<%@ Language=JavaScript %> فلاح المشعل الكتابة العارية : الاعزل وبنية الإقصاء

   

لا

للأحتلال

لا

للخصخصة

لا

للفيدرالية

لا

للعولمة والتبعية

حضارة بلاد الرافدين   

    

                                              

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين                                    

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                            


الكتابة العارية :


الاعزل وبنية الإقصاء

 


فلاح المشعل

 


الحياة الكبيرة والعميقة التي يعيشها الكتاب الاحرار الموهوبون تتكفل بولادة رواية مشرقة بشرف تمثيل الحلم. ومن هذه الزاوية تؤسس رواية" الاعزل" للكاتب حمزة الحسن، قانون وجودها الذي يختزل بتكثيفات عالية الوعي قراءات متنوعة للواقع العراقي، كما يخترق المسكوت والمحظور والمخفي في نص مغامر جعل هذه الرواية وثيقة في مواجهة الواقع الذي خرج منه" الأعزل" بخسارات شاملة. وهذه الرواية تعد، على المستوى الفني، خطوة متميزة وضعت الرواية العراقية في خط العالمية بقوتها وجرأتها وفرادتها في دفق روائي بحرارة الانسان، خاصة وان ميثاق القراءة في هذا النص المشاكس يقترح علينا في الغلاف ان نقرأه كــ" سيرة ذاتية روائية".

وهذا وحده بداية المغامرة الادبية في أول نص عراقي يعلن بوضوح وقوة تصل حد الصدمة والدهشة بأنه نص سيروي، ذاتي، الأمر الذي سيقلب مفهوم القراءة التقليدي حيث سنتعامل مع نص يحاول صياغة حياة او بقايا حياة مهشمة، مهمشة، مقصية، في الواقع، ويحاول عبر اللغة استعادة وجودها الملغي والمحذوف. اي ان السيرة الروائية هنا تحاول من خلال الحكي اعادة بناء الوجود الفردي. وقد تكون مفارقة محزنة وملتبسة انه من غير المسموح للأعزل لا الحق في الحياة ولا الحق في الحكي والقص والرواية.وهذه هي طبيعة الخوف، وهي طبيعة النص المختلف، اي النص المبني كطبقات وليس سطحا كما في البناء الروائي التقليدي.

رواية" الاعزل" لاتقترح المكان في لعبة الحبكة الروائية ولم تجترح الزمان في لذة الهروب من الخوف.بل هي هي تنهض من وسط المصيبة حالمة بجروحها وآثار خساراتها، وقد تكون أول رواية عراقية تناقش الحرب من موقع مختلف. فالأعزل، البطل المقصي، المحذوف في الزمان والمكان، يقوده حلم مضيء الى دروب مهلكة هنا أو هناك، ليس لأن حلمه هو حلم الشاذ، بل لأنه حلم المختلف والمبهر. فماذا يستطيع الاعزل ان يفعل داخل المؤسسة وذاكرة القطيع وفوضى المعايير والكتل؟ لاشيء ابدا غير الكتابة.لذلك تأتي هذه الرواية كجواب أو فضيحة على شروط حياة صعبة جدا. الهتك هنا والتدمير والنسف اللغوي هو هتك المغامرة الروائية التي صارت، في النص، كتعويض عن مغامرة حياة مرفوضة لسبب بسيط جدا: البراءة. فليس مسموحا للأعزل أن يحلم خارج الحلم العام. من هنا يأخذ الاقصاء العام للجسد، والرغبة، والوعي، والأمل، طابعا فجائعيا، وداخل نسيج روائي، سيروي، في مثل سلاسة الماء العذب، وفي صلابة ومتانة حلم برئ.
هذه القراءة النقدية تقوم على تفكيك النص الروائي والاشتغال على جوانبه الفنية، والتأكيد أولا وأخيرا، على خصوصية العمل السيروي الروائي وهو عمل لاوجود له قبل رواية" الاعزل" في الرواية العراقية وأسباب ذلك كثيرة شخصية واجتماعية وثقافية وتاريخية.
المكان بنية الإقصاء : العزلنة
هذه الرواية كتبت على شكل سيرة ذاتية روائية لشخصية الأعزل. وشخصية الاعزل هي الوحدة الأساسية في الرواية اضافة الى شخصيات أخرى تشكل اضاءات لفضاء الاعزل، أو تكون هذه الشخصيات تعبيرا عن دلالية المكان أو تعمق أثره. الفضاء الروائي يتوزع على "ربيضة" وهي غابة وشبه جزيرة في قلب دجلة، وهي ايضا تشكل عالم المعدان النقي، النظيف، الذي سيشكل الخروج منه فيما بعد صدمة للأعزل، وهو خروج وجودي بمعنى انه يذكرنا بالخروج من الفردوس الى الجحيم، ومن زمن العذرية الى زمن القصدية، ومن عالم عفوي، مسلح بالبراءة والعذوبة، الى عالم قصدي، مخطط، مخيف، بل مجنون رغم الاصباغ. ربيضة هي مكان الحلم الاول، ومكان نمو براءة الاعزل.في هذه الجزيرة الندية، وفي عالم المعدان، وحكاياتهم، ومواقدهم، ومخاوفهم، ومواجهتهم اليومية للخطر والذئاب، تتشكل ذاكرة الاعزل. وهذه الغابة/ الجزيرة/ تبزغ في ذاكرة الأعزل كلما صدمه مكان جديد، أو زمان جديد، أو جرح جديد.وماأكثر جروح الاعزل!(( كلما خمش عصفور وجه نافذتي، تذكرت ربيضة ـ ص 154 )).إن المكان هنا ـ ربيضة ـ الذي يحتل مساحة أوسع في دائرة الرغبة يشير إلى بنية الإقصاء التي تحكمه بالأمكنة الأخرى : البارات، الفنادق، السجن، خنادق الحرب، سجون المنفى، أي أن ربيضة المكان/ الغابة/ البراءة/ هي النقيض للأمكنة الأخرى وهي مغلقة على الحلم وعلى الأمل وتشكل نقيض حلم الأعزل في عالم نظيف، مشرق، هادئ، حسن الإضاءة ، بتعبير همنغواي. والحضور المتواصل لربيضة، هو استعادة حلمية ليس للمكان العذري المقصي، بل لعالم الطفولة المقصي. هذا هو الإقصاء المزدوج: من المكان، ومن الذاكرة. أي أن محنة الأعزل ليست في النفي المكاني، بل في النفي الزماني. بمعنى انه يعيش غربتين في آن: غربة المكان، وغربة الزمان. وهو " مقذوف" إلى أقصى حدود الحلم والهذيان، ولم يبق له غير الانفصام، والصراخ، وجنون اللغة، أي جنون الكتابة. هكذا وصل هذا النص إلى مستوى الحداثة من خلال جنون اللغة.
إن رواية" الأعزل" تجاوزت إحدى إشكاليات الرواية العراقية في تعاملها مع المكان، لأن الرواية العراقية في نماذج كثيرة، تتعامل مع المكان كاستعارة ميثولوجية، أو متخيل، بما يجعل المكان وعاءً. أي افتقدت المكان/ البنية. أي الذي يكون جزءا عضويا من بنية النص. ولقد تعامل الروائي حمزة الحسن مع المكان بالصورة التالية:
* البار ـ مكان للهروب المؤقت والحلم والبكاء والغناء ، وهذا إقصاء.
* خنادق الحرب ـ مشروع موت مستمر. إقصاء أيضا.
* الفندق ـ التشرد، إقصاء.
* السجن ـ محنة متواصلة. إقصاء.
* الشوارع ـ تجوال، تيه، ضياع . إقصاء.
* الغابة ـ الحنين نحو عالم الطير والشجر والعشب. إقصاء.
* الحلم ـ المكان البديل لتحقيق الذات. أي إقصاء .
إن البؤرة المكانية تشير إلى فكرة الإقصاء وتعمق مفهوم الضحية.إن هذه الأماكن يُقاد لها الأعزل انقيادا في ضوء تواطؤات عديدة. وفكرة الإقصاء مكانيا تبدأ من" ربيضة" أي من مشاهد الطفل، الأعزل، وتنتهي إلى الحلم بها.أي أن ربيضة ليست مكانا فحسب، بل هي ذاكرة، وهي مشهد ينفتح على البراءة المفقودة. مقابل كل مكان قديم، مكان جديد. وفرضية الإقصاء تتجسد أكثر في قضية المرأة حيث هي، في المكان القديم، ضحية، وفي المكان الجديد، مكان المنفى، تمارس لذتها بأقصى قدر من الحرية والاستمتاع.
الزمان: الشمولية وبنك الذاكرة
لقد عمد الروائي الحسن الى توظيف الزمن كإيقاع نفسي في توظيف دلالي. فهو ينتقل من الحاضر ـ زمن الروي ـ أو زمن الخطاب، الى أزمنة أخرى في تقابل لتصعيد الأثر الدلالي.تم إسقاط الزمن التعاقبي، وبناء زمن خاص هو زمن النص. أي زمن منفلت من كل مرجعية خارجه. أن الزمن الروائي هو الذي يمسك برؤية وفضاء الحكاية اعتمادا على الذاكرة من خلال توزيعه على الشخصيات والحكايات جعل الواقع الزمني شموليا. أي انه زمن الواقع، لكنه مختلف عنه بحكم كونه الزمن/ الخطاب/ الإبداعي.فليس الزمن هنا استعادة حرفية، كالمكان، بل هو خلق آخر. وهذه طبيعة السيرة الذاتية الروائية.ليست إعادة الماضي، فهذه مستحيلة، بل إعادة صياغته من اجل تجميع ذات مبعثرة على فضاءات وأزمنة متعددة.

القراءة الأعمق لرواية" الأعزل" تضع القارئ في مواجهة صريحة مع ما هو مغلق ومستور ومحذوف ومسكوت عنه في المجتمع والجسد والرغبة والسياسة والهوية. كما تخطت هذه الرواية ما هو محظور اجتماعيا في الكتابة عن الجسد. الجسد، في النصوص العراقية، هو جسد مفرّغ من الرغبة ومعبأ بالكلام، والمؤسسة. أي انه جسد/ إقصاء. لذا فإن الروائي حمزة الحسن يتبنى مشروع الآخر، أي المهمش، ويكشف بجرأة نادرة قضية الجسد المقصي. وهذه واحدة من مصاعب السيرة الذاتية الروائية في مجتمع تقليدي وفي مناخ ثقافي تسوده علاقات القوة الاجتماعية والمحرم والمقدس. ويحضر هنا قول رولان بارت" ان الرواية موت. انها تصنع من الحياة مصيرا، ومن الذكرى فعلا مفيدا،ومن الديمومة زمنا موجها ودالا، لكن هذا التحويل لا يمكن ان ينجز الا في عيون المجتمع، فالمجتمع هو الذي يفرض الرواية".
الشخصية الضحية وثنائية التكوين:

منذ البداية تندمج الشخصية مع المكان وتتشكل بملامحه. ولأن المكان يعد فضاءً دلاليا، فإن الشخصية هي الاخرى كانت تبث دلالتها. فالاعزل/ الراوي/ وجد نفسه منذ البداية في عالم صعب،وطبيعة شرسة، لكن وديعة، اي انه مقذوف في الطفولة داخل الخطر. خطر الذئب، خطر المؤسسة، خطر المعايير، خطر الرغبة المقصية، خطر جسد يشكل فضيحة في رغباته المشروعة، خطر الحكي، خطرالبوح،خطر الاعتراف حتى بقضية حب. اي ان السيرة الذاتية الروائية هي محاولة لقلب معادلات القوة والخوف من خلال السيطرة على النص بعد فشل محولات السيطرة على الواقع وهذه هي وظيفة الفن البدائية كما كشفت حفريات الكهوف ورسوم الجدران. الأعزل لا يروي فحسب، بل يقاضي مجمل اوضاع ونماذج وشروط. وبهذه الصورة تكون حرية الكتابة، حرية الحكي، بل حرية البوح والاعتراف، تعويضا عن خسارات المواجهات الكثيرة.

إن الأعزل شخصية لا تدعي البطولة، بل تكشف بتلقائية السرد والبوح، عن صورة الضحية دون أن تقع في المراثي. ومنطق التفكيك السيميولوجي للشخصيات يشير الى حالتين: الأولى. اراد الروائي ان يعطي صفة الاعزل لكل الشخصيات وتأسيس حكاية الاعزل والعزلنة. والثاني ان الشخصيات الاخرى في الرواية لم تكن نسخا من الراوي، بل تمثل نسيج الفضيحة في جانب، ونسيج الأمل في جانب آخر. بعض الشخصيات هي مؤسسات ونماذج. الشاعر الدعي، مثلا، أو النصاب والسوقي، هو نموذج لقسوة الصورة حين يجد الاعزل وهو في منفاه البعيد، بعض نماذج عالمه القديم التي تبعته حتى في تلك الامكنة القصية. اي ان الخلاص، احيانا، صعب مادامت هذه النماذج لها قدرة الوصول الى عزلة الاعزل ومحاولة تحطيمها في جو يشبه الجريمة. اي ان الاغتيال صار مرتين:

مرة في الوطن ومرة أخرى في المنفى. وهذه هي كوميديا الاخطاء بتعبير شكسبير. مرة لحياة الاعزل، مرة أخرى عندما حاول ان يروي. مرة اغتيال الرغبة البيضاء، واخرى اغتيال نص الحكاية. هذه هي مأساة شهرزاد تعود مرة أخرة. النص في مواجهة المؤسسة، الشريعة، التقاليد، التابوات.

تمثل يسرى في رواية الأعزل الحب المحرم. ونفهم الحكاية أوضح عندما نعرف ان هذا الحب يقع في زمن الحرب، اي زمن يكون فيه الموت صريحا. وهذا الحب، في زمن الحرب، هو المعادل الموضوعي للموت العاري. وموت يسرى يشكل فضيحة كبرى لأشياء وشروط وحالات كثيرة. فهذا الموت أو القتل تم علنا، وبعلم الجميع، دون أن يتحرك أحد. كانت الجريمة علنية لكن أحدا لم يتكلم. وهنا اراد الكاتب الحسن ان يقول بلغة شفافة ان يسرى قتلت من قبل الجميع. هؤلاء سيقتلون هم ايضا في الحرب، فمن يعبأ بقتل امرأة عاشقة في زمن الحرب؟.هذه هي محاكمة الاعزل الكبرى.


تحضر مع شخصية يسرى شخصيتان: فلاح وقاسم شريف. فلاح يعيش في الوطن، وقاسم شريف مع الاعزل في رحلته الطويلة عبر الدول والحدود والسجون الاجنبية وفي المراقص وهما يشكلان تعويضا نفسيا وعاطفيا للاعزل في محنته. وهذا التكوين الثنائي لم يأت بدافع ان الرواية تقدم سيرة ذاتية روائية، بل انها حداثة روائية تسعى لتكثيف الاضاءة لشخصية الاعزل من خلال وصف الدخول في عوالم الشخصيات الأخرى. ولم تألف الرواية العراقية شخصية مثل الاعزل لا تدعي البطولة رغم كل المجابهات، لكنها تبحث عن الحرية حتى لو كان الثمن هو العزلة أو الموت أو الفضيحة او الكتابة العارية.

اللغة الروائية والمزاج الدالة:

يمسك الروائي بنسيج حبكته بدقة عالية وفي لغة نثرية خالصة. لقد حقق الكاتب توازنا لمفهومي الغياب والحضور داخل النص. اي ان الرواي يستدعي، من الذاكرة والخيال، شخصية قديمة كلما وجد نفسه في مواجهة جديدة مع الواقع وهو في موقع الاعزل. هذا هو معنى الغياب/ الحضور. اللغة هنا هي استدعاء مالا يستدعى إلا عن طريق الخيال. موت يسرى شكل صدمة حقيقية للاعزل، لكن طريقة الموت شكلت فضيحة اجتماعية. اي ان يسرى تموت وتقتل بصمت في زمن الحرب. والأعزل متهم بالحب. هكذا صار العاشق، من وجهة نظر القبيلة والمؤسسة، منحرفا. وتتداخل " خطوط الحرب" في عقل الاعزل: "هل الحرب على الحدود أم داخل قلبي؟". وهل يسرى أمرأة أم وطن؟ ومن الميت؟

سجلت هذه الرواية أول ممر مضيء وجريء لدخول حداثة عراقية روائية وهي انموذج متقدم لفن روائي مفقود. لكن على الأعزل ان يقدم، ومرة ثانية، ثمناً باهظاً بسبب جرأة الكشف والفرادة والصدمة والكتابة العارية وفي عالم روائي عراقي هو اعادة صياغة حرفية ساذجة لواقع مليء بكل ماهو غني وفريد ونادر واستثنائي. اذا كانت الحياة قد حرمت الروائي من حق العيش، فهل سيحرم، ايضا، من حق الحكي؟
بغداد ـ تشرين أول 2001

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا