<%@ Language=JavaScript %> شوقي بزيع شجرة العراق المسقية بمياه الموت
   

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين          

 

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                        

 
 

 

 

لا

للأحتلال

 

 

شجرة العراق المسقية بمياه الموت

 

 

شوقي بزيع

 

نادراً ما قرأت في العقود الأخيرة رواية عراقية خالية من المرارة والإحباط وتفكك المكان والزمان، وهو أمر غير مستغرب بأي حال لأن بين الرواية والتاريخ أكثر من صلة قربى، ولأن لا فن كالرواية يستطيع أن يكون وثيقة شخصية واجتماعية، وأن يشهد على تحولات الواقع وتبدل المصائر وتقلبات الأزمنة، لذلك من الصعب أن ينتج الواقع العراقي زمن صدام حسين أدباً مغايراً لذلك الذي رأينا نظائره في الرواية والشعر والمسرح والأغنية والرسم، حيث الشخصيات منقسمة على نفسها ومثخنة بالعتمة وموزعة بين القبور والمنافي أو مهددة بهما في أحسن الأحوال .

 

ومن يقرأ روايات عالية ممدوح وجبار ياسين وجنان جاسم حلاوي وغيرهم في الآونة الأخيرة تلوح له المصائر الكارثية للأبطال المدفوعين قسراً إلى حروب كارثية لم يختاروها والمسحوقين تحت سنابك القهر والعجز والامحاء الكامل .

 

في روايته الأخيرة “وحدها شجرة الرمان” ينجح الكاتب والشاعر العراقي سنان أنطون في إيصال رسالة إلى القارئ مفادها أن ما يسمى بلاد الرافدين لم يعد منذ سبعينات القرن الفائت وحتى العصر الأمريكي الحالي سوى مساحة للرعب واليأس والتيه والإذلال وتجويف الحياة من معناها .

 

كل ذلك نكتشفه من خلال شخصية جواد، بطل الرواية، الذي لم تفارقه منذ نعومة أظفاره الغصة المتأتية من مهنة أبيه القائمة على غسل الموتى وتجهيزهم للقبر الفاغر، وهي غصة لا تني تتفاقم يوماً بعد يوم خاصة بعدما عمل الأب جاهداً على توريث ابنه المهنة ذاتها التي بدأت تدر عليه مردوداً أفضل بعد سقوط صدّام وتكفل الإرهاب والاحتلال الأمريكي على حد سواء برفع منسوب القتل والمجازر الطائفية والمذهبية والعرقية إلى حدوده القصوى .

 

ولعل مقتل أموري، شقيق جواد، في حادثة تفجير إرهابي هو من المفارقات المأساوية الإضافية التي وفرت للأب عملاً إضافياً لن يتقاضى عنه هذه المرة أي أجر، بل سيعجل من نهايته ويجعله يموت بغصة فقدان ولده اليافع .

 

كل شيء محاط بالموت ومغلف به في ذلك البلد الذي سينهب حكامه ومحتلوه كل نفطه ومحاصيله وثرواته، وحتى تاريخه المعلب في المتاحف سيتم نهبه قطعة قطعة وتركه أثراً بعد عين .

 

على أن جواد بطل الرواية سيحاول جاهداً أن يعثر على خشبة خلاص تنقذه من مهنة غسل الموتى التي فرضها عليه أبوه، حيث كل شيء له طعم الرماد في الفم، وحيث يكتشف الفتى أنه لم يعد قادراً على التلذذ بالتهام ثمار شجرة الرمان القائمة في حديقة البيت لأنها مروية بالمياه نفسها التي تغسل بها أجساد الموتى، وإذ يختار البطل أن يدرس فن النحت لينافس سميه جواد سليم، ويحقق نجاحات لافتة في هذا المجال، يعمد الإرهاب المتعدد الوجوه إلى تدمير المتحف العراقي، وكل التماثيل والمنحوتات الموزعة على مفاصل عاصمته المنكوبة، فيعود خائباً إلى مهنة الأسلاف المغمسة لقمتها بمياه الموت ورائحته النفاذة .

 

قد تبدو المرأة في تلك الظروف الحالكة شبيهة بصورتها في العصر الجاهلي، حيث الأنوثة بروحها الشفافة وملذاتها الحسية هي وحدها من يخرج البشر الخائفين من جحيمهم المطبق، ويفتح لهم نافذة على الأمل، وإذ يرى البطل في شخصية ريم زميلته في معهد الفنون تجسيداً لحلمه المقيم ما يلبث أن يكتشف أنها متزوجة رجلاً آخر ما يلبث بدوره أن يقتل في حرب الخليج .

 

إلا أن فرحة جواد لا تكتمل لأنه ما إن قرر الزواج بريم حتى هجرته بشكل مفاجئ لأنها أصيبت بسرطان الثدي ولم ترد لصورتها أن تنكسر في مخيلته، أما الفتاة الأخرى غيداء التي قتل أبوها في حادث آخر وجاءت مع أمها لتسكن مؤقتاً في منزل جواد فلم تلبث مغامرته الغرامية معها أن تنقطع عراها بسبب سفرها إلى الخارج هرباً من جحيم العراق، والأدهى من كل ذلك أن محاولة جواد للفرار من ذلك الجحيم قد باءت بالفشل بعدما اكتشف أمره على الحدود العراقية الأردنية، وأعيد قسراً إلى بغداد ليزاول إلى ما لا نهاية مهنة غسل الموتى .

 

ثمة قسوة بالغة في رواية سنان أنطون وانسداد للأفق لا ينفذ منه أي بصيص للأمل، ومع ذلك فإن القارئ يتجاوز تراجيديا الواقع المطبقة ليشعر بمتعة السرد الفائقة وتقدمه السلس نحو فصله الختامي .

 

ورغم النبرة الرومانسية المشبعة بالشعر التي تشيع في ثنايا الرواية، فإن العمل محكوم بواقعية جارحة يدفعها الصدق إلى قلب القارئ وعقله ووجدانه، ويطلق في داخله صرخة طويلة ومكتومة ضد فساد العالم ووحشية الإنسان وغياب العدالة .

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

Rahakmedia - Germany

 

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا