<%@ Language=JavaScript %> زيد العامري الرفاعي جدليَّة اللُّغة والوطن في رواية "مرافئُ الحبِّ السَّبعة" لعلي القاسمي

   

لا

للأحتلال

لا

للخصخصة

لا

للفيدرالية

لا

للعولمة والتبعية

حضارة بلاد الرافدين   

    

                                              

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين                                    

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                            

 

جدليَّة اللُّغة والوطن

 

في رواية "مرافئُ الحبِّ السَّبعة" لعلي القاسمي

 

 

بقلم: زيد العامري الرفاعي

 

 

تمهيد

لم تقتصر موضوعة سيرة الحياة على جنس الرواية  فحسب ، بل تناولتها  الاجناس الادبية الأخرى  من قصة وقصيدة ومسرحية. لكن الملفت للنظر هو أن إشكالية تصنيف جنس السيرة الذاتية، باعتبارها عملاً روائيّاً،  لا تزال  قائمة  تترواح بين طرفي القبول والرفض. وإذ يندر أن يشغل النقاد انفسهم  بتعريف  القصيدة أو المسرحية عند دراستهما ، نجد إن الامر مختلف عند  دراسة سيرة الحياة  لأنه  لابُدَّ أن تبدأ مثل هذ الدراسة  بتعريف لها. بيدَ أن معيار  تعريف السيرة  ليس بالامر اليسير. وحين يطلع المرء على الأدبيات النقدية حول موضوعة سيرة الحياة ، يندهش من  أمرين مهمين هما: الكمّ المكتوب عنها ومقدار الضبابية الذي يحيط بها 1.

يسميها شابيرو القارة السوداء في الادب ؛  و يعتقد  ان عدم تناول  أرسطو لها، فضلا عن عدم ورودها في أعماله ، ربما يكون هو السبب في جعلها  موضع اشكالية وبحاجة  للتعريف دائما. ويضيف شابيرو أن فيها فائدة جمة بفضل  ميزتها  التربوية.  أضف الى ذلك ، أن السارد عنده يتساوى مع  الشاعر، لان كلاهما صانع مبدع2.

وإنه لأمر مستبعد وجود تعريف عام شامل متَّفق عليه للسيرة الذاتية .  ويُعتبر  فيليب لوجون من أوائل النقاد الذين حاولوا وضع تعريف جامع  ومانع لها3 . إذ طرح مفهوم العقد  الذي يعني لديه أنه  مبني على اساس فكرة الهوية التي لاتعني مفهوم الشخصية  ببعدها الوراثي(البيولوجي) عند  الكاتب بل  من حيث مفهوم المطابقة أو التشابه. فلوجون يرى أن القيمة الحقيقة لنصٍّ سيريٍّ تعتمد أساسا على اعتبار أن كلاً من  المؤلف والسارد والبطل جميعاً شخص واحد ويمثلون نفس الشخص؛ ما يعطي للقارئ الاعتقاد بأن النص الذي أمامه إنما هو  نص واقعي حقيقي4.  لكنه استدرك – أي لوجون-  استحالة وجود  الحقيقة الكاملة  في السرد السيري.

إذ ينطوي تعريف فيليب لوجون  للتفريق بين السيرة بمعناها  الصحيح المتعارف عليه - وفيها يكون المؤلِّف والسارد هو نفس الشخص-  وبين السيرة الروائية  بكونهما متشابهان، على اعتبار أن  السرد السيري هو"  السرد باسلوب نثري  يستعيد فيه  الفرد  الحقيقي ماضيه بالتأكيد على حياته  الشخصية ، وعلى وجه الخصوص، مراحل نمو شخصيته ". وإذ ينعدم تطابق المؤلِّف مع السارد، ينفرط حينذاك العقد السيري (autobiographical  pact)   بين المؤلِّف وبين القارئ ، فيرى الأخير العمل الادبي على أنه محض خيال من نسج الكاتب 5.

ويرى أحد النقاد ( Wachtel) استخدام مصطلح السرد السيري المموه (pseudo-autobiography)  وفيه يعمل المؤلِّف بإدخال سارد مستقل لا يحكي أو يسرد قصة حياته الخاصة ، بل يكون في موقع يمكنه من أن يحشو  سيرته المموّهة بما يستطيع وبما يرغب من مادة سيرية6 .

وبالاشارة الى سارتر، يقول لوجون " حينما يصف سارتر مصوِّرا  حياته في عام 1924، وفي عام 1939  وفي الاعوام 1954-1963  أو فيما تحدّث عنه عام 1974،  فإن تلك الحياة لم تعد هي نفس الحياة،  لأنها في كل مرة تتوسّع  وتزداد غنى  وتتنقل متخذة  لها  أكثر من فضاء. ومع ذلك، في كلِّ مرة تبدأ  هذه السيرة  بتأمُّل طفولةِ قاصرٍ يمكن  افتراضها  أنها واحدة ، لكنها ليست   في الحقيقة  كذلك"7 . إن ذلك يعني  ادراكه (اي لوجون) أن الشخص  بمرور الاعوام لايبقى هو نفس الشخص ، مع  تأكيده  على أن يكون الشخص الحقيقي هو المتأمِّل في ماضيه.

ويرى الناقد حاتم الصكر8  توهُّم وجود مثل هذا النوع من رواية السيرة الذاتية، لأن وجود السارد،  حسب رأيه،  باعتباره شخصية مشاركة في العمل باستخدام ضمير المتكلِّم  لايقوم دليلا كافيا على ممارسة قراءة تطابقية بين  المؤلِّف وبين النص. ويعتمد في رؤيته هذه على  فيليب  لوجون، في التفريق بين (التطابق) المتحقق في السيرة الذاتية، وبين (التشابه) أو التماثل المتفاوت الدرجة في الرواية. واذا كان التطابق ممكنا، فإن (التشابه) في العمل الروائي الذاتي حسبما يرى لوجون غير ممكنا البتة. فبالتطابق بين الكاتب والراوي والشخصية تكشف السيرة الذاتية عن ذاتها. والغالب على السير الذاتية أنها تُكتب بضمير المتكلّم المفرد «أنا» الذي يصهر كلّاً من الراوي والشخصية والكاتب في بوتقة واحدة. ولا يرى الصكر  ضيراً في تبني مصطلح السيرة الروائية .

يرى بعضهم أن  السيرة الذاتية  لاتدل  أو لاتشير ببساطة  الى " حياةٍ مثلما عاشها فردٌ ما "،  ولايمكن ان تكون  كذلك ...، لأنه ليس هناك شئ  اسمه " حياة عاشها فرد ما "  يمكن أن يحال عليه؛ وعليه فالحياة إنما يصوغها الكاتب  أويخترعها  9 . واذا كانت الرواية  لحد ما  هي سرد ذاتي، فسيرة الحياة هي لامحالة رواية لأنها تستخدِم ، شعوريا أو لاشعوريا، التقنيات والأعراف  المستخدمة في السرد القصصي10؛ لدرجة  أن هنري ميللر  اعتقد أن " كل كتابة  إنما هي سيرة ذاتية  بشكل من الاشكال". ولهذا  يستحسن النظر للسرد الذاتي  من جهةِ  بُعده الاجتماعي وأثره  فضلا عن الخطاب الذي يتبناه أكثر من التأكيد على درجة  واقعيته 11 .

وفي الفرق بين الرواية وبين السيرة الذاتية، يرى إبراهيم نصرالدين عبدالجواد دبيكي12 (2009) أن السيرة الذاتية مثل الرواية لابُدَّ لها من قصة، والقصة فيها وقعت في ماضي حياة الكاتب الذي يسترجعها ويعيد خلقها، بينما في الرواية يتخيّل الكاتب القصة بوصفها مادةً خاما ثم يعمد إلى تخطّيها،غير أن مكوّنات هذه المادة يستجمعها الروائي من تجارب حياته لتحمل شتاتا سِيرِياً. ويضيف  قائلاً: " وهنا فرق بين السيرة الذاتية والرواية، يكمن بكل بساطة في الاختلاف القائم بين وجود الشخصية السيرذاتية ووجود الشخصية الروائية من حيث طبيعة كلٍّ منهما، وهو ما يحملنا على الأسباب التي تدفعنا إلى قراءة السيرة الذاتية، وأولها تسليمنا بأن الشخصية موجودة، يشهد بذلك وجود الكاتب نفسه."

فحتى إن عمد كاتب السيرة الذاتية إلى خرق ميثاق الصدق والحقيقة عن قصد أوعن غير قصد؛ فلايمكنه أن يتخلّص من التطابق القائم بين الكاتب والشخصية، وهو التطابق الذي أرساه كاتب السيرة الذاتية نفسه، وتظل المطابقة قائمة دائما بينه وبين هذه الشخصية.

و يعتقد دبيكي (2009)، على خلاف الصكر،أنّه "عندما نطلق مصطلح روايةالسيرة الذاتية فهذا يعني الجمع بين شكليْن خارجيّين في عمل أدبي واحد."  وبالتالي  يرى هذا الباحث  أن رواية السيرة الذاتية هي نوع مركب يجمع بين نوع " الرواية" وصيغة " السيرة الذاتية" ، مؤكِّداً في الوقت نفسه  بقاء هذا النوع من العمل الادبي في النهاية روايةً؛ لأن الرواية هي التي تحدِّد شكله العام.

وينظر خيري دومة (2009)13 للأمر من زاوية أُخرى فيقول: " حتى لو نظرنا إلى رواية السيرة الذاتية بصفتها جمعاً بين نوعيْن أدبيَّين تاريخيَّين، هما الرواية والسيرة الذاتية، ستظل العلاقة الإشكالية بين النوعيْن قائمة؛ فكلا النوعيْن تخلّقا في نفس المرحلة من التاريخ (القرنين السابع عشر والثامن عشر)، وكلاهما يتأسّس على قصة حياة بطل فرد يدخل في علاقة إشكالية مع محيطه، وكلاهما نوع مرن ومراوغ ومفتوح على الجديد".

 

ويُلاحظ أن القاسمي، في روايته "مرافئ الحبّ السبعة"، استخدم أحياناً ضمير الغائب في الحديث عن نفسه بشخصية سليم الهاشمي الذي نجد فيه بعض تشابه وبعض تطابق مع الكاتب، مؤكِّدا، من جهة، الانفصال بين الكاتب وبين السارد؛ ومن جهة أُخرى، مؤكِّدا هذا الاتصال  بدرجات متفاوتة في كلتا الحالتيْن. ومما يلفت النظر في هذه الصيغة البينية من التشابه والتطابق هو الامر الاتي : أن سليم الهاشمي ، حينما كان في بغداد،  كان متخصِّصاً  في الكيمياء الحياتية، ولكنه حين ذهب إلى المغرب للتدريس كانت أولى محاضراته عن اللغة العربية وصلاحيتها في تدريس العلوم ؛ لكن القاسمي لم يخبرنا كيف يتحصّل لمتخصِّص علمي ان يكون ضليعا في لغته الام، خاصَّة أنّه أمضى سنوات في الخارج يدرس باللغة الانجليزية . وهو – أي القاسمي- يعلم أن المتخصّصين العلميّين، باستثناء قلَّةٍ منهم، لايجيدون  لغتهم الأُم إجادة مثلى ليتحدثوا في أمور اللغة. ولقد اراد القاسمي أن يوحي لنا أن كفاءة سليم الهاشمي اللغوية برغم تخصُّصه العلمي ، متأتية من اختياره  دروساً أدبية في الجامعة التي كان يدرس فيها تخصّصه العلمي. غير أن هذا لا يبني ملكةً لغوية كالتي عند الشخصية  الحقيقية، أعني  القاسمي . فهذه هي احدى التشابهات التي ،كما يقول  الصكر، تمنع الاحالة  الى السارد الذي يروي قصة حياته، بسبب عامل الخيال الشديد الوضوح هنا.

بعد هذا  التمهيد  القصير، أدلف الى الرواية  لاستعرض بعض ملامحها بجملة ملاحظات أولية وتاًمُّلات ، فالرواية باعتبارها نصا تحتاج الى  دراسة  أعمق وأشمل، سواء من حيث بنيتها اللغوية التركيبية، خاصة في  اظهار أثر أدوات التماسك النصي فيها، كالروابط مثلا في بنائها باعتبارها وسيلة تماسك نحوية (Grammatical Cohesion ) أو من حيث التكرار على مستوى الالفاظ باعتبارها وسيلة تماسك معجمية (Lexical Cohesion)  او تكرار الموضوعات  التي تساهم  باتساق النص (Text coherence) حسب توصيفات لسانيات النص، أو أخيرا  دلالالتها الرمزية .

هيكل الرواية وبنيتها:

صدرت رواية " مرافئ الحبّ السبعة" عن المركز الثقافي العربي  في بيروت والدار البيضاء في شهر يونيو/حزيران 2012 . وتقع في 320 صفحة من الحجم المتوسط. ولم يُشِر أيُّ عنوان أساسي أو فرعي  أنّها روايةُ سيرةٍ ذاتية؛ وذُكِر في الصفحة ماقبل الأخيرة أنّ الرواية كُتبت في الفترة بين سنة 2000 و2010 ، ودُفعت للنشر في أواخر آذار/ مارس من سنة 2012، أي أن نشرها استغرق أقلّ من ثلاثة أشهر.  واشتملت الصفحة الاخيرة فيها على سيرة علمية موجزة للمؤلِّف بالإضافة إلى صورته الشخصية.

تتالَّف الرواية من ثلاثة أقسام، وكلُّ قسم يحتوي على وحدات أو أقسام فرعية مرقّمة هي: القسم الاول، بغداد- بيروت ويبدأ من رقم 1- 40  ؛ والقسم الثاني : نيويورك- أوستن، تكساس  ويبدأ من رقم 41- 74 . أمّا القسم الثالث وهو الاخير: الرباط – الرياض،  فيشتمل على  الوحدات  من 75-100.

في رائعة القاسمي ،"مرافئ الحُبّ السبعة"، يلحظ المرء  من الصفحات الاولى  الانشغال  والاشتغال باللغة.  وقد يتساءل  المرء: أوليس كلُّ نصٍّ إنَّما هو اشتغال على اللغة ؟  غير أنَّ ماعنيتُه هنا جدّ مختلف، لكون الكاتب – السارد أنتج نصّاً ينطق باللغة العربية بلحمها ودمها، ينطق بمشاعرها وعواطفها، يروي انفعالاتها صعوداً وهبوطاً، يسطّر ارتقاءها ويلمّح لانكساراتها حين يضيع  الوطن منها، يسجّل نموها ولحظات اضمحلالها حينما لا يعود وطنها اليها. وفي المحصلة، فهي قصّة تروي حياة اللغة أو موتها بحياة أوطانها أو مماتها، وإن بقي أهلها احياء يتنفسون .

هي اذن رواية في اللغة وعن اللغة وباللغة .

بعد هذه الاستطراد، أعود إلى القول إنّ لغة النص هي عربية بامتياز، حتى يُخيَّل إلي كأنّ المخاطب  ليس سوى نخبة تجيد فنّ القول، وتجيد فن الاستمتاع، وتجيد فنّ التلذُّذ  باللغة. فهي في إحدى جوانبها احتجاج على عجمة اللغة، وهبوطها، وانحطاطها، وتخلفها؛  وهذا الامر  لاحاجة بنا لإقامة الدليل عليه. فهي من النصوص التي أفردت للغة فضاءً لامتناه ، فكان أن إنشغل النص بها وأشتغل عليها فأضحت اللغة ، من حيث كونها موضوعا ومادة، أداة تماسك للنص من بدايته حتى خاتمته .

اللغة كائن حيٌّ، لكنّه ليس كبقية الاحياء القانعين في حياتهم بالحد الادنى من متطلَّباتها. اللغة إمّا ان تكون لغة أو لاتكون. وفي نصّ القاسمي  هذا،  اللغة كائنة  احتفى بها النص  بجميع عناصره – بما فيها كاتبها وساردها- كما يحتفى بها قارئها.

لغة هذا النص أنيقةٌ راقيةٌ طافحةٌ بالحياة، نضرةٌ تنبض روحها بالعشق وآياته، وبالحزن  وعذاباته، وبالالم وجراحاته،  وتسطّر حروفها ألحان الخلود وموسيقاه. لهذا أجد أن نص القاسمي نصا في اللغة  وعنها  وبها.

إذن هي سيرة اللغة، وأيّ سيرة أحلى من سيرة اللغة، لأنك واجد في هذا النص انشغال بموضوعة اللغة وموضوعة الوطن  في آن واحد بحيث لايفترقان، لأن في ذلك حياتهما معاً أو موتهما معا. وكثيرون منا لايدركون أن لغتهم مثل وطنهم  مقهورة، مهمّشة، مهملة، مهضومة الحقوق، تعيش الازمات والانقسام والتشرذم والانحطاط، وليس لها وطناً غير وطنها، فإن مات او  تلاشى أو ضاع ، تلاشت وماتت وضاعت هي الأُخرى معه.

 فمع ان النص الذي أمامنا يستخدم مستويات لغوية متباينة، إلا أن الملفت للنظر هو سيادة مستوى رفيعٍ  ومتسامي، راقٍ وأنيق يسبح في فضاءات اللغة اللامتناهية في بنية التشكيل والصياغة من جهة فنراه كالصائغ  الذي اتقن فنه يولد إتحادات جديدة  من المعاني  عبر ارتباطات مبتكرة  يصنعها صنعا مثلما هي وظيفة الشاعر بالمفهوم الارسطي ليحملها مفاهيمه  وما اكثرها باقل كلفة لغوية ليصدق فيها فن البلاغة؛ ومن جهة اخرى مثل عازف ماهر موكل بأدارة الحان متنوعه ، نجده يستثمر اقصى ما في الكلمات من طاقات صوتية غنائية لتأتي موسيقاه صادحة بأعذب الالحان لتشنف الاذان. فهنا اجتمع  امران : صوغ المفردات - الالفاظ- على مستوى النص  صياغة تتناغم مع جرسه  الصوتي محققا للنص تماسكا  إنتظمت فيه أجزاءوه على قول الجرجاني انتظاما  متساوقا باحكام .

   وهو- اي القاسمي-  بتعامله النصي هذا يقدم  عملا  يليق حقا  بمقام  هذه اللغة التي عانت معاول الهدم  على ايدي ابناءها أكثر مما عانت على أيدي أعداءها.  ولان القاسمي واعِ بهذه الحقيقة فقد أعاد نصه ، من خلال تحليلنا المتواضع ،  للغة  هيبتها ووقارها وعزتها  وشموخها.

ومع أن النص هو سيرة ذاتية، نجد أن ضمير المتكلِّم،مخافة التكلّف والتصنع اللذين ينتهيان لامحالة إلى انتفاخ الانا، قد تقيّدت حرِّيته  لئلا يطغى على النص  فيقتل ابداعه، فكان في استخدام  ضمير الشخص الغائب  حرّية أكثر، كأنه يتحدّث على  لسان آخر،  فيعيد صياغة مفاهيمه. ولهذا جاءت اللغة  أكثر انسيابية متحرِّرة  من قيد الانا. فهذه الرواية متعددة الأصوات بصورة جلية.

تدور  أحداث القسم الاول بين بغداد وبين بيروت، ويفهم منه أن الاحداث الواقعة في بغداد هي عقب إنقلاب عسكري،  وكانت فترة مليئة  بالحوادث الجسام ، إذ كانت هي فعلا بداية فتح صندوق الشر (Pandora's box)  التي لاتزال عقابيله تلاحق أهل العراق في الداخل وفي الخارج ، على السواء . و كان أول المكتوين بهذه الشرور، هم اهل الفكر؛ الذين  هاجر كثير منهم بعد أن فقدوا حريّة التعبير، وعاشوا في جو شمولي خانق. ولعل السارد  لاحظ،  وقد كان  على اعتاب الثلاثين  من عمره ، ورأى رأي العين  ما حل بمدينته  أثناء الانقلاب الاول عام 1963 ؛ واذا لم يكن قد شهد الأحداث التي جرت بعد الإنقلاب، فلعله سمعها من أهله واقاربه.

عندما غادر سليم الهاشمي، عقب الانقلاب الثاني، بلدته تحت جنح الظلام، مر بالمقبرة وألقى تحية الوداع على أهل القبور لأنه سيصبح غريبا مثلهم،  فمن يلقي عليه تحية الزائرين ؟  وكان في دواخل نفسه يردد  ماقاله محمود درويش : "الذي ماله وطن ماله في الثرى ضريح ، ونهاني أبي عن السفر". لكن هذه المرة  أراد أهله  له الرحيل بعيدا عن الوطن. وفي بيروت حيث تدور احداث الجزء الثاني من القسم الاول ، مازال الخطر محدقا بسليم الهاشمي  خاصة بعد اغتيال زميله  ورفيقه زكي. لكن القاسمي  لم يتحدّث كثيرا عن  تلك الفترة  وكان بإمكانه توسيعها، خاصة اذا عرفنا أنه يروي ليس سيرته فقط بل سيرة نخبة من أمثاله اضطروا لمغادرة  البلاد كما قال الشريف الرضي  يوما :

شمر ذيولك  واركبها مذكرة                  واطلب عن الوطن المذموم منتزحا

وحمل الهمّ إن أعياك  نازله                   غوارب الليل والعريانة السرحا

وانفض رجالا سقوك الغيظ أذنبة            واورثوك مضيض الداء والكشحا

نالوا المعالي ولم تعرق جباههم             فيها لغوبا ومانال الذي كدحا

         ولانعرف لماذا أتخذ القاسمي قراره  عدم توسيع هذه الفترة الحبلى بالمآسي،  ولقد اشار اليها اشارات سريعة  يفهم مغزاها من يعرف تاريخ العراق المعاصر، في حديثه عن تهجير العراقيين من طيف معين  بذاته دون غيره، تحت ذريعة واهية أوهن من بيت العنكبوت  خاصة إن العراق  كان بوتقة انصهرت فيه كل الأجناس  والملل والنحل ولاتزال،  فغدت مقولة النقاء العرقي اجتراراً لفكرة النازيين ليس إلا. ويعود ثانية ليذكر تهجيراً  ثانياً طال اليهود العراقيين وذلك واضح في مناجاته للكاتب اليهودي العراقي سمير النقاش.

يبدأ القسم الأول من الرواية بأربعة مقاطع يخاطب بها أثيرة، وفيها تتكرّر عبارة  "لو كنتِ انتِ طرقت الباب" ، ثلاث مرات فضلاً عن تكرار التركيب اللغوي وأعني به جملة فعل الشرط  وجواب الشرط . ولعل هذه الخاصية النصية التي استغلها القاسمي خير استغلال بحاجة الى دراسة معمقة . غير أنني هنا اشير اشارة سريعة لاهمية التكرار  من حيث كونه  من الوسائل الاسلوبية  المعروفة   في البيان العربي نثرا وشعرا ، سواء في العصر الجاهلي او مابعده؛ ناهيك عن ذكر استخدامه في القران الكريم. وهو لايعني بالضرورة  تكرار  المعنى بصورة ميكانيكية بل ينصرف إلى دلالات تدخل في صلب  تشكيل النص  بمرحلتيه: باعتباره عملية (process) وباعتباره منتجا(product) ؛ وصلته بالمتلقي . لأن التكرار، باعتباره اداة تماسك معجمية،  يسهم في بناء النص  على مستوى البنية السطحيه أولا ومن ثم على المستوى الدلالي الذي يستشرف ابعاده المتلقي؛ بمعنى اخر هو احدى اليات تماسك النص  وإتساقه. فالقارئ مثلا لشعر  الصاحب بن عباد في قصائده عن  الامام علي ابن ابي طالب ، يجد شيوع هذه الظاهره على مستوى اللفظ الواحد مثلما على مستوى التراكيب.

"لو كنتِ أنتِ طرقتِ الباب،  لرمَّمتُ حطام نفسي، ولَمْلمتُ روحي المبعثرة، ورسمتُ على شفتَيَّ بسمة، وخلعتُ المصاريع، وقلعتُ العتبات، وأوسعت لك المداخل والممرّات، وفرشتُ لك أهداب العين والجفن.

لو كنتِ أنتِ طرقتِ الباب، لنثرتُ تحت رجليكِ الفلَّ والريحان، وغسلتُ قدميكِ بحليب القبَّرة وعسل الملكات ودموعي، ونشَّفتُهما بالآهات وزهر الياسمين وشقائق النعمان،  وعطَّرتُهما بالعود والمسك والزعفران.

 

لو كنتِ أنتِ طرقتِ الباب، لأوقدتُ لك الأصابع شمعاً، وأنرتُ دربكِ إلى سويداء القلب ودثّرتكِ فيه، وأشعلتُ لكِ مهجتي بخوراً، وانشغلتُ بك انشغالَ الصوفي بعبور المسالك واختراق الحُجُب إلى شواطئ أُفقكِ الخفي البهي."

وهناك تكرارٌ آخر لمفرداتٍ بعينها، وتكرارٌ لموضوعةٍ سادت كلّ الرواية، وربطت بين اقسامها الثلاثة، الا وهي موضوعة الوطن- اللغة، إذ جاءت الرواية حبلى بهذيْن المفهوميْن .

فمع كونها رواية سيرة ذاتية، فهي ليست سيرة  فرد بعينه بل سيرة أفراد، إن لم نبالغ ونجانب الحقيقة، فنقول إنها سيرة نخبة مثقّفة رأت أوطانها تُستباح ولغتها تُهجر،  فصدحت ببعض أسرار سيرتها. ودلالة ذلك هو الوحدة الثانية من القسم الأول حيث  يتحدّث الراوي عن حميدة  التي شهدت انقلاباً عسكرياً ثانياً بعد مرور خمسة اعوام على الانقلاب الأوَّل. والكاتب يشير الى انقلابٍ يحلو لكثيرين تسميته ثورة،  وهو ــ في حقيقته ــ بداية  انهيار الوطن واللغة معا كما تقول حميدة:"... فالعسكر اليوم يملكون كلَّ شيءٍ في الوطن حتى اللغة وحروف الجر" ، لمّا سمعتْ بيانهم الأوّل الزاخر بـ  "الاخطاء اللغوية والنحوية والنطقية حتّى خُيِّل لحميدة أنّ مجلس قيادة الثورة اتخذ قراراً  بتغيير عمل حروف الجر ".  كما أن  حميدة تسمّي الاشياء بمسمّياتها، فترى أن سقوط بغداد هذا هو سقوط للمرة السابعة والسبعين، فلا فرق إذن بين غازٍ من الخارج أو غازٍ من الداخل؛ لأنّ كليهما لايهمّه لاشأن الوطن ولاشأن اللغة. وهكذا صار الامر.

ومن الأمور التي يلحظها قارئ النص في القسم الأول، يمكن ذكر الاتي:

-         شعرية اللغة: وظّف القاسمي توظيفاً بلاغياً هذه التقنيّة، فأضفى على النصِّ جِدّةً غير معهودة في رواياتٍ يميل الأعمُّ الأغلب منها إلى استخدام لغة الصحف فلا يبرح نطاقها. أمّا في هذه الرواية، فإنك تجد نصاً شاعرياً بل غنائيا، كشف مكنونات اللغة، واستثمر طاقاتها التعبيرية لأقصى حد، وأبرزَ جمالياتها ومفاتنها، في زمن الانحطاط اللغوي الذي تعيشه لغتنا ما حدا ببعض البلاد أن تذكّر مواطنيها بأن اللغة الرسمية هي العربية، وعليه يجب إجراء جميع المخاطبات الرسمية بهذه اللغة.

-         الغنائيات: وحين يتعلّق الامر بأثيرة ، تجد هذه الغنائيات تصوغ موسيقاها في كل مقطع بطريقة تتكامل مع سابقه ولاحقه، بحيث لو اقتُطعت هذه الغنائيات وجُمعت تحت عنوان غنائيات لأثيرة ، لكانت رواية ثانية متماسكة. 

-         التكرار البلاغي: تكرار  مفردات بعينها وتراكيب بنفسها، فضلا عن تكرار موضوعة بذاتها،  كما اشرت سابقا  وعلى وجه الخصوص موضوعتي اللغة والوطن . ففي الوحدة العشرين من الرواية،  يبلغ  الانشغال باللغة ذروته حين يقول سارد النص:

" كنت أتمتّع بالاقتراب من هالة اللغة، مختبئاً بين تلال العبارات، أنحِتُ من الحروف والكلمات حوريات أراقصهن".

-         التوثيق:  لم يفصّل المؤلّف الرحيل المبكر لسليم الهاشمي من بغداد ومن ثم من بيروت. وماكان عليه  أن يترك فجوة  في عمل مهم مثل هذا خصوصا إذا علمنا أن مادة الرواية السيرية هي في جانب منها توثيق غير مباشر  للتاريخ، يستند عليه المؤرخون في استباط المسكوت عنه في الوثائق الرسمية، فضلا عن اهتمام  الآخرين من متخصصين في علوم الاجتماع والنفس في الاطلاع على خفايا النفس البشرية في مواقف مفصلية في حياة الافراد دفعتهم الى تسطير تجربتهم عبر روايتها لاحقاً.

-         الوطن الجريح:

في القسم الثاني من الرواية، نجد موضوعة الوطن واضحة وضوح الشمس، وحديثه عنه  مناجاة صوفية متسعة باتساع الوطن نفسه. ويندمج الوطن متّحداً مرة أخرى باللغة.  فمثلاً في ص 132  نقرأ:

" يا وطني المستحيل! إني أفتّش عنكَ منذ سنين، بين ركام الذكريات، وأبحث عنك في فضاءات الأوجاع، والأحزان، والفجائع، والمذابح، والمقابر الجماعية. أتسقَّطُ أخبارك في النسيم القادم من الشرق، لعلّي أشمُّ روائحك، يا وطني الجريح، فلا يصلني إلا صدى أنينكَ، وأنتَ تحت سكاكين العتاة والطغاة والغزاة، يا وطني الذبيح... . أتسمعني، يا وطني البعيد، يا وطني المستحيل؟ ها أنَّي أعيد بناءك كلّ يوم بحروفي ، وأُشيّد منائرك من كلماتي، وأحفر سواقيك المندثرة بعباراتي."

وفي هذا القسم، حيث تعيش الشخصية في الغربة، نلحظ أن الشعرية الغنائية  التي  كانت في القسم الأول أكثر نبضاً وقوة ، تصبح  أقل تكراراً.  ويبدو أن السبب في ذلك  يعود الى أن اللغة تعيش في غير بيئتها، ويصعب عليها أن تجد المنبّهات الحسية  الخارجية  لجمالها  في غير بيئتها،أو بسبب تغيُّر الحالة النفسية لسارد النص. ومع ذلك نجد  بضعة مقاطع شعرية كما مثلا في رقم 55  حيث يقول عندما بلغه نبأ وفاة أُمّه:

" إنّه الموت يحلّ بوادينا مرَّةً أُخرى. ما أشدَّ جزعي اليوم. سربلني صمتٌ أسود. لم أدرِ ما أقول. ...، أخرجتُ شال أُمّي الذي أخذتُه معي في ذلك الفجر الشاحب الذي غادرتُ فيه قريتي،..عصبتُ به رأسي، ووضعتُ طرفه على وجهي..."

وكذلك ايضا في ص 158:

رحلتْ أُمّي ولكنَّ خطاها ما زالت على الدرب القديمة، ولمسات أناملها على مقابض الأبواب العتيقة، والقلوب الخافقة بحبِّها؛  ورائحة الحناء المنبعثة من ذوائبها تسري في الممرّات تسابق النسيم، وتصل حاسة شمّي فتخدّرني بالحنين..."

إن سارد النص  يستشرف ماذا سيحل بالعراق  بعد حين مستشعراً وعارفا  كيف سيضيع الوطن وبعده نضيع باعتبارنا جزء من أبناء الوطن وبنيته، فاذا انهدَّ الاساس، تناثرت حجارته. وطغيان موضوعة الوطن أمرٌ مفهوم، كيف لا وسارد النص يعيش الغربة،  وليس له غير حضن الوطن ملاذا  يهَبه الشعور بالاستقرار،  فكانت مقطوعته في ص 217 عبارة عن غنائية ومرثاة في الوقت نفسه:

" انظر اليّ،  ياربي،  فانا مثل سالك الصوفية المتقرب اليك، مررتُ بجميع المقامات السبعة وانا في المقام السابع ، ألا تسبغ علي شيئا من الرضى وتعيدني الى وطني، كم أعدتَ يوسف الى اهله  بعد السنة السابعة؟".

وتتصاعد الشعرية ثانية وبروح صوفية عميقة  ابتداء من مقطع " غريبٌ أنا..." في الصفحة (217) لتستمر عدّة صفات. انظر مثلا :" أتوضأ بالدمع وبالسهد، أيمم وجهي شطر بغداد، أصلي ركعتين واحدة للعشق وأخرى للوجد. " وهكذا تستمر  المناجاة للوطن حتى أواخر هذا القسم ؛ وانظر مثلا  الوحدة رقم 72 وحديثه عن سمير النقاش  ومخاطبته اياه. وسمير النقاش شخصية واقعية حقيقية فهو عراقي يهودي، هُجِّر إلى إسرائيل عندما كان في سن الرابعة عشرة من عمره، ولكنه ظل طوال حياته يحمل العراق في وجدانه ويكتب "روايات عراقية "، كما يسميها، تنبض بالحنين إلى وطنه. وعندما يموت سمير النقاش بعيداً عن بغداده التي عشقها، يأخذ الكاتب/السارد في " مرافئ الحب السبعة" يرثيه، ويندبه، ويناجيه ببكائية سومرية طويلة، مخاطباً أياه بـ " سمير، يا صنو روحي" . فالسارد ينطلق  من رؤية انسانية عميقة في الموروث العراقي باعتباره  مهد الحضارة، وأن الوطن للجميع لافرق بين ألوان طيفه،أيّاً كان هذا الطيف. وتلك أريحية عراقية  إنسانية  التوجه  والتكوين تفردت  بمنهجها،  إذ صاغتها عوامل عدة حتى اصبحت معجونة بحب العراق، أريحية  لاتفلسف الكراهية ولاتؤسس لها نهجا أساسه الوهم والخديعة والجهل .

-         الوطن واللغة:

يستمر الحديث، في القسم الثالث من الرواية، ويتواصل عن موضوعة الوطن،  ولافرق بين بلدٍ عربي واخر، طالما  كانت  وجه أهل هذا البلد" تحمل ملامح وجوه اهل بلدتي  وصوامع جوامعها ينطلق منها الاذان ذاته الذي كنت أسمعه في منزلي".

-         ثم يعود الحديث عن اللغة، ولكن هنا لا بلغة الشاعر الحالم أو الصوفي الغارق في سرمدية الوجود،  بل بلسانِ اكاديميٍّ صرف يردّ على أوهام الكثيرين عن عجز العربية  عن أن تلبي حاجات أهلها في كل مجالات الحياة لأنَّ" أي لغة تستطيع  أن تفي بأغراض الناطقين بها، فللغة وسائلها اللسانية للاستجابة لجميع احتياجاتهم".

وفي الوحدة رقم 77 نلاحظ من جديد عودة  الشعرية وهي شعرية سردية لاغنائية، وإن كانت بصياغةً ادبيةً رائعةً على أية حال؛ غير أن الملفت للنظر هنا هو غياب القلق والتوتر  اللذيْن سادا القسميْن السابقين، فاللغة هنا ماعادت مشدودة الاعصاب. ومع ذلك كله، تطالعنا غنائياته مجدداً  فانظر قوله عن أثيرة حين رآها أول مرّة:

" عينان سوداوان فيهما بوحٌ مبحوح، ونداءٌ مكبوت. عينان سوداوان اختصرا أحزاني. إنّه وجهٌ أشعرني بألفةٍ عجيبة، وكأنَّه قادمٌ من مجاهل أشجاني. وجهٌ ارتسمت على تقاطيعه ملامحُ فتيات سومر في عاشوراء، وجهٌ تتلألأ في عينيه دموع عشتار، وزينب، وأُمّي، وليلى العامريَّة، ودموع صبايا بغداد يوم استباحها جيش هولاكو."

-         وعودة الغنائية كما قلت  ليست عودة كاملة كما في القسم الاول على وجه الخصوص، بل  تأتي في فقرات وليس في مقاطع كاملة .  وللتدليل على ذلك انظر الوحدات من رقم 79-89 . وعند هذه الوحدة الاخيرة -89- لي وقفة ، حين يتحدّث عن فعل الكتابة وسحرها قائلا:

" يسكرني حفيف الحرف،  فألوذ بالخيال واحتفي  بحياة  لا علاقة لها بالواقع. قلمي كان معولي أقطع به الاسوار...أكتب لعلّني بحروفي العليلة أستطيع بناء وطنٍ فقدتُه. في الكتابة اتخلّص من سجني... ولكن كثيراً ما يشنقني الحرف وترجمني الكلمات".

هنا  سار الكاتب في دروب المعرفة العميقة عند الباحثين الحقيقيًن،  فسبر أغوار نفوسهم وأدرك تجلياتها، مثلما كان الجاحظ   في بخلائه، على سبيل المثال لاالحصر،  يحلل  بمبضعه كثيراً من خبايا النفس البشرية ،  فلم يكتب سيرته هو بل سيرة جميع أولئك المعذبين بحرفة الكتابة، فأبدع واجاد أيما ابداع، لأنه مثل طبيب نفساني عرف المرض فشخّصه وراح يداويه  بنفس آلته : إنه الداء- الدواء، أي الكتابة، وداوني بالتي كانت هي الداء.

ولقد لحظنا من القسم الاول شغفه بالكتب والكتابة وانشغاله بهما وكيف أنه في بيروت  لاشي يشغله أكثر من القراءة والكتابة، ولكنه كان يمزق مايكتب ؛ وسبب ذلك  في أغلب الظن  هو القلق  الذي استوطنه ، على أنه قلق وتوتر غير مرضي؛ فضلا عن الخوف من الآتي  ليس إلا.  على خلاف ما حل بأبي حيان التوحيدي ، لأنه  ما إن استقر الهاشمي – القاسمي لاحقا- حتى  كان أغزر انتاجا  في مجالات معرفية شتى قاسمها المشترك هو الهم اللغوي.

 وهذا الانشغال بالكتب والتوحد بها نراه أشد تعبيرا في أثناء دراسته في الجامعة حين يلتقي الكتاب كانه يلتقي معشوقة له. حبه للكتاب بدأ من نعومة اظفاره،  إذ قد  انغرس في أعماق نفسه  وامتدت جذوره الى كيانه كله  مثل عروق الجسد، أوردته وشرايينه . فحبه للكتب مثل حب السكارى للخمر ، ولكنه كلما نهل منها زادته صحوا ووعيا  بوجوده وبالعالم من حوله . في غربته كان الكتاب أنيسه وجليسه وحبيبه".. فيجلس سليم في مقصورته في المكتبة " تحيط به رفوف الكتب المحملة بأشهى الثمار " (ص115) فيصف حاله حين  يسير بين الرفوف وتجذب  عينيه عناوين الكتب فيسمع "  للحروف اجراسا  وللكلمات رنينا ". إنها مثل حفلة  او احتفالية  حضورها وشهودها هي الكتب ، متنقلا بينها ما إن يرتوي من واحد حتى تطلب روحه المزيد، فينطبق عليه قول  عباس محمد العقاد:

يبكي الشباب أناس كان همهم        اللهو واللعب والطرب

وأنا قضيت العمر  منتقلا بين    المحابر والاوراق والكتب

في تخوفه من البقاء في المجتمع الغربي، هل كان سليم  الهاشمي  يخاف فقدان هويته  بالذوبان في ذلك المجتمع  فيصبح رقما لا اسما  مثلما  أصبح  بعد ذلك  اسما علما  في وطنه ؛ وشتان بين الرقم وبين الاسم. وقد كرم الله الأسماء قبل الأرقام فعلم آدم الاسماء  قبل ان يعلمه الأرقام. إنه بقلقه المشروع هذا وهو في الغربة إنما  يحكي  قصة ضياعنا وفشلنا جميعا  حين أخترنا الغربة ملاذا آمنا، وإن حققنا بعض انجازات فيها.

تبقى غنائيات اثيرة ، وهو الامر الذي لم اتطرق اليه بالتفصيل في تأملاتي هذه،  موضوعا مميزا لهذه الرواية السيرية  خاصة أنها – هذه الغنائيات-  متداخلة تداخلا  متماسكا في كل الاقسام الثلاثة  وتشكل بالإضافة الى موضوعتي الوطن واللغة  ثالثة الاثافي التي يتأسس عليها  هذا النص؛ ولعل دراسة مستقلة عنها ستكشف المزيد عن خصائص هذه الرواية.

وأخيرا تنتهي الرواية بالوطن بعد ان ابتدأت به، فعندما يرى في المتحف المصري القناني الصغيرة التي يجمع فيها أهل الميت وأصدقاؤه من قدماء المصريين دموعهم، لإظهار حزنهم على الفقيد، يتساءل : " مَن فقد الوطن ، هل تكفيه قنينة صغيرة  مثل هذه لدموعه؟".

يتّضح لنا في ختام رحلتنا العجلى والممتعة مع نص القاسمي ، أنه نصٌّ عن جدلية اللغة والوطن. فاللغة في هذه الرواية، عبر مستوياتها المختلفة، أنجزت نصا  يتجاوز  بكثير المعروض من البضائع  المكدسة في سوق اللغة  حيث لايُقبِل عليها مشترٍ. إنه سوق  أصابه الكساد  فلا تجد مَن يخرجه من حالته هذه سوى نصوص من مثل نص القاسمي. كيف لا وهو اللغوي الضليع العارف بأسرار هذا البحر، الواهب نفسه  للغوص في أعماقه مرات ومرات، ليقتنص اللآلئ، ويجلي الصدف عنها، ويشذبها ويصقلها ويعيد إليها  بريقها، ثم ينظمها في نص طازج، لانص معلب، غني بكل العناصر الضرورية  الكافية لتعويض فقر دمنا اللغوي  أولاً ولكي نستلذ ونستمتع به ثانيا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

1-Elnaggar, M.(2002).Autobiographical Fantasia.

2-Shapiro,S.A.(1968).The Dark Continent of Literature: Autobiography.

3-Woods, R.(2010) ‘La novella de la Memoria’:Unravelling the Enigmatic Subtitle of Jose Manuel Caballero  Bonald's Memoirs.

4-ibid

5-Zweers, A.F. (1992).An Autobiography, is an Autobiography, is an Autobiography.

6-Ibid

7-Ibid

8-  الصكر، حاتم (2001)الرواية والسيرة الذاتية: من المماثلة إلى المطابقة(1):نموذج (دملان) لحبيب عبدالرب سروري. http://www.26sep.net/newsweekarticle.php?lng=arabic&sid=21296

 

9-Hassan,W.S.(2002). Arab-American Autobiography and the Reinvention of Identity: Two Egyptian Negotiations.

10-ibid

11-ibid

12- دبيكي، ابراهيم (2009)التعالق بين الرواية والسيرة الذاتية   " قصةعن الحب والظلام" لعاموس عوز نموذجاً. مجلة كلية الاداب، جامعة حلوان، عدد 26.

-13 دومة، خيري (2009) رواية السيرة الذاتية الجديدة قراءة في بعض"روايات البنات" في مصر التسعينيات. مجلة نزوى. العدد، 36

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا