<%@ Language=JavaScript %> المكان: حي البتّاوين الزمان: 1940 - 1950 
   

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين          

 

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                        

 
 

 

 

لا

للأحتلال

 

 

المكان:                   حي البتّاوين في بغداد                      

   الزمان:                                1940 -  1950                                       

                          

 

فياض موزان  

 

جاءت تسمية البتاويين من كلمة "البته" وهي قرية من قرى الحلة وقدهجرها بعض اهلها ليستوطنوا ويعملوا في بساتين هذه المنطقة كبستان  "مامو"  أوبستان " الخس" و التي كانت قديما خارج اسوار بغداد وكان يطلق عليها منطقة البتّاويين نسبة الى اهل البته الذين سكنوها ومارسوا الزراعة على ارضها فيقال لمن سكنها هذا بتّاوي وسمي الحي  بحي البتّاويين او البتّاوين.

 

كنت قد تخطيت الخامسة من عمري وانا العب مع اقراني في حي البتّاويين الذي ولدت فيه , كان بيتنا يقع في المنطقة المحصورة ما بين شارع ابو نؤاس وشارع السعدون والذي سمي بالسعدون نسبة الى عبد المحسن السعدون(رئيس وزراء العراق الذي انتحر ابان العهد الملكي فترة الثلاثينيات) والذي يشمخ تمثاله  منتصبا وسط هذا الشارع وتحديدا في ساحة النصر الآن  ،

و شارع السعدون  يمتد من مدخل الباب الشرقي شمالا حتى مدخل الكرادة جنوبا   وكانت بيوت حي البتّاوين تنتشر على جهتي هذا الشارع  وكانت هذه المنطقة مسجلة آنذاك بدوائر الطابو باسم "بستان مامو"  و أتذكر أن دفاتر نفوس عائلتنا في احصاء 1937  تشير الى بستان مامو كعنوان لسكننا في هذه المنطقة. والتي ما زلت احتفظ بها.

 وكنت ان اتجهت شمال هذا الشارع تجد امامك  سينما الاورفلي "السندباد حاليا" و في الطرف الاخير منه, و قبل بلوغ ساحة الباب الشرقي التي تجاورها,  حديقة الملك غازي "حديقة الامة حاليا"تقابلها من جهة الباب الشرقي سينما غازي وسينما البيضاء وعلى الجانب المقابل من الشارع يقع جامع الاورفلي الذي ما زال شامخا الى الان .

 

 و كان معظم قاطني  دور هذا الحي وعلى جانبي شارع السعدون  من اليهود وكلما سرت بعيدا عن الباب الشرقي باتجاه الكرادة ترى الدور امست اكبر مساحة والشوارع اوسع منها في البيوت

الاقرب ويبدو انها كانلت قد رصفت حديثا في ذلك الوقت , وان استمريت بسيرك نحو شمال الشارع فانك ستجد بعد ساحة الباب الشرقي دور السينما كسينما غازي و النجوم والبيضاء الصيفي و التي كانت  تنتشر بالقرب منها   بارات العرق الشعبية التي تزدحم بروادها من الطبقات الفقيرة لرخص اسعارها.

 

كان الشارع الذي يتعامد مع شارعنا يمتد من  شارع ابي نؤاس بموازاة نهر دجلة و بجوار فندق "السفير حاليا" و الذي يمتلكه خليل البحراني – الذي لم يكن فندقا سابقا- الى شارع السعدون والذي تقع سينما النصر "سينما أطلس" حاليا والتي كانت تمتد من الزاوية المقابلة لكازينو "سيلكت" والى نهاية هذا الشارع المتصل من نهايته ب وكانت تجمع والدي بخليل البحراني صداقة قديمة والاخير تربطه صلة قربى ببيت حمادي الخاصكي وقد كانوا ايضا جيران لنا واستمرت علاقتنا بهم فيما بعد  حيث نقلوا سكناهم الى منطقة  بارك السعدون التي كنا قد انتقلنا اليها  قبلهم.

 

وكانت مقهي زناد ومقهى  مجيد شمّر ومقهى فاضل  تمتد على كتف هذا الشارع الذي يقع على ضفة نهر دجلة وفي الجزء الذي يقع بين  ساحة النصر وبين سينما "اطلس" "النصر"  الذي تجاوره جمعية الشبان المسيحيين والتي ازيلت في التسعينات وانشيء في موقعها  بناية الخطوط الجوية العراقية ،كان يرتاد هذه الجمعية الكثير من الاجانب والسواح وحينها كنا صغارا وكنا نعتبرهم جميعا من الانكليزنلاحقهم  ونناديهم  "صاحب" .. "صاحب" بخشيش... كي يعطينا أحدهم  "عانه" اربعة فلوس او "قران" عشرون فلسا او "درهما"خمسون فلسا ان كان كريما لنعود به فرحين مسرورين .

 

وكان لجارتنا الأرملة فخرية الخبازة  ولدين شابين وثلاثة بنات و كانوا كلهم أكبر منا سنا ,والشابان   اكبرهما كان أسمه علي وكان  جريئا ومشاكسا ومصابا بمرض  التدرن الرئوي"السل" والثاني  كان لطوفي الاعمى  وهو الذي كان موضع اعجابنا ولكنا كنا نخافه ونهابه  وكان "يتزعمنا"     و نأتمر بأوامره  بطريقة لاندرك سببها , اتصدق ؟ إنه  كان يقود دراجة

هوائية و هو الأعمى بعد ان يضع امامه على هيكلها "اللشة" شخصا يدله على الطريق بمثابة عينيه وكان يتسلق  الاشجار ليفتش عن فراخ الحمام في اعشاش"الفخاتي" ليعود بها مخبأة في "عبّه" ليجبرناعلى  شراءها منه, وكان يعزف على الناي بطريقة جميلة وكانه تعلم العزف على يد احد الموسيقيين المحترفين,

 كان لطوفي دائما ما يحرضنا  لإعتراض الشباب اليهود اليافعين وهم يمرون بالقرب منا   متوجهين في طريقهم الى سينما النصر(اطلس حاليا) او الى المقاهي القريبة  فقد كان يفهّمنا انهم يهود جبناء ومتى ما أخفناهم  سنحصل منهم على ما نريد وبدافع الخوف من" لطوفي الاعمى" ولصغر سننا حيث كنا لا نتجاوز الثامنة و كنا نتصدى لهم ممسكين في يد حجرا   وفي  الاخرى قطعة معدن مدورة الشكل تشبه العملة المعدنية "الريال" بحجمها وشكلها , والريال   كان عملة فضية  عليها صورة الملك فيصل الاول وكانت متداولة انذاك  وهي تعادل   اربعة دراهم "200"  فلس وهي اكبر من الدرهم  حجما

 

 

 

 

 

، كنا نطلب منهم صرفها واعطائنا اربعة دراهم بدلها ولما كانوا يشاهدون الحجر بايدينا  ينصاعون لنا ويعطونا الدراهم خوفا من ان تطال رؤوسهم حجارتنا وبعد  ان يبتعدون عنا ويكتشفون أن  القطعة المعدنية المدورة ما هي إلا  "تنكة" نهرع لكي نلتقطها ثانية لنعاود الكرة مع اخرين غيرهم ونعود بالدراهم  الاربعة  لنسلمها الى "لطوفي الاعمى" الذي بدوره يعطي كل واحد منا و بكرم بالغ!!!  "عانه"واحدة و التي تعادل اربعة فلوس والعانة هذه سميت نسبة الى العملة الهندية "آنه" وعلى الزاوية الاخرى من الشارع الذي يقع فيه  بيتنا يقع بيت عباس المختار "ابو ربيع" وابنته حليمة التي كان يحبها لطوفي الاعمى فقد كان يجبرنا على مرافقته لنجلس امام بيتها ولنخبره عندما تظهر   عند الباب و متى ما اطلت منه ليسمعها كلاما يعبر به عن هيامه بها وحبه لها .

 

وفي الجانب المقابل لبيت عباس المختار وعلى زاويته المقابلة للشارع المؤدي الى شارع  ابي نؤاس والمتقاطع مع شارعنا تقع كازينو "سليكت "وهي عبارة عن مشرب ولم تكن تبعد عن بيتنا اكثر من  50مترا و كان يعمل بها "نسيم اليهودي" جرسونا يقدم الخدمة لزبائنها،

وكان نسيم كثيرا ما يلاطفنا و يمزح معنا  وكان بارعا  في اخراج الاصوات من عجزه متى شاء ذلك  مموسقة وذات نغمات واصوات مختلفة كنا نستغرب لذلك وكيف انه كان يطلقها متى ما شاء ونستلقي على قفانا من شدة الضحك وكيف انه وبسنه لا يستحي من  إتيان ذلك    الض....

 و أتذكر انه كان قد  أجلسني مرة و كنت في الخامسة من العمر على كرسي من الخيزران ذو قاعدة قد حيكت وظفرت من لحاء القصب وطلب مني رفع "دشداشتي" للاعلى كي تبان  في الصورة  وبعد ان ظهّر الصورة اعطاها لاخي الذي يكبرني باكثر من عشرة اعوام الذي إحتفظ بها .. ولكني لما بلغت سن المراهقة اصابني استحياء وخجل منها فمزقتها .. وقد ندمت كثيرا لذلك لاحقا..فقد كانت صورة جميلة امام حديقة كازينو تمتد بمحاذاة الشارع الى ان تنتهي عند الطرف الاخرمن شارع السعدون

 و تقع  على الزاوية المقابلة  لسينما النصر والتي تحول اسمها الى سينما اطلس فيما بعد.

 

حينا العتيد هذ ا الذي كانت تقطنه غالبية من اليهود العراقيين والذين كانوا يعيشون بإنسجام و تناغم مع المسلمين من امثالنا في تلك الحقبة من الزمن و كانت بيوت المسلمين قليلة جدا قياسا الى تلك التي يقطنها اليهود فقد كانت من بيوت المسلمين في الحي بيت البحراني والخاصكي

وعبدالحسين الجاسم ويعقوب المنصور وعباس الربيعي"المختار" وجاسم شمّر الملاصق لبيتنا والذي كان يمتلك محلا للاسماك على شاطيء ابي نؤاس وهو اخ لصاحب المقهى حجي  مجيد شمّر وقد اصبح ثانية جارنا لما انتقلنا الى بيتنا الجديد في بارك السعدون في  مطلع الخمسينات اضافة  الى فخرية الخبازة واولادها الذين يشكلون حيا   لوحدهم لما هم عليه من صخب شقاوة واثارة

 للمشاكل و التي كنا نسال الله ان لا تكون لأحد من مشكلة مع احد منهم و التي إن أثارو مشكلة مع  كائن من كان  فلن يدري من اين ستاتيه الحجارة  منطايرات متراشقات من فخرية وبناتها  مكللة بسكاكين و"قامات" اولادها الشباب، بيد انه

رغم هذه الشقاوة والتمرد فإنهم على كرم شديد  و طيبة كبيرة  وعندما يكون المرء معهم ودودا لين العريكة فانه يلاقي الكثير من الحب والعطف والدعم منهم ناهيك عن حرصهم على ابناء الحي تجاه الغرباء فقد كانوا  يستميتون بالدفاع عن ابناء حيهم كما هي حال أبناء  الاحياء البغدادية الاخرى. وكنت شاهد عيان لمعركة نشبت  بين علي الابن الكبير وبعض أفراد الشرطة  اسال فيها  دمهم وطرح احدهم مغشيا على الارض فقد كان جسورا شجاعا لا يهاب احدا.

 

أما عن العلاقات السائدة آنذاك مع اليهود فقد كانت تربط ابائنا بيهود حينا علاقات صداقة وزيارات متبادلة وود كبير فيما بينهم ولم  ينتابهم شعور قط غير شعور المواطنة العراقية من خلال التعامل المتبادل بينهما, لقد كانت كثير من العوائل اليهودية التي تقطن هذا الحي من امثال بيت يوسف ابو سامي "شاموئيل"، ونسيم حسقيل وبيت خضوري ميرلاوي،وصالح ساسون وبيت شاشا وسليم منشي وكرجي داود، وداود ورده المقاول الذي لم يترك العراق وصارشريكا يعمل باسم يعقوب المنصور  والاخير اصبح من كبار المقاولين العراقيين فترة الخمسينات والستينات و هو الذي بنى مدينة الثورة الاولى إضافة الى العديد من مشاريع الطرق.. وقد علمت ان داود ورده كان قد اعتقل بعد عام 68 ومات في المعتقل, وكثير غيرهم  غابوا عن ذاكرتي كانوا يسكنون احلى البيوت في هذا الحي.

 

أم سامي زوجة يوسف وكأنها شاخصة حاضرة امامي الان بشعرها الذي غزاه الشيب فيه وغطى خصلا منه وفستانها البسيط ذو الالوان الزاهية وربطة شعرها لتي تدفعها الى مؤخرة راسها قليلا لتظهر مقدمة شعرها واساور الذهب التي تزين كلتا معصميها  والتي كثيرا ما تمنيتها لامي حينها، واقراطها الجميلة وكلمة "بدالك" باللهجة اليهودية اي فديتك التي تسمعنا اياها  كلما كانت تطلب منا ان نطفيء النور في بيتهـــــا إبتداء من غروب يوم الجمعة لكي تشعل الشموع و التي يسمونها أضواء السبت...  .. ولم اكن ادرك يومها لم لا تطفئه بنفسها او بواسطة احد من اهل بيتها ؟ وعلمت بعد الحاحي بالسؤال عن السبب .. وعلمت ان يوم السبت هو يوم اليهود المقدس و كلمة سبت معناها الراحة.. وتحرم الديانة اليهودية العمل فيه فهو يوم راحة و يوم ممارسة طقوس العبادة اليهودية  لذلك فإن اليهودي  لا يطفأ النور بنفسه بل يرجو الآخرين بأن ينوبوا عنه بذلك  وهذا ما فهمته من اهلنا في حينه.      

كان بيتنا بسيطا ومن دور واحد وفيه ثلاث غرف وفسحة كبيرة تتوسطه و تنتصب فيها اربع  نخلات  تتوزع على مساحة ارضها وكانت احدى النخلات تعطي رطبا احمرا يسودّ نصفه ومن ثم كله عندما ينضج وهي "نخلة بربن" وكنت احبها لمذاقها الحلو والحاد في حلاوته, و يقع بيتنا مباشرة خلف

البيوت التي تطل على دجلة مباشرة وكنت اجد بيت شنطوب الذي يربض على شارع ابي نؤاس معانقا نهر دجلة بشرفاته التي تطل عليه وتكحل عيونها به كل صباح ولكونها مواجهة للغرب وعندما تغطيها الظلال  فأنهاا تمنح جلاسها متعة النظر الى روعة النهر وجمال انكسارات الضوء عليه... كان   منظره خلابا و رائعا  يشدك اليه وتحس بعظمة وروعة حينا- وطننا الصغير-  وحبنا له     يتسرب الى نخاع عظامك ويمنحك نشوة عارمة ليس في الدنيا كلها مثيلا لها, لا ادري هل لانها مرابع الصبا؟ ام هي روعة المكان ؟ ام هو حب دفين و عشق عميق لذلك الزمان و ناسه و بساطته؟ و قد يكون كل ذلك   و كنت  ترى امامك من الشرفة شاطيء النهر وتشم رائحة تربته ممزوجة برائحة السمك واللوبياء والخيار الذي كان اخي يزرعمها في تربته ايام العطلة الصيفية.                                          

 

كان بيت ابو سامي شنطوب  مكونا  من طابقين ومبني على الطريقة البغدادية "بيت شرقي" حيث يتوسطه فناء مفتوح "حوش" ترى السماء منه وتحيط به غرف عديدة وسلم يقودك منه الى الطا بق العلوي  والتي يشبه تصميمه الطابق الارضي الا ان رواقا طويلا يزنرها تحيط به غرف  كثيرة تطل   ابوابها على الحوش الأسفل  والمرصوف بالطابوق"الفرشي"، وسلما آخر يؤدي من الحوش الى "السرداب" القبو الذي كانوا يستخدمونه مخدعا للنوم ايام الصيف القائضة و  كانوا يضعون طبقة من العاقول اوالشوك الاخضر المثبتة على  "جريد" سعف النخيل يضعونها على الشبابيك التي تكاد تلامس سقف السرداب والتي تطل على جبهة النهر ويرشها اهل الدارباماء كلما يبست او نشفت منه كي تعطي ساكني "السرداب" هواء باردا الذي هو بطبيعته ابرد من هواء طوابق البيت الأخرى . 

كانت مداخل البيت والعواميد "الدنك" التي ترفع البيت من الداخل في غاية الجمال وروعة في معمار

الزخرفة على الطابوق لتضفي على البناء رونقا وبهاء.                                                      

 

و اتذكر تماما "الاسطة" المعمار الذي كان يبني مثل هذا النمط من البناء كيف كان يزخرف الطابوق ويشكله بفاسه و بمقدمتها ذات النصل الحاد والواسع قليلا ومؤخرتها التي تشبه المطرقة , يكسّر بها الاجزاء التي لا تروق له وينتزعها من الطابوقة المكعبة الشكل ليجعل منها شكلا هندسيا جميلا , ويعتمر "جراوية" بغدادية "لفة" على رأسه وهي عبارة عن "شماغ" قد لفه وبرمه بطريقة دائرية على رأسه بعد ان وضع تحته طاقية بيضاء "عرقجين" كي تغطي بقية رأسه ، وتراه مزهوا بعمله مستمتعا به ويعامل "طابوقاته" بكل حنية ودلال وكأنه يريد ان يخرج منها رسما ليركبــــه مــــــع التشكيلات الطابوقية الاخرى ليخرج منها هذه اللوحة الزخرفية الجميلة.

 

السقوف كانت مغلفة بالخشب الاحمر الجميل المزخرف والزجاج الملون و"الدرابزين" التي تؤطر السلالم  هي الاخرى من الخشب الجاوي الجميل المدهون المشرق المشع حمرة والممتد مع السلالم صعودا محاذيا للرواق العلوي ليشكل حاجزا يمنع سقوط الافراد، كذلك الشبابيك الخشبية التي تزينها الواح زجاج ذات الوان متنوعة جذابة وكانها قد ارتدت حلة قشيبة , اما الارضيات فهي من " الكاشي الموزائيك" البلاط وبنقشات وزخرفات متنوعة تعطيها الالوان الجذابة اشراقا وجمالا منقطع النظير، ولن أنسى  ذلك الركن الذي يرتفع قليلا عن مستوى البلاط والمحاط من جهتين بجدارين ومفتوح على الساحة الوسطية من الجهتين الاخريين ترتقيه عبر سلّم بسيط من درجتين او ثلاثة وقد فرشت فيه "كرويتات" او "قنفات" غطيت بسجاد ايراني قد طغى عليها  اللون الاحمر على الازرق

 

 

 بيت قديم في البتاوين

 

ووضعت عليه وسائد جميلة من الصوف المزركش ، حتى اني كنت اختلق الاعذار والحجج لأم سامي عندما كانت تناديني لاطفاء انوار بيتها  كي ابقى اطول فترة ممكنة في البيت لأستمتع برؤية هذه الجمالية في البناء والرفاهية في الاثاث والفرشإضافة الى غرف الاستقبال في الطابق الارضي والدكة المرتفعة "للضحوية" او "العصرونية "لاحتساء الشاي ، كانت الغرف كلها مفروشة بأسرة جميلة تغطيها اغطية نظيفة زاهية ووسائد غاية في الاتقان ومن نفس نوع القماش وقد طرّز عليها رسمات ورود واقارنها بالتي في بيتنا فقد كانت الوسائد فيه من القماش ذو اللون الواحد قد ملئت و حشيت قطنا او صوفا والوانها باهتة بعكس التي لديهم فقد حشوها بريش الطيور ناهيك عن الوانها الزاهية، وليس هناك من اثاث يعتد به في بيتنا فقد كانت غرفة الجلوس الواسعة فيه عربية الطراز تمتد على طول ارضها ملاصقة لجدرانها سجادات مستطيلة الشكل ووسائد صوفية تتخللها وسائد اخرى يتكــــــأ الجالس عليها،و تتوسطها دلال قهوة ابي وهاونه ومحماس قهوته                    

                                                     

 

كان ابو سامي, يوسف التاجر بسوق الشورجة يمتلك سيارة شوفروليت "كشف"  سقفها  من القماش"تنته" كما كنا نطلق عليها لونها رمادي براق وكراسيها من الجلد ومقودها من العاج الابيض ، و أذكر ان عرضا سحريا قد اقيم يوما و جيء بساحر

 او بهلوان وخصص له مكان مقابل سينما النصر في الحي وقد اضطجع على ظهره مفترشا الارض  واضعا لوح خشب على جسده لتمر من فوقه سيارة ابو سامي العتيدة وكنا مندهشين لقوة هذا الرجل او لسحره لما قام منتصبا بعد ان مرت من فوقه السيارة، وطبعت هذه الحادثة وسيارة ابو سامي في ذاكرتي انا  واقراني من ابناء عماتي عبدلله وعباس وابن جارنا فوزي الذي كانت امه تلبسه قرطا يتدلى من اذنه كي لا تصيبه العين وهو بمظهر الفتاة وقد ازدانت اذنه بقرط ذهبي سرقته منه يوما احدى النساء وبقي بلا اقراط باستثناء ثقب اذنه.                                                                

وهذا الساحر يذكرني كيف خرجنا كلنا في الحي يوم خسوف القمروبايدينا علب من الصفيح والصواني نقرعها لتصدراصواتا ونحن نردد " ياحوتة يامنحوسة ، هدي قمرنا العالي ، وان كان

 

ماتهدينه لدقلك بصينية " الى آخر هذه الترنيمة وقد اخبرونا ان لم نصدر هذه الاصوات ونزعق بعالي صوتنا فستنقلب الدنيا وتقوم القيامة  اي تكون الاخرة قد حلت .

 

كان يوم السبت هو يوم عطلة لدى اليهود ولم يكن وقتئذ من وسائل لهو غير المقاهي والسينمات ومحلات الشرب  وكبارهم كانوا يرتادون مقاهي زناد والحاج مجيد التي تقع في الحي عصر هذا اليوم  وفي المساء يجلسون فيها يحتسون الشاي ويطلبون الاغاني العراقية وكانوا يطلبون سماع اغاني ام كلثوم التي تتعالى من جهاز الكرامافون او "القوان" كما منا نسميه  وكانوا يطلبون سماع اغنية لام كلثوم اتذكر منها مقطعا كان يتردد في الاغنية  "شدة وتزول ياعين"، اتذكرهم بلباسهم التقليدي "الصاية" او " الزبون" الابيض  بخطوط سوداء  تعتمر رؤوسهم "الطرابيش" الحمر "الفينة"او بلباس اوربي مع "سدارة على الرأس وشبابهم قد مشط شعره وصففه بطريقة جميلة بعد  ان ثبته بالكريم الذي يعطيه لمعانا كنا نندهش له.

 

وبعد عام 1948 وفي مطلع الخمسينات قامت الحكومة العراقية باسقاط الجنسية عنهم  وتجميد اموالهم وممتلكاتهم واضطهدتهم "قطعان الانعام"   وقد قتل الكثير منهم ونهبت بيوتهم ومقتنياتهم

حتى سمي هذا العام " بسنة الفرهود"  مما اجبرهم على السفرالى اسرائيل وهاجر بعضهم من هناك الى بلدان أخرى و الكثير منهم  لم يستقروا اسرائيل و انما هاجروا  الى اوربا وما زالوا يعيشون هناك و العديد منهم ما زال   يفخر بعراقيته  حتى ان اولادهم الذين ولدوا هناك يتكلمون  اللهجه العراقية وكلهم يحنون للعودة الى العراق ويتذكرون الايام الجميلة التي كانوا يعيشونها في العراق ، ونرى اليهود العراقيون اليوم  في اسرائيل ما زالوا يحتفضون بلهجتهم العراقية ولهم مجتمعهم الخاص ويرددون الاغاني العراقية ولم يبق منهم الا  القليل والقليل جدا في العراق وغالبيتهم من  كبار السن، وقد استغربت يوما عام 1994 لمــــــا دخل علي شاب وبيده بضاعة يروج لبيعها في معرض الرخام

 " معرض فياض موسى" الذي كنت امتلكه في شارع الجمهورية قرب ساحة الخلاني  في محلة الفناهرة وهوحي كان يقطنه اليهود قديما ومن سكنته المغنية سعاد عبالله  كما اخبرني هذا الشاب الذي لم يتخطى عمره الرابعة والعشرين ربيعا وبعد اخذ ورد في الحديث معه للمساومة غلى  سعر البضاعة اقسم لي  بنبي موسى ان ربحه فيها قليل وصدقته بعد ان علمت انه يهودي والذي اثار استغرابي صغر سنه وهو لم يزل يسكن حي الفناهرة الحي البغدادي  القديم والعريق والفقير، ومن الصدف الطريفة ان اسمه عامر موسى وابني اسمه عامرموسى ايضا وظل يتردد علي كثيرا ليبيعنا من بضائعه التي كانت تتراوح بين المشروبات الكحولية  التي يحصل عليها من الاسواق المركزية ومن الانواع الفاخرة وحسب النوع الذي تختاره وتطلبه كان يأتي به وانواع اخرى من البضائع تتراوح بين الملبوسات والماكولات والحلويات وما تتطلبه.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

احد شوارع حي الفناهرة

 

لقد كان تعداد يهود العراق قبل عام 1948 يقارب ا لمائتي الف نسمة في الوقت الذي لم يتجاوز تعداد العراقيين الثلاثة ملايين نسمة ,  وكانت قد ظهرت تصرفات مشينة تجاههم من قبل البعض   من اعتداءات وتحقير توجت "بالفرهود"  لممتلكاتهم وموجوداتهم وحتى قتلهم الذي  اختلقته وحرضت عليه الحكومة العراقية انذاك لغرض تسفيرهم الى اسرائيل.

 

 

 

                                              الكنيس في ( البتاوين) (مهجورة حاليا)  وترى عليها ملصقات الاعلان وتشاهد البوابة البيضاء في 

                                              اخر المبنى والتي كان الاولاد يرمون الحجارة الى داخل الكنيس  من خلالها

                    

      

كنا صغارا طلابا في المدرسة الابتدائية ونمر من امام باب " الكنيس" او "التوراة " كما كنا نطلق عليه ونحن في طريقنا الى مدرستنا " مدرسة البتاويين الابتدائية الاولى" الاوسية حاليا وهي المدرسة الوحيدة في الحي بمديرها الاستاذ صادق الفتال ومدرسنا في الصف الاول  الاستاذ احمد شهاب ومدرس الانكليزي استاذ فرج الاصلع الراس و كا مل القيسي كان معلم الرياضة الذي امسى ممثلا مشهورا كما هو الحال مع شهاب ابن معلمنا احمد شهاب، كنت اشاهد الاطفال يرمون بالحجارة الى داخل الكنيس  من مدخله ولم ادرك سببا لهذا التصرف المشين والمتسم بالعدوانية والذي كنت رغم صغر سني اشمئز منه واجده عدوانا سافرا على عراقيين مسالمين لا يردون على من اعتدى عليهم سوى غلق باب  كنيسهم ليس الا،يشاطروننا العيش في الحي ونعيش معهم فيه بسلام ودعة دون تفريق بسبب دين فهم عراقيون ومن سلالات سكنت العراق منذ الاف السنين. منذ السبي البابلي لليهود.

 

لقد ادركت بعد نضج ووعي ان الاعلام الرسمي العراقي انذاك كان يدفع الناس بهذا الاتجاه يساعده بذلك الشعور القومي المتعصب لدى الكثير من العرب العراقيين والذي لم يضع باعتباره عراقية هولاء القوم ووطنيتهم  ودورهم البارز في الحركة الوطنية العراقية ودورهم المتميز والفاعل في الاقتصاد العراقي-فقد كان معظم تجار الشورجة ببغداد هم من اليهود وكان اول وزير مالية في اول

حكومة عراقية بعد الاستقلال والذي ثبت بيع النفط بالجنيه الذهب وليس بالجنيه الورق هو ساسون اليهودي – وبيت لاوي وكلاء سيارات شفروليت في العراق قبل ان يكون لها وكلاء اخرين بالشرق الاوسط , ومساهماتهم الفكرية والادبية  من امثال مير بصري واحمد سوسة الذي كان اسمه نسيم سوسة والفنية  للاخوين داود وصالح الكويتي وسليمة مراد التي لقبت ب "سليمة باشا"  ودخولهم المعترك السياسي  حيث تبؤو مراكز قيادية في الحزب الشيوعي العراقي و في العديد من المجالات و نواحي الحياة الاخرى ورفضهم مغادرة الوطن والانسلاخ منه  والابتعاد عنه بعد ان قامت الحكومة بتسفير اكثريتهم على عجل وبالاكراه بعد اسقاط الجنسية عنهم .

 

كان ابو سامي (بيت شمطوب) يمتلك عقارا بالقرب من ا لكنيس في البتاويين و كان قد عرض على ابي ان يسجلها بأسمه بدائرة الطابو "احسن ما تروح للحكومة" على حد تعبيره وقد رفض ابي هذا العرض باعتباره اولا: محرم شرعا و مالا مغتصبا بسبب انهم مجبرين على منحه او بيعه بسبب اكراه الحكومة العراقية لهم على ترك العراق بعد ان اسقطت الجنسية العراقية عنهم وثانيا: ان ابا سامي هو صديق وجار، وعاد أبو سامي ثانية ليقول له يا اخي ادفع قيمتها دينارا "حليبا حيث كان يزودهم بالحليب كل يوم" وكانك اشتريتها وبهذا لاتخالف الشرع خصوصا واني احبذ ان تاخذها انت وبرضاي ولست مكرها على ذلك الا ان ابي اصر على موقفه وقال له مهما دفعت لك فيها فانك في داخلك مكره لاراغب على بيعها ولتاخذها الحكومة وتتحمل " خطيئتها" ..

 

 

وفي مطلع الخمسينات ولما فرغ الحي من ساكنيه اليهود باع ابي بيته في الحي الذي ولدت ونشأت وترعرت فيه لينتقل بنا الى حي جديد آخر هو بارك السعدون حيث اشترى ارضا هناك وبنا لنا بيتا عليها ورغم بعد المسافات الزمنية التي تفصلني عن حينا القديم"البتاوين" كان الحنين والشوق  ياخذني اليـــه لازوره بين الفينة والاخرى لاسير في طرقاته واكحل عينيّ ببقية من بيوته التي تهشمت ابوابها واغلقت شبابيكها ,                                            

 وبيت ام سامي الذي تحول الى مشرب وما زال يحتفظ بجماليتة المعمارية وكاني به في ذلك الوقت أيام طفولتي  رغم تغير الكثير من معالم شارعنا وما يحيط به  اذ سكنه المصريون فترة السبعينات والسودانيون فترة التسعينات وامسى شارعا متخصصا بمحلات الديكور ومشتقاتها وبعض من

عمارات سخيفة متداعية وكانها توابيت موتى صفت فوق بعضها !!  ولم يعد المار في هذا الحي يشم ذلك العبير الذي كان  ينبعث من بيت ابي سامي الذي يفصله الطريق عن شاطيء دجلة والذي هو انعكاس لنسمات دجلة الخير وشواطئه المزروعة بالخيار والفلفل ورائحة "السعد"واشجار الزور أو"الطرفة" كما كنا نسميها, انها رائحة "ترد الروح" كما كان يتلفظها اهلنا ومن كل الامكنة هناك التي يغطيها عبير شواطيء دجلة و حسرة حرّى على ذلك الزمان الجميل.

                                                                                                                                                                                                               فياض موزان  

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

Rahakmedia - Germany

 

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا