا تكون تلك الأخطاء جسيمة أو فادحة، تتعلق بالشرف الشخصي أو الوطنية أو النزاهة الاخلاقية، أما إذا أخفقنا في التقدير أو دخلنا تحالفات خاطئة أو اصطففنا مع توجهات، ثم اكتشفنا أننا لسنا في الموقع الصحيح، أو اتخذنا بعض المواقف بناءً على معلومات خاطئة أو تقديرات غير سليمة فهذه هي السياسة، وعلى من يعمل فيها أن يلبس جلد تمساح، لأنه سيكون عرضة للنقد العام، وعليه هو أن يقدّم أولاً وقبل غيره على نقد نفسه.
أما الذين لا يتغيرون أو لا يخطأون فهم لا يفعلون شيئاً وقد يتحولون الى أصنام متحجرة ولا يتأثرون بالحياة المتحرّكة، والإنسان الذي لا تغيّره أو تغنيه التجارب سيتكلس ويصاب بالصدأ، والسياسة في نهاية المطاف، بل والحياة كلّها في جميع جوانبها، تجارب متواصلة، فيها الخطأ وفيها الصواب، وعلينا طالما نستمر في الحياة أن نجرّب.
لا يهمّ إن غيّر المرء رأيه، فهو لا يغيّر قوميته أو يستبدل وطنه أو لغته، بل من الضروري أن يغيّر الانسان مواقفه وآراءه ويتراجع عنها إذا اكتشف خطأها وعليه أن ينتقد نفسه، فالحياة فيها الكثير من التضاريس والمنعرجات، ولا تستمر بخط مستقيم ومن يقول لك أنه لم يخطئ فإنه لا يريد الاعتراف بأخطائه، لكي لا يضطر إلى نقد نفسه مأخوذاً بالعزة بالإثم، حتى ولو ارتكب المعاصي، سواءً كان شخصاً أو حزباً، وهكذا ترى البعض يدافع عن الأخطاء لدرجة يعتبرها مكاسب تاريخية.
أشعر دائما " بالتطهر" كلما قيّمت تجربتي وأتوقف دائما عند بعض المحطات منها، لاسيّما التي كان خياري فيها خاطئاً، وأكون شديد الاعتزاز بنفسي حين أكون قد أقدمت على تصحيح ذلك الخطأ وبالسرعة الممكنة ، إذ لا أريد إخفاءها وكما يقول الجواهري الكبير :
أأنت تخاف من أحدٍ أنت مُصانع أحدا
أتخشى الناس أشجعهم يخافك مُغضباً حردا
ولا يعلوك خيرهمُ ولست بخيرهم أبدا

كنت قد قلت كان من المشرّف والأخلاقي إعلان رأيي بشأن ما اتخذ من إجراءات قمعية في الثمانينات، ولعلّ تقييمي لتجربة المنبر الشيوعي الذي ساهمت في تأسيسه وضم نخبة متميّزة من المثقفين كان أحد وجوهها إيجابياً، وساهم في إثارة النقاش حول أزمة الحزب المستفحلة وخصوصاً بشأن الحرب العراقية – الإيرانية والتحالفات وأساليب الكفاح، لكن التجربة وصلت إلى طريق مسدود بعد أن استنفدت أغراضها ووقعت في أخطاء وممارسات سلبية، وهي لا تختلف في بعضها عن أخطاء القيادة الرسمية التي انتقدتها. ولذلك لم يكن من الحكمة الاستمرار فيها، وهو ما اخترته بعد حين، حيث افترقت الخيارات، وعندما تمت دعوتي من جانب كوادر أساسية في المنبر لقيادته، كنت قد قررت التوقف عند هذا الحد، مبرّراً ذلك أن لديّ الكثير من الأخطاء ولا أريد تحمّل أخطاء الآخرين.
وكنت قد صارحت محاوري كاظم الموسوي من إن استمراري منذ أواسط السبعينات في الحزب الشيوعي دون قناعة تُذكر، لم يكن له مبرّر، الاّ اعتبار أخلاقي، ولعدم رغبتي في تركه وهو في ظرف صعب، ولاسيّما بعدم الهجوم الشرس عليه. لقد تأخرت في الخروج من الصندوق على الرغم من تمردّاتي الكثيرة، وهو ما اعتبرته واحد من أخطائي التي قلتها علناً، ولكن كلّما ابتعدت عن الصندوق ازددت ماركسية " مادية جدلية".
في زيارة لميشيل فوكو إلى ألتوسير في مصحة الامراض العقلية بضاحية سانت آن سأله :" هل ما زلت ماركسياً؟ " أجابه ألتوسير: ومن تكون أنت بغيرها؟ لقد قرأت ماركس، كقارئ، تم ككاتب، ثم قراءته كمتن ونص، وأخيراً من رؤية نقدية، وهو ما جعلني أنظر إليه بحرية أكبر وباعجاب أكبر، لاسيّما لمنهجه الذي ما زال صحيحاً، وللاسف نحن تركنا المنهج وتمسكنا بالتعاليم التي كانت تصلح لعهده وليس لعهدنا، الأمر الذي نحتاج فيه لمعرفة قوانين عصرنا ودراسة ماركسية القرن الحادي والعشرين، وهذا يتطلب الوقوف عند الكثير من المتغيرات التي حصلت بفعل العولمة وما بعد الحداثة حول مفهوم الطبقة العاملة ودورها ودور فئات الجيولوجيين والمهندسين ومدراء ومسؤولي الحقول المعدنية وغيرهم ومفهوم الاغتراب الجديد وعلاقة البلدان الرأسمالية المتقدمة بالبلدان النامية، لاسيّما مرحلة ما بعد الاستعمار.
عندما يهيم الانسان بالحقيقة ويبحث عن العدل، يكون مسكوناً بالهّم الإنساني حتى وإن كان حالماً، والحلم هو جزء من حقيقة متجسّدة في إطار مستقبلي أو مثالي نظل " نلهث" ونمنّي النفس للوصول إليه، لنكتشف أن أحلاماً جديدة متراكبة، نبقى نركض وراءها أو نقترب منها دون الامساك بها.
لعلّ في ذلك جزء من التصالح مع النفس، بل عهداً وصداقة معها، وقد تكون تلك الصداقة هي أقسى أنواع الصداقات وأكثرها شقاءً حسب الفيلسوف الاغريقي " أفلاطون"، لأنها تتطلب نوعاً من التماهي بين المعلن والمستتر، والظاهر والباطن، والقول والفعل، الأمر الذي بحاجة إلى رياضة نفسية وروحية طويلة الأمد وعلى درجة عالية من النقد والنقد الذاتي، انطلاقاً من الثقة بالنفس أولاً ومن الجرأة في قول الحق حتى ولو على نفسك ثانياً، وقد يكون في الأمر ثمة نوع من " التطهّر" الروحي والأخلاقي ثالثاً.
هذه الصداقة بامكانها حماية النفس من الرذيلة والكراهية والظلم، فلا يستطيع المرء أن يكون عادلاً وباحثاً عن الحقيقة والمشترك الانساني، إنْ كان متهاوناً إزاء الشرف الشخصي أو الأمانة الوطنية والشخصية أو الذمة المالية، لاسيّما ما يتعلق بالنزاهة الاخلاقية، وبقدر كونه قوياً وصلباً إزاء ذلك، فعليه أن يكون متسامحاً، ولا ينبغي ان يحمل الكراهية في قلبه أو يدعها تسلّل إلى سلوكه، حتى إزاء من يسيئون له، فالتسامح قيمة إنسانية عليا راقية، والتسامح لا يعني التهاون إزاء الظلم والظالمين، بل البحث عن طريق للحق والعدل والحقيقة وعلى أساس الحقوق الانسانية غير القابلة للتجزئة، وحسب فيلسوف وقائد الهند العظيم المهاتما غاندي: : أنا لا أحبّ التسامح، لكني لم أجد شيئاً أفضل منه، وبما أنه لا يوجد هذا الشيء، فإني أفضّل التسامح، الذي أصبح قيمة بحد ذاته.
صداقتي مع نفسي منحتني هذا القدر من المراجعة والنقد الذاتي، لأنني كنت الأقرب إلى نفسي وإلى مونولوجي الداخلي ومعرفتي بمكامن الخطأ والتقصير، وإسراعي لتصحيح وتصويب ما ادركته أو تأكدت منه، انه لم يكن صائباً أو صحيحاً في العلاقات الشخصية أو في العمل السياسي والثقافي. ربّما نجد في هذه الحوارات فواصلاً مهمة في حياتنا الفكرية والثقافية والسياسية، وهي تعبير عن أفكار وآراء، وسعيت من خلالها للبوح والمكاشفة والنقد، بشفافية عالية ودون اكتراث حتى عندما أشخص أخطائي ونواقصي، وأنا سعيد بها لأنها جزء مني، وهو ما أحاول بسعي وجدّية إكتشافه ومراجعته علناً، لاسيّما بنشر المقابلات والمقاربات التاريخية على مدى أكثر من ربع قرن، وهو ما فعلته مع محاوري كاظم الموسوي.
عندما أحاور نفسي وغالباً ما أفعل بكل الصراحة والنقد، فأنا أدخل في حوار مع الآخر، أتعلّم منه مثلما أفترض إنه والمتلقي يتعلّمان أيضاً، وعليّ أن أعي دوري ووظيفتي الفكرية، وهي النقد، قاعدة للتنوير والمعرفة، وبدون النقد لا يمكن للمثقف أن يكون مثقفاً حقيقياً، وأحياناً أجد نفسي في منافسة بين إرادة الأنا وإرادة الناقد في داخلي وإرادة أو إرادات الآخر، ولذلك أسرع لتدقيق أقوالي ومواقفي وأراجع أفكاري وآرائي، كي لا أكون قد جانبت الحقيقة بناءً على تقديرات خاطئة أو معلومات غير صحيحة، الأمر الذي يقتضي قوله بصدق وصراحة علناً وتحديد المسؤولية بشجاعة، حتى وإن أخطأت!!
لم أتعلّم أن أبلع لساني أو أسكت أو أغض الطرف مثلما يفعل كثيرون، ممن لم يعتادوا على المجاهرة بآرائهم، فقد اعتادت الكثرة الكاثرة على المسايرة والانحناء وقبول ما يقوله أصحاب السطوة والنفوذ في السلطة والمعارضة، ولعلّ السؤال البديهي: هل سيكونون من الجرأة ليتمكنوا من كشف أخطائهم أو التأشير إلى مواطن الخلل في مواقفهم وسلوكهم وتجنيّهم أحياناً على العدل والحقيقة، لذلك تراهم يفضلون الصمت أو السير مع القوي ومجاراته، وهناك دائماً من يغطي نفسه بدثار " الجماعة" لدرجة فقدان صوته وضياع فردانيته لحد الانصهار في إطار المجموع، ولعلك على مدى عقود من الزمان لا ترى له لوناً أو طعماً أو رائحة، فهو يفضل البقاء في الصندوق على حساب اتخاذ موقف مستقل، حتى وإن كان قد توصل إليه، وذلك حباً بالسلامة وتجنّباً للمواجهة، لعلّ هؤلاء هم من قرّعهم الجواهري عندما قال:
" إن الحياة كفاح وتضحية حبّ السلامة فيها أرذل السبل"
عندما اعتبر الفيلسوف اليوناني ارسطو أن أفضل طريق إلى الكرامة يتمثل باتساق بين ما نُظهر وما نُبطن، فلعلّه قصد اقترابنا من الحقيقة، التي هي وحدها تطّهر الروح وتخفف من عبء الأنا بانسجامها موضوعياً مع الأنت، الآخر، باستكمال مشروع التعايش الحضاري والثقافي في إطار المشترك الانساني، وذلك هو ما أدعوه فضاء الشيوعية!

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا