<%@ Language=JavaScript %> ساري مقدسي  أدوارد سعيد وأسلوب المثقف ترجمة  زيد العامري الرفاعي (عراقي- استراليا)

   

لا

للأحتلال

لا

للخصخصة

لا

للفيدرالية

لا

للعولمة والتبعية

حضارة بلاد الرافدين   

    

                                              

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين                                    

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                            

 

 أدوارد سعيد وأسلوب المثقف

 

بقلم : ساري مقدسي

 

ترجمة

زيد العامري الرفاعي *

 

تقديم

إدوارد سعيد أستاذ جامعي  فلسطيني  قضى معظم حياته  الاكاديمية في جامعة كولومبيا الامريكية. اشتغل بالفكر وانشغل به  فعالج موضوعات في الادب المقارن والفلسفة والموسيقى والسياسة . اكتسب شهرته من كتابه الاستشراق  الذي ارسى اسس علم دراسات مابعد الاستعمار القديم ( صدرت له  ترجمتان في العربية). ولقد حلل فيه من منظور تاريخي فكري، انعكاس تصورات الاستعمار عن الشعوب المستعبدة في كل المنتج  الثقافي لهذا الغرب المهيمن لاستغلاله في احكام السيطرة عليه . ويعتبر بحق من رواد الاكاديمين،  في الزمن المعاصر، الذين استحقوا بجدارة توصيف المثقف المعارض فعلا  لسلطة الظلم . ومن اهم كتبه الاخرى الثقافة والامبريالية،تعقيبات على الاستشراق وخارج المكان، وصور المثقف( صدر بثلاث ترجمات عربية ).

المترجم

 

 

يولي   ادوارد سعيد  في اعماله مقاما خاصا لانشغال المثقفين المباشر في صياغة الواقع  من حيث مقدار هذا الانشغال، او اداءهم دور  المشرع الفعلي  لامور الحياة وان لم يعترف ويقر لهم بذلك، حسبما يقول  شيلي(Shelley) . والموضوعة الرئيسية  التي ترد في اشهر كتب سعيد هي ان الباحثين والفنانين والشعراء والمؤرخين هم من طرحوا تجريدات مثل "الغرب" و"الشرق" والتي جرى عليها بعدئذ وتدريجيا التغيير والتحوير واعادة الطرح .  ولذلك يرى سعيد ان الباحثين والكتاب، والمثقفين عموما يشاركون في انتاج وقائع وحقائق  الكون نفسها  ؛ ولذلك فهم ليسوا ،كما يدعون غالبا، مجرد مراقبين موضوعيين معزولين . وبالرغم من  قصور هذا الفرض  في  تكوين  وجهة نظر موضوعية واحدة ننطلق منها  لتحصيل المعرفة وتقويم الحقيقة بخصوص مقام المثقفين، إلا أنه  يدعونا  للتامل  في  درجة انهماك  المثقفين في  دعم وإسناد مواقف انظمة  دولهم في سياساتها  العدوانية المختلفة- من غزو، وتعذيب واحتلال عسكري والظلم عامة- او الوقوف ضدها بالمساهمة في فضح هذه السياسات ورفضها ؛ مما يعني  المشاركة في الصراع لخلق  عالم بديل من  العالم السائد  تسوده الحرية والمساواة والعدالة.

والواضح لنا ان سعيد فضلا عن الاعتقاد  بهذه المفاهيم و ترويجه لها، فقد  عرض  بصورة فعالة امكانيات عمل المثقف المعارض؛ وهو ماطرحه في كتابه صور المثقف  عن  الوسائل التي من خلالها يؤدي دوره. = 1 \* Arabic 1 وفكرته عن المثقف تمثل جمعا لمواقف غرامشي وجوليان بندا اللذين يستعرضهما في بداية كتابه، فيقبل سعيد  فكرة  كون المثقفين  شريحة اجتماعية  واسعة وكبيرة  لها ارتباطاتها الطبقية  فضلا عن اتصالها بالحركات  الفكرية والموروث بشكل عام من تقاليد واعراف حيث يقومون بكل الادوار الاجتماعية وبضمنها انتاج واعادة انتاج الايدولوجيات الرسمية وافكار العالم . وفي الوقت نفسه يتقبل  اطروحة بندا القائلة بان المثقف هو  عضو  مجموعة  صغيرة متحمس ومندفع اخلاقيا  لمعارضة التيارات  السائدة بغض النظر عن عواقب تلك المواقف وتاثيراتها عليه شخصيا . يرى سعيد ان معظم المثقفين يؤدون الدور الاجتماعي الذي قال به غرامشي ؛ لكن قلة منهم يرتقون بأنفسهم الى المصاف الذي وصفه لهم   جوليان بندا لكي يصبحوا حسب تعبير سعيد  ، من بين اؤلئك  "المتمكنين  من  قول الحقيقة بوجه  السلطة بصلابة  وبشجاعة وبلا مواربة وببلاغة و بذلك  لايرى  المثقف  حرجا  في  نقد اي  سلطة مهما طغت وتجبرت" . 2

وبخصوص نظرة سعيد الراديكالية عن مفهوم المثقف عند بندا ، المقنع والمثير  بما هو،  نتساءل  أهي ممكنة التطبيق وعملية  في زماننا هذا مثلما  كان لمثقفين عاشوا في زمن سابق – وهو الزمن الذي استطاع فيه سعيد تكوين شخصيته وصياغتها؛ لانه لاسباب كثيرة كما سيتبين لاحقا لم نعد نرى مثل هذا النوع من المثقفين او في الاقل قد لايوجدون بهذا الوصف الذي اتى به سعيد. واذ لانزال نستلهم من سعيد رؤيته عن المثقف المتحفز لخوض الصراع ، إلا اننا  حقا نجد صعوبة في  صياغة انفسنا وبدقة وفق  المسارات التي وصفها  سعيد.

على أنه لا ينتابنا  شك  من قدرة  الذين يشغلون ماسماه غرامشي المقام  الاجتماعي التقليدي للمثقف- معلم، كاتب، فنان- ، على انتهاج وتبني سنن ينتقد بها ، واحيانا يعارض، السلطة الاجتماعية والسياسية، بما فيها السلطة التي منحته شعور المكانة والاهمية التي يشغلها في المقام الاول. حسبما يرى سعيد فان مثل هذا المثقف- الذي يود ان يصرح ويجهر باراءه وان يتحدى المعايير الاجتماعية والثقافية والسياسية السائدة  فضلا عن كل انواع  الاعراف التقليدية هو ' فرد يتمتع بقدرة وقابلية  التعبير عن رسالة ،  وعن وجهة نظر، وموقف، وفلسفة او رأي فضلا عن تجسيدها وتنفيذها، للناس ومن اجلهم ايضا'. وهذا الدور له 'خطورته ولايمكن تأديته دون وعي  القائم بان مهمته هي ان يطرح على الناس مباشرة اشكاليات القضايا   المعقدة ، وان يواجه ويتحدى الموروث د والعقائد (بدلا  من ان يقوم بانتاجهما)، وان لا يسهل استمالته للتعامل مع الانظمة  او الهيئات التسلطية الاخرى ؛ وان تكون وظيفته ودوره وسبب وجوده هو تمثيل كل  المستضعفين فضلا عن القضايا التي  يكون مصيرها الاهمال  او التجاهل‘.3  يقر سعيد، بالطبع، بان مثل هذا المثقف وهو يتخذ جانب المستضعف والمضطهد ضد  القوى النافذة الاجتماعية منها  والسياسية ،بالكاد لايكون هو نفسه خاضعا للقيود الاجتماعية.

وبينما يشير سعيد الى صعوبة ، ان لم يكن استحالة، الحديث اليوم عن  مثقف حقيقي مستقل وحر، مثقف غير خاضع للمؤسسات الاجتماعية المختلفة (من جامعات وناشرين ووسائل اعلام) او مقيد بها ؛ يؤكد ان الخطر الاساسي  الذي يواجه حرية التعبير للمثقف اليوم لايتاتى من مصادر خارجية بل من ضغظ خفي مخادع : هو اغراء الصمت والتسوية، او  بمعنى اخر مايسميه بالجانب المظلم  للمهنية والحرفية، المتمثل  بالتفكير بعمله ،باعتباره مثقفاً، يقوم به من اجل كسب قوته ، فنجده  في ساعات الدوام الرسمي موزعا  انتباهه بعين مسمرة على ساعات الدوام وعين اخرى على مايجب ان يكون عليه  السلوك الوظيفي المهني السليم- بحيث لا يكون مصدر قلق وإزعاج لقارب التيار السائد ؛ وأن لا يبتعد  خارج الحدود  او الاطر المقبولة المتعارف عليها، وان يتمكن من تسويق نفسه وان يكون مقبولا ، وبالتالي غير مشاغب ولا سياسي وان يكون موضوعيا‘.4 لم يكن سعيد رومانسيا ولاجاهلا بضغوطات التخصص والمهنية- الاحتراف المهني-وعبادة الخبرة، لكنه يعتقد ان الطريق الاكثر فعالية وتاثيرا في مقاومة هذه الضغوط هو ان يؤكد ويشدد على الاحتفاظ  بدرجة معينة من الايمان والقناعة بنزعة الهواية من عمله.

ويتمثل هذا الجانب ،حسبما يراه  سعيد، من الهواية بان يكون باعث  عمل المرء بأعتباره مثقف ناقد هو  الشغف والاستعداد اكثر منه الربح او التخصص المهني. لانه على عكس التخصص –الاحتراف- ، ففهم سعيد لجانب الهواية يشمل ايضا التخطي الواعي لخطوط عمله في المؤسسات الرسمية   الذي يتمثل بتجاوز  " الحدود والعوائق " للتدخل في صميم المشاكل ، من خلال "العبور من الادب المفترض انه ذاتي ولاسلطان له، الى تلك العوالم الموازية التي تغطيها الان الصحافة ومؤسسات انتاج المعلومات التي تستخدم أليات تمثيل الاخرين ".5

في مقالة تكشف الطرح والتناول  المبكر عند سعيد  فضلا عن الجدي والعميق عن دور المثقف ، عنوانها : "معارضون، وجماهير، ، ودوائر انتخابية والمجتمع المحلي " التي نشرها عام 1982. يقول سعيد:

قناعتي هي ان الثقافة تعمل بقوة على اخفاء  وتعقيد الارتباطات الفعلية الموجودة بين  عالم الافكار و عالم البحث الاكاديمي من جهة، وبين عالم السياسة المتوحش ، وسلطة الدولة والشركات والقوة العسكرية ،من جهة اخرى. ان عبادة الخبرة والاحتراف المهني مثلا قد حددت مدى رؤيتنا بحيث ادت الى ارساء عقيدة ايجابية تحبذ (في تعارض مع عقيدة ضمنية او سالبة )  عدم التدخل  فيما بين اختصاصات ميادين المعرفة المختلفة. 6

 

فالمشكلة هنا لاتخص فقط ترك قضايا السياسة العامة الى مايسمى بالخبراء واهل الداخل القريبين من السلطة ولكنها تمتد لتشمل الاكاديميين ممن يصرون على تخصصهم العالي وينتهون منطوين على انفسهم ، واقتصار  انفسهم  وعملهم  على مجموعة  منكفئة على نفسها  من الزملاء الخبراء ، والتنازل للاخرين عن العالم الواسع لما يعتبرونه عالم السياسة القاسي.

ويثبت سعيد بان مثل هذا الانسحاب والانكفاء  واضح على وجه الخصوص بين المثقفين في حقول الانسانيات بعد ان سيطر نوع معين من النظرية النقدية على الوسط الاكاديمي في الثمانينات في الولايات المتحدة الامريكية ؛ وهو امر بدى انه يعزز في بعض المثقفين  ضرورة السعي نحو التخصص الدقيق جدا، وهي عملية ازدادت واشتدت بتكاثر الاصطلاحات العلمية المحكمة التي قادت ، حسبما يرى سعيد، الى حلقة   اصغر فاصغر  من النقاد الذين ينتجون مزيدا من الكتب والمقالات عن بعضهم الاخر وان لايشغلهم امر او فرد سواه؛7 لذلك فالمهمة الخاصة المميزة للحقول الانسانية ،على عكس الهواية غير المتخصصة والتواصل بين التخصصات التي تبناها سعيد،عند تلك المسألة  تمثل تماما نوعا من عدم التدخل في عالم الامور اليومية؛ والتي ، كما يراها سعيد، كانت تعني نوعا من الحرية: بامكانهم  "هم" ان يديروا البلد اما نحن  فننشغل بتوضيح وبتفسير وردزوورث وشليغل".8 والجانب المهم  الذي يريد سعيد  تاكيده  هنا هو  ان الاكاديميين في الثمانينات ربما  قد وجدوا عزاءهم في انعزالهم وانفصالهم الموهوم عن واقعيات السياسة القبيحة في عصر ريغان، الا ان ذلك الابتعاد قد مكن من نشوء وظهور  عصر ريغان في المقام الاول ، لان الاكاديمين-على وجه الخصوص في حقول الانسانيات  بمهاراتهم التفسيرية التصويرية والاتصالية القوية- هجروا واخلوا المجال للقوى السياسية التي جلبت ريغان للسلطة.

ويتخذ مثل هذا التنازل الطوعي  - الذي يستمر في عهد بوش بالطبع- عدة اشكال ، بدء من الاحساس والشعور البدائي للاكاديمي المنعزل للانفصال والابتعاد عن الحقائق الاجتماعية والسياسية المحيطة به ليصل حتى للخوف الجدي من الالتزام السياسي او الابتعاد عنه. وحقا، ان لم يكن الخيار الاقصى الذي واجهه المثقف، من وجهة نظر سعيد،  مجرد خيار بين التدخل واللاتدخل، ولكن الاختيار بين ان يكون داعية مهني او يكون هاويا بلا مردود9 ، فلا شي  يكون اكثر خوفا وتوجسا  في رؤيته من:

" سلوكيات تفكير المثقف التي تستحث التجنب والهروب ،اي الابتعاد عن الموقف الحرج المبدئي الذي يدركه انه هو الموقف الصحيح ولكنه يقرر عدم اتخاذه والعمل به. لانه لايود ان يبدو انه منغمس بالسياسة، ويتخوف من الظهور بمظهر  المشاغب المسبب  للاشكاليات؛ لانه بحاجة لموافقه رئيسه في العمل او شخص ذي سلطة؛ ولانه يود الحفاظ على سمعة كونه متزن وموضوعي ومعتدل؛ وانه يأمل ان يعاودوا سؤاله واستشارته ، وانه سيجني  عضوية مجلس او لجنة موقرة  ولذلك يبقى ضمن التيار السائد؛ ولانه يود الحصول يوما ما على درجة فخرية، او جائزة كبيرة وربما حتى على منصب سفير. وسلوكيات هذا التفكير بالنسبة للمثقف هي سلوكيات مفسدة  للمثقف  بامتياز". 10

لذلك فالدور المناسب الدقيق  للمثقف حسبما يرى سعيد هو ان يتمسك بالنزاهة الفكرية منها والسياسية، وان يعلن رايه بصراحه، مثلما يفعل اي فرد من جماعة بندا، ازاء كل التحديات  ورغم كل عواقب ذلك على المستوى الشخصي.

ويرى سعيد ان قول الحق بوجه السلطة  انما هو التزام اخلاقي على المثقف حين يتخذ   هذا الموقف منها . وما ان يحصل احد المثقفين  على منصب دائمي في جامعة راقية بسهولة ويستمتع بالحرية والامن النسبي الذي يسير جنبا الى جنب  المنصب، يعتبر سعيد ،عدم الانغماس في الشؤون العامة خصوصا تلك التي بحاجة للتدخل فيها ، امرا غير مسؤولا  فضلا عن كونه سقوط  واخفاق اخلاقيين. وقلة  من المثقفين تختار القيام بمثل هذا الدور للمصحلة العامة بل اقل من ذلك ان ينغمسوا بالمواقف الاشكالية ( باعلان الراي الصريح ضد السلطة الامبريالية او الاحتلال العسكري، او نيابة عن الشعوب المقهورة والمضطهدة). لان كون المرء مثقفا بهذا المعنى الحقيقي يتضمن اختيارا شخصيا عميقا- مسالة اخلاق بالمعنى الحقيقي وليس بالمعنى اللاواعي واللاسياسي للمصطلح-  يقول عنه سعيد اننا نجده عند الفرد النادر  الاستثنائي  ذي الالتزام والنزاهة الضروريتين لتنفيذ مثل هذه المهمة الفكرية والمهمة السياسية. وهكذا، بوجود وبافتراض الاعباء والالتزامات الفردية المطلوبة- وعلى وجه الخصوص الخيار الفردي الاخلاقي والسياسي بين الاختيار ان يبقى ناقدا للسلطة وسيدفع تبعا لذلك ثمن ذلك النقد؛ او  بدلا من ذلك قبول اغراءات واكراميات السلطة، ومسايرتها والتعاون معها- فان نداء المعارضة الفكرية الحقيقية الاصيلة  هي نداء  فرد متفرد ومتوحد.

والاكثر من هذا، فالمثقف الحقيقي، بالنسبة لسعيد، هو شخص لانظير له، شخص يمتنع عن الارتباط باحزاب منظمة، وجمعيات وشبكات. في حالة سعيد نفسه، نجد ان حضور  مثل هذا الشخصية  كان اكثر وضوحا  في  الامور العامة  التي اتخذها ضد القيادة الفلسطينية الرسمية بعد دخولها في سلسلة تنازلات  سرية-و كارثية مدمرة- للسلطة الاسرائيلية بدءا باتفاق اوسلو 1993-1995 . بعد اوسلو وجد سعيد نفسه يقاتل ضد السياسة  الاسرائيلية والظلم الصهيوني فضلا عن   قتاله ضد فساد وجهل وسوء حكم القيادة الفلسطينية.

وليس عجبا ان نرى تاكيد  سعيد  على ان المثقف المنغمس في المصلحة العامة ليس مجرد معارض وحيد متفرد فضلا عن كونه فرد متفاني – ايا كان عظم التزامه لاهداف وقضايا عامة كبيرة، وايا كان مخلصا لجماعة واسعة  وللمجتمع- بل انه يقدم وينمي  اسلوبا فرديا متميزا وحتى فريدا جدا.

بهذا المعنى، ان تناول سعيد لدور المثقف كان امرا حديثا في  تصور هذا الدور؛ كان بمعنى اخر،مشروعا  فنيا بقدر ماكان سياسيا- جدا بحيث كان مستحيلا عمليا بالنسبة لسعيد ان يتصور فصل وعزل الموقف السياسي للفرد عن شخصيته الفريده، مثلما كان مستحيلا عزل الابداع والانتاج الادبي او الفني  لعزرا باوند ، وجويس ، واليوت، وبيكاسو او ، ملز ديفز عن اسلوب، وسلوكيات وشخصية مبدعيها. "حين اقرا جان بول سارتر او برتراند رسل"  يقول سعيد، فانني اجد ان صوتهم وحضورهم المتميز والفردي هو الذي يترك بصماته علي فضلا عن  ارائهم لانهم يفصحون عما يؤمنون به.  وعليه لايمكن ان تخطأهم  فيتساوون عندك مع  موظف مجهول او بيروقراطي متكلف". 11 وهذا هو سبب تشديد سعيد على اهمية  'السمات الشخصية' لمثقفين معينين. 12 في عصر الموظفين المجهولين، فالمثقف الحقيقي،بكاريزمته المميزة، يجب عليه ان يتخذ اسلوبا او توقيعا خاصا به بحيث يمكن تمييز عمله بنفس الطريقة التي يمكن بها تمييز  جملة

كتبها كونارد، او خط رسمه بيكاسو او معزوفة اداءها ميلز ديفيز،بسرعة وبدقة انها تعود الى كل من كونارد وبيكاسو وميلز، على التوالي.

ومثلما لم تكن  مصادفة ان يكرس  سعيد كثيرا من عمله للشخصيات الفنية المعاصرة مثل جوزف كونارد وجلن جولد، فكذلك ليست مصادفة ان نجد ان المثقفين الذين  غالبا ما يشير اليهم سعيد هم شخصيات حديثة كايرزمية من هذا النوع وبالتالي رجال اتصف هو  بصفاتهم بطريقة او باخرى: سارتر ورسل وكذلك  سي ال ار جيمس، جورج انطونيوس، فرانز فانون ، انطونيو غرامشي، جان جينيه، ايميه سيزار: كل منهم ارتبط واتحد بمواقف سياسية وثقافية معينة، ولكن  أرتبط كل واحد منهم  ايضا باسلوب شخصي متميز وخاص جدا ، وباسلوب  فني  شخصي فريد، وحضور شخصي عميق وبالطبع كاريزما قوية: الصفات التي يستدعيها كثير منا حين يتذكر ادوارد سعيد نفسه؛ من حيث حماسه؛ والتزامه الجرئ تجاه الشعوب المضطهدة وقضاياهم ؛ وجاذبيته؛ انفعاله؛ وبذلته الانيقه  وحتى حذاءه الانجليزي اليدوي الصناعة.

يمثل الاسلوب عند سعيد، على اية حال،   اكثر من كونه امرا جماليا فنيا ؛ انما  هو سياسي لازم : انه وسيلة لا لمجرد تاكيد الشخصية الفردية ولكن ايضا لعبور وتجاوز المعايير الثقافية والسياسية، ولمقاومة التسلط  واخيرا تحدي الواقع الاجتماعي نفسه. وهذ صحيح خاصة فيما يعتبره في كتابه الاخير بكونه  'الاسلوب المتاخر'  الرمزي الذي يقول عنه 'هو مايحدث حين لا  يتخلى  الفن عن  حقوقه لمصلحة الواقع'. 13 وفي هذا السياق فهو يفكر بعمل ادورنو لسمفونية بيتهوفن الاخيرة اي السمفونية التاسعة "المائدة المنعزلة". وفي تعبير ادورنو الفني المباشر، فمثل هذا الاسلوب المتاخر يكون واضحا وبينا حين نجد فنانا عظيما،متحكم تماما في شكله ووسطه، 'ومع ذلك يهجر التواصل مع النظام الاجتماعي القائم الذي هو جزء منه ويحقق علاقة مغتربة متناقضة معه'. ان المتاخر  لايعني هنا ان يكون المرء  في نهاية مهنته بل  يكون بالاحرى وبمعنى متخصص جدا في خلاف مع عصره الخاص؛14 او كما قال سعيد نفسه  'الاسلوب المتاخر هو في الحاضر ولكنه  مستقلا  عنه بصورة غريبة'. 15

لذك فالاسلوب المتاخر لايتضمن فقط ماسماه مرة ارنست بلوخ تزامن اللامتزامن ولكن يتضمن ايضا رفض صريح للتسوية الجمالية الفنية، فمثلا حين رفض بيتهوفن ان يكون التاليف   111 متطابقا ومنسجما مع الشكل المتوقع للسوناتا، لكي تؤدي وتظهر  في سوناته النهائية تلخيصا  مرضيا مقنعا  ولكنه تلخيصا ناقصا عن نجاحاته حتى ذلك الوقت؛ لذلك  نجد ان العمل 111 يؤشر افتتاحا اكثر منه خاتمة  ونهاية،  وشكلا  سهل التحقيق والانجاز. لكن التأخير عند سعيد هو شي اكثر ما يتعلق بالاسلوب الفني المحض : إذ هو يتضمن مثلما  يمكننا ادراك ذلك في ويليام وردورث في قمة  انجازاته – او في ويليام بليك عبر مهنته- رفضا للتحييد ، ورفضا للمسير مع التيار ، ورفضا لاداء يمين الولاء ، واصرارا قويا على الاختلاف والتميز وعدم المساومة والاختراق والمقاومة.  الاسلوب المتاخر ، بمعنى اخر، فضلا عن تعبيره  عن سياسة ثقافية معينة  فهو  يعبر ايضا  عن  سياسة بحد ذاتها.

وهذا سبب مناشدة سعيد لنا لكي نعي ان اسلوب المفكر المثقف المعارض بذاته  انما هو خاصية مركزية لموقفه بالمعنى العام الواسع. اسلوب ومنهج المثقف الحقيقي  مهم في توصيف المثقف وابرازه : فهو لايسجل تميزا فريدا عما يحيط به من التجانس الموجود والتخصص والمهنية بل يسجل ايضا رفضا لقبول امتيازات السلطة  واغراءتها  وضغوطاتها.

ويجدر بنا هنا الاشارة  لتقويم فريدرك جيمسون للاساليب الشخصية لكبار الكتاب الحداثيين ومايسميه  جيمسون الاستقلال المحض لاسلوبهم الفني ، ورفضهم لمسايرة اتجاهات الاقتصاد الحداثي- نفس النوع من الرفض الذي يريده ويقصده سعيد في  تناوله للاسلوب المتاخر. يشير جيمسون الى ان تجلي هذه القوة والمناعة  لنفسها غالبا  في الحداثة  من حيث "العبقرية المنعزلة" وروائع الاعمال  ومايسميه جيمسون لحظة  العظماء من الالهة الثانويين والانبياء - 'فرانك لويد رايت ورداءه وقبعته، بروست في غرفته المبطنة بالفلين، بيكاسو ”قوة الطبيعة“، وكافكا ”الماساوي“المشؤوم. 16 لكن جيمسون يصر على ان لانخدع انفسنا بل ان نحررها من اللوم والعويل  بانه  " من خلال   تفهم طراز مابعد الحداثة وتسويقها الاعلاني،  نعرف ان الحداثة مازالت هي زمن الكبار والقوى الاسطورية التي لم تعد متوفرة لنا". لانه يضيف قائلا اذا كانت موضوعة مابعد البنيوية "لموت الموضوع" تعني اي شي اجتماعي ، فانها تشير الى  نهاية فردانية  المغامرة  التي يسوقها وعيها الداخلي، "وكاريزمتها" وعدة القيم الرومانسية الغريبة المصاحبة كمثل  قيمة "العبقري" في المقام الاول.  ويستنتج  من خلال رؤيته هذه، بان:

انقراض وتلاشي "الحداثيين العظام" لايدعو بالضرورة للحزن والاسى. فنظامنا الاجتماعي غني في معارفه وثقافته واسعة كبيرة ،ومن الناحية الاجتماعية  فهو، في الاقل، اكثر" دمقراطية". .....فمجتمعنا  لم يعد بحاجة لانبياء وفحول من النوع الحداثي الراقي والكاريزمي سواء بين صانعي ثقافته او صانعي سياسته. فمثل هذه الشخصيات لم تعد تحمل اي سحر اوجاذبية لافراد عصر مابعد الفردانية الجماعي المتكتل؛ في تلك الحالة وداعا لهم  بلا اسف، كما  يكون قد قالها برخت: واسفاه  للبلد الذي يحتاج عباقرة وانبياء وكتاب عظماء او الهة ثانوية. 17

وحين نتمعن في  رؤية جيمسون اعلاه، نلاحظ نوعا من التناقض في تقويم سعيد وفهمه  للمثقف. فبينما هو يؤكد من جهة على الدور الانفرادي، التنبؤي للمثقف ليس باعتباره مجرد شخصية صعبة التحييد والاستمالة بل ايضا باعتباره نوع  من شخصية منيعة محرمة ( كائن متفرد ، يقول الحقيقة بوجه السلطة ببلاغة وشجاعة) او بمعنى اخر، على وجه الدقة هو نوع من انواع  الالهه  الثانوية او النبي الكاريزمي الذي لانتاسف على  غيابه كما يقول جيسمون، بينما  نجد سعيد في نفس الوقت اصر دائما على الاهمية الكبيرة لان يكون المثقف واضح، سهل المنال، غير متخصص ، في خدمة ومساعدة عامة الناس. وموقف سعيد  ضد الوقوع في دائرة مغلقة ضيقة من النقاد المتخصصين كان بسبب  انهم يمنعون سواهم ممن لاينتمون لحلقتهم المقربة . ويتساءل  سعيد في مقالة كتبها عام1982 والتي ذكرت سابقا، "ماهو الترياق الانساني المقبول لما يكتشفه المرء، ليكن مثلا بين اهل الاجتماع والفلاسفة، ومايسمى بعلماء السياسة الذين يخاطبون بعضهم البعض فقط بلغة  لاتنشغل  باي شي  سوى  باقطاعية محروسة متهرئة باستمرار محرمة على غيرهم؟"18 وكما نعرف فان عمل سعيد اعطانا الترياق الذي كان يشير اليه: التدخل، تجاوز الحدود بين فروع المعرفة المختلفة ، الابتعاد  عن تخوم  مجاميع ذوي التخصص الدقيق، واخيرا التحدث  لجمهور عريض. السؤال الان لاي مدى يكون  فيه هذا الانفتاح والاتصال متوافق – او مختلف - مع ما طرح عن  تصور سعيد الحديث عن المثقف المنيع  الكاريزمي والمتحمس.  نجد ان جواب جيمسون يشير الى عدم حاجة  عصر مابعد الفردانية الجماعي المنفتح  لخدمات مثل هذا العملاق  الحداثي ولكن ايضا، فضلا عن ذلك ، ليس هناك مجال  لمثل هذه الشخصية في العالم المعاصر.

يدعونا  تاكيد جيمسون للتساؤل اذن عن مدى صلة مفهوم سعيد الحديث عن المثقف بالتوقيع المتميز  والاسلوب الفني  الشخصي لعصرنا المتعب الذي تتحكم به الصور.  وبلا تعمق في المسالة، يجب ان يبدو جليا ان كامل السؤال عن الاسلوب الحداثي يبدو  في غير محله لوقتنا الحالي. ان مبادئ جينيت والتزاماته مثلا  قد تكون غير منفكة ومنفصلة عن اسلوبه او صورته الشخصية لان الاسلوب الفني الشخصي  او الصورته  في زمنه  لم تكن معزولة عن الموقف السياسي القائم ؛  الصورة  تمتنع على التجريد والتشييء، والانفصال، والانتقال وحتى التوفيق  ؛ لذلك فاسلوب جينيت(Genet) وصورته في الخمسينات او الستينات لم تكن  منفصلة عن موقفه السياسي الاساسي. وحقا، فهذا  الاندماج المطلق للاسلوب الفني  والافكار هو، كما اشرت، مهم جدا لفهم رؤية سعيد عن المثقف.

في عصرنا عصر مابعد الحداثة، اصبح الاسلوب منعزلا عن الصورة بل ان انتاج وانتقال الصور يعتمد كلية على انفصال الصورة عن المواقف او الارتباطات السياسية او الثقافية . ومعنى هذا ان الاسلوب الفني او الصورة الشخصية  يمكن ان  تتحرك وتدور  في مضمون معادي ومخالف ونقيض اصلا مع ارتباطاتهما الثقافية والسياسية الاصلية (الدليل البين عن هذا الانفصال هو الصورة العالمية عن جيفارا التي تستخدم الان في  معاملات التسويق والعلامات لتجارية، او ببساطة  باعتبارها صورة  توفيقية بنفسها اكثر منها  استعادة تخيلية لما كان يمثل  جيفارا سياسيا وثقافيا)؛ فضلا عن الايحاء  ايضا بان النجاح هذه الايام له علاقة  في الاقل بصورة الشخص- او حتى بالعلامة التجارية – مثلما هو تماما مع المواقف السياسية او الفكرية الفعلية للمرء. ويجدر السؤال كيف يمكن  لمثقف ان يصور نفسه ويصوغها على طول المسارت  التي وصفها سعيد في سوق فكري اكاديمي وسوق نشر تسيطر عليه باستمرار العلامات التجارية.

لكن هناك مشاكل اخرى تواجه المثقف في عصر مابعد الحداثة. ويجب ان ناخذ بنظر الاعتبار عدة عوامل في التفريق بين المثقف الحداثي كما صوره سعيد وبين مثقف مابعد الحداثة في ايامنا هذه. هناك قبل كل شئ مسالة النشر.

فالمثقف الحداثي يمكنه توزيع عمله ونشره في بيئة نشر لايسيطر عليها المعيار التجاري ولايعتمد عليه- اي عمله -  كلية. فنجد ان  بعض دور النشر والمجلات والصحف تتعاطف  - وغالبا ماكانت متعاطفة-  مع قضايا سياسية او ثقافية معينة (مجلة تل كويل مثال تقليدي؛ ومجلة المواقف البيروتية مثال اخر). وعلى العكس، نجد ان التوجه السياسي او الثقافي لدور نشر مثل بانثيون،راندوم هاوس،فينتاج، دبلدي او كنوبف  مرتبط بالحقيقة المادية بانها كلها فروع بيرتلسمان التي التزامها الاول  ليس للافكار او المواقف بل للريع المادي (بلغ 17 بليون يورو عام 2005 ) الذي  هو الهدف الاساس للشركة.  ومن غير المحتمل انه كان بامكان  ادوارد سعيد نفسه تحقيق وضعه الفكري العالمي لو ان كتبه طبعتها دور نشر غير مشهورة وقدرتها المالية محدودة- مهما كانت ملتزمة سياسيا- بدلا من دار عملاقة عالمية مثل بيرتلسمان. ربما لان سعيد نفسه قد اصبح – بغض النظر عن نياته هو- نوعا من انواع العلامات التجارية في النهاية.

 

المسالة الثانية الملحة في هذا السياق هي الغياب الفعلي ، ان لم يكن المطلق،للمثقفين المستقلين. قد يكون موت سوسان سونتاج قد اشر نهاية حقبة. قد نرى وجود بضعة مثقفين مستقلين حقيقين لكن معظم المثقفين اليوم مرتبطين ومنتسبين، ان لم يكن ملتزمين بالكامل، للمنظمات الاعلامية، والمؤسسات البحثية او الجامعات  الاخذة في التكتل؛ وفعلا  نجد ان معظم المثقفين المؤثرين اليوم ، احتمالا، لم  يعودوا كونهم افرادا  بل مؤسسات كونية عملاقة. وبرغم ذلك لم ينغلق باب التفكير الحر  او النقدي؛ لكن الامر  المهم هو ان المثقف اليوم لن  يواجه ذات الموقف  الذي ظهر  اثناء اوج لحظة الحداثة.

Text Box:  
 

 

Text Box:  
 

 

اخيرا، تواجه كل المؤسسات التي ترعى المثقفين هذه الايام ضغوطا متزايدة فضلا عن هجوم شرس  لتحطيمها والغاء هويتها .  هناك مثلا هجوم غير مسبوق على الحرية الاكاديمية  في امريكا وعلى مؤسسة الجامعة نفسها كما نعرف (ساقصر ملاحظاتي على جامعات امريكا ليس لكونها حالة نموذجية بل ببساطة لانني اكثر معرفة واطلاعا  بها). واتخذ معظم هذا الهجوم  شكل  انحياز الجناح اليميني، لكننا نجد فعلا بدء عملية اعاقة وتدمير الحرية الاكاديمية وبالتالي الفكرية – والعملية اليوم منظمة بصورة قوية- من قبل شبكة  افراد ومنظمات اخطبوطية عاملة لحماية مصالح اسرائيل في امريكا. خذ مثلا تنظيم اسرائيل في ائتلاف الحرم الجامعي، الذي هدفه ، حسبما  يعبر عنه  صياغته اللغوية الرديئة  " لفرض  وبصورة نافذة  خطة مساندة لاسرائيل في الجامعة " ، الذي يجمع تحت مظلته  احدى و ثلاثين منظمة مختلفة هدفها هو نشر دعاية مساندة لاسرائيل ومنع اي نقد لاسرائيل في الجامعات الامريكية؛ وتضم  بين اعضائها ومنتسبيها  منظمة اللوبي الصهيوني القوي ايباك، ومنظمة كاميرا وهي منظمة اسرائيلية لمراقبة الصحافة ، والمنظمة الصهيونية الامريكية، ومشروع اسرائيل  ومشروع ديفيد.

 

وشاركت كثير من هذه المنظمات بالاخص مشروع ديفيد، في ازمة جامعة كولومبيا 2004 –  التي كانت  بيت سعيد لفترة طويلة- وفيها  تم استهداف  ثلاثة اعضاء هيئة تدريسية للهجوم عليهم من قبل ائتلاف مجموعات صحفية او اعلامية ، ومجاميع الضغط وسياسين (ضمنهم عضو من الكونغرس) بسبب نقدهم اساسا لسياسة اسرائيل. وتحت ضغط  قوي من المانحين المتبرعين و اصحاب اللوبي، فشل رئيس الجامعة في الدفاع عن  حرية اعضاء الهيئة التدريسية. في النهاية فشل الهجوم لتحقيق هدفه-  الموجه اساسا لطرد البروفسور المساعد – غير انه  كان مثالا مخيفا عن الجو الجديد للمراقبة السياسية التي وقعت فيها المؤسسات الاكاديمية. اعتاد الزملاء على هذه الهجمات كما يقول مارتين كرامر المساند لاسرائيل والمتورط في ازمة جامعة كولومبيا. "انت مراقب. وسنسعى لازالة تلك المقالات المشاكسة الغامضة في صحف الجامعة المتوفرة الان على الانترنت وحذفها. وسنقوم بتدقيق مقرر دروسك الذي وضعته ايضا على الانترنت. سنزور موقعك الالكتروني في اخر الليل".19

ان احدى المسائل المركزية لحملة مراقبة الجامعات هي المحاولة القائمة لتمرير تشريع  على المستوى الفدرالي يفرض مراقبة الولاية للبرامج الاكاديمية  نزولا الى مستوى الواجبات الصفية وقوائم مراجع المطالعة الاضافية للمقرر الدراسي وكذلك جعل المهمة الاكاديمية للجامعات التي تستلم منح مالية فدرالية خاضعة للامن القومي لامريكا واسرائيل. وانه لامر مذهل  ان نعرف انه ورد عرض لعمل ادوارد سعيد عن الاستشراق  في قرار مجلس النواب  رقم 3077 (لسنة 2003) من اجل دعم الدعوى الكاذبة  التي تقول انه  تحت قناع دراسات مابعد البنيوية  وما بعد الكوليانية،  فقد سيطر  معارضو  اسرائيل و معارضو امريكا  على المؤسسة الاكاديمية الامريكية او في الاقل كل المراكز المهمة لدراسات الشرق الاوسط والدراسات العالمية. وهنا نورد محور الشهادة امام الكونغرس لاحد مساندي اللائحة او مشروع القرار،  واسمه  كورتز:

يسمى المنهج الفكري القائم في مجال الدراسات الاكاديمية (بالاخص دراسات الشرق الاوسط) بنظرية مابعد الكولويانية.  وقد اسس  هذه النظرية  استاذ الادب المقارن في جامعة كولومبيا ادوارد سعيد الذي نال شهرة عام 1978 بنشر كتابه الاستشراق. في هذا الكتاب نرى ان سعيد يساوي الاساتذة الذين يؤيدون السياسة الامريكية الخارجية  بالمثقفين الاوربيين في القرن التاسع عشر الذين ساندوا الامبراطوريات الكوليانية العرقية العنصرية. وجوهر نظرية مابعد الكوليانية  هو تجرد الباحث من نوازعه الاخلاقية حين يضع معرفته باللغات والثقافات الاجنبية في خدمة السلطة الامريكية.       

الحل الذي دعى  اليه كورتز ومدافعون اخرون عن اسرائيل وعلى راسهم مارتين كرامر ودانيل بايبس( اكاديمي اخر اسس مراقبة الحرم الجامعي في التسعينات لمراقبة الجامعات الامريكية  التي تنتقد اسرائيل)- ومدعومه من وكالات اللوبي الاسرائيلي في واشنطن- هو فرض  واقامة هيئة تعينها الولاية لمراقبة برامج الدراسات الدولية. والمعينيون سيكونون من السياسيين وليس الاكاديميين وسيعينهم قادة مجلس النواب والشيوخ  فضلا عن الجهاز  التنفيذي للدولة وستضم ممثلين اثنين من الوكالات المسؤولة عن الامن القومي. وبالمساندة الواسعة من مجاميع اللوبي الاسرائيلي، مررت اللائحة في مجلس النواب في نهاية 2003  ولكنها ماتت في لجنة الشيوخ. واعيدت صياغتها في 2005-2006 وشرعت ضمن حزمة جديدة من القوانين( لائحة مجلس الشيوخ   1614 ، وقرار مجلس الشيوخ609 ) ثم مررت ثانية من قبل  لجنتي مجلس النواب  والشيوخ  باغلبية كافية . وفشل الكونغرس الذي يسيطر عليه الجمهوريون في التصويت عليها وبينما لايعرف حال ووضعية هذه اللوائح  في الكونغرس الجديد الذي يقوده الدمقراطيون، فانه من المحتمل ان يحاول مساندوها لاعادة اقتراحها وربما تمريرها؛ واذا نجحوا فيكون نظام الجامعة الامريكية قد عبر الحد الحرج الذي   لايحتمل ان يتعافى منه، في الجو المسموم الان.

اضافة للمسائل النظرية الاخرى التي طرحتها ، فهذه التحركات والضغوطات السياسية المضافة تجعل من الصعوبة كثيرا ان نتخيل  هذه الايام نجاح العملاق  الحداثي الكاريزمي الكبير الضروري في تصور سعيد عن المثقف- خصوصا المثقف المنشغل بامور المجتمع. تعرض سعيد نفسه لهجوم من مجاميع المصالح القوية؛ لكنه كان في حينها عملاقا. غير ان  المسالة الان  هل بالامكان ظهور عملاق جديد في ظل الظروف الراهنة او سيكون من المفضل لنا بدلا من ذلك تصور وسائل  جديدة عن دور المثقف  مع بقاءه محتفظا بطاقة المعارضة والالتزام الاخلاقي الذي ناضل من اجلها سعيد ولكن مع تعزيزها  بتقويم  جيمسون لمكان (او نقص مكان) عمالقة حداثة  الماضي في عالم اليوم ومعنى التحديات الفريدة التي تواجه المثقفين في واقعنا الاجتماعي والسياسي المتغير. وكما اعتقد فلا تزال انواع الالتزام والشجاعة والتضامن مع المضطهد والمستضعف التي ناصرها  سعيد ، قائمة كمتطلبات لاغنى عنها للمثقف المعارض اليوم. وعلينا  ان نكون  حذرين لمحاولة صياغة انفسنا وفق  المسارات  الحداثية  التي ناصرها سعيد نفسه.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الهوامش

1-    ادوارد سعيد، صور المثقف

2-    المصدر نفسه ص7-8

3-    المصدر نفسه ص 11

4-    المصدرنفسه ص 74

5-    المصدر نفسه ص 81-82

6-    ادوارد سعيد، معارضون،   ص 136

7-    المصدر اعلاه ص 140

8-    المصدر نفسه ص 156

9-    صور المثقف ص 83

10-                      المصدر اعلاه ص 100-101

11-                      المصدر اعلاه ص 3

12-                      المصدر اعلاه

13-                      ادوارد سعيد، عن الاسلوب المتأخر ص 9

14-                      المصدر اعلاه ص 22

15-                      المصدر اعلاه ص25

16-                      فريدريك جيمسون، مابعد الحداثة ص 305

17-                      المصدر اعلاه ص 306

18-                      سعيد، معارضون  ص 143

19-   دوبس، دراسات الشرق الاوسط  تحت المراقبة 


 

*  زيد العامري الرفاعي (كاتب عراقي- استراليا) 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا