<%@ Language=JavaScript %> د. قدري حفني المثقفون والبحث عن تشخيص للثورة
   

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين          

 

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                        

 
 

 

 

لا

للأحتلال

 

 

المثقفون والبحث عن تشخيص للثورة

 

 


د. قدري حفني

 

 
حين يواجه المرء موقفا جديدا فإنه يلجأ فورا إلى مخزونه التاريخي الثقافي ليلتمس فيه عنوانا يعرفه لتشخيص الجديد الذي يواجهه‏,‏ ومن ثم يستطيع التعامل معه‏.‏ هكذا تؤكد دراسات علم النفس المعرفي وعلم النفس السياسي أيضا‏.‏

ولعل النموذج الذي يجسد ذلك هو نموذج التشخيص الطبي, فحين يفضي المريض إلى الطبيب بما يعانيه من أعراض متناثرة تكون مهمة الطبيب الأولي هي تجميع ذلك المتناثر, بحيث يشكل ما يمكن أن يدرج تحت عنوان معروف يحمل اسم مرض محدد يعرفه الطبيب ويعرف كيف يتعامل معه, فالتشخيص سواء كان تشخيصا طبيا أو سياسيا أو اجتماعيا لا يخرج عن كونه تجميعا لظواهر تبدو متناثرة, بحيث يشكل منها صورة نعرفها, مما ييسر لنا رد الجديد المجهول إلي قديم مستقر شائع ألفناه وعرفناه.
وقد ضمتني أخيرا جلسة حميمة مع مجموعة من الأصدقاء المثقفين المهمومين بشأن الوطن, وكان طبيعيا أن يدور الحديث حول ما يجري حولنا, وكان طبيعيا أيضا أن تتباين وجهات النظر, ولكن ما استوقفني بعد أن انفض السامر الذي استمر لساعات أننا قضينا الجانب الأكبر من الوقت في محاولة للبحث عن تشخيص دقيق لحقيقة ما جري في مصر خلال الأيام الثمانية عشرة المشهودة: هل كان ثورة شعبية؟ أم أنه انقلاب عسكري؟ هل هو ربيع عربي مبشر؟ أم انه نذير بعاصفة مدمرة تهب علينا من الغرب البعيد لتقتلعنا وتطيح بنا إلى حيث ما يعلمون ولا نعلم؟ هل تم إسقاط النظام؟ أم إسقاط رأس النظام فحسب؟ هل الرئيس مبارك رئيس سابق تنحى وأوكل الأمر بإرادته لمن اختارهم؟ أم أنه رئيس مخلوع تمت تنحيته قسرا؟ أتراه أقدم علي ما أقدم عليه نتيجة ثورة الجماهير؟ أم نتيجة ضغط الجيش؟ وغني عن البيان أن لكل من وجهات النظر التشخيصية هذه ما يدعمه من وقائع وأحداث.
ولم ألبث أن اكتشفت أن محاولات التشخيص تستغرق الجانب الأكبر من الوقت, وتساءلت ترى هل التشخيص بالمعني التقليدي ضروري للتعامل مع الموقف؟ وماذا لو لم تكن لما حدث سابقة؟ أو بالأحرى لا يتطابق مع أية وقائع سبق تشخيصها؟
وعدت بالذاكرة إلى يوليو1952حين احتدم الجدل بين الفصائل الماركسية, وربما بين غيرهم من الفصائل حول البحث عن استنساخ عنوان جاهز يصلح لتشخيص ما جرى: هل هو انقلاب عسكري؟ هل هو نذير بحكم بونابارتي تولت فيه المؤسسة العسكرية حسم الأمور عند تصاعد الصراع بين الشعب والحاكم بهدف إجهاض الثورة؟ أم أنه مخطط أمريكي لاستبدال الولايات المتحدة الصاعدة بالمملكة البريطانية العجوز؟ هل القرارات الاشتراكية تعبير عن احتكارية الدولة أم أنها سعي حقيقي صوب العدل الاجتماعي؟ واستمر الجدل لسنوات تنقيبا في الأوراق المعتمدة القديمة سعيا لتشخيص ما حدث, ومضي عبد الناصر في طريقه يغير من ملامح المجتمع ممسكا بالعصا والجزرة حيال القوى السياسية التي اختلفت وربما مازالت مختلفة حول البحث عن عنوان لتشخيص ما جري يوم23 يوليو.1952تري ماذا لو نحينا جانبا ذلك الشغف المحموم بحثا عن عنوان أو تشخيص مناسب ووجهنا قدرا من الجهد لرصد ما جرى ويجري الآن على أرض الواقع معترفين في تواضع بأن ما لدينا من تشخيصات وعناوين لا تنطبق انطباقا دقيقا على ما جرى, وأن الحاضر يحمل من التحديات الشيء الكثير:
ــ ثمة قوي هائلة فقدت الكثير من السلطة والثروة وهو أمر يستحق أن تقاتل بضراوة من أجل استعادته, وسوف تستمر في القتال مستخدمة جميع الأساليب من تشويه للرموز وإثارة للاضطراب وزيادة في الانقلاب الأمني وسعي لتدمير الاقتصاد.
ــ لقد انتقل الاحتجاج الجماهيري من المظاهرات المليونية المطالبة بالحرية والكرامة والدستور إلي إضرابات فئوية تطالب بالعدالة الاجتماعية بما يعني أن المواجهة قد أصبحت مع فئات عريضة ممن يرون أنهم مظلومون.
ــ يتجه المصريون للمرة الأولي لاختيار رئيس لا يستطيعون التنبؤ باسمه, ونحو نظام سياسي لا يمكن لأحد أن يتنبأ بملامحه, لأن الخريطة الواقعية للتوزيع النسبي للقوي السياسية يتم رسمها للمرة الأولى في التاريخ المصري عن طريق الانتخابات, وهو أمر لم تعرفه مصر طوال تاريخها.
ــ لقد سقط حلم حب الوطن دون أجندات تحدد ملامح ذلك الوطن الذي نحبه والتي تختلف باختلاف الإيديولوجيات, وتعددت التيارات الإسلامية والليبرالية واليسارية إلى جانب من يعبرون عن أحزاب قائمة وأخري منبثقة من الحزب الوطني الديمقراطي وكلها تعمل علنا لكسب صندوق الانتخابات, أي أننا نتحول إلى أن نصبح دولة طبيعية كبقية الدولة تختلف فيها الآراء وتتصارع ويثبني كل فريق رأيه.
ترى هل من الضروري في هذا المناخ اللاهث أن نستمر في استنفاد طاقاتنا الفكرية في البحث عن عنوان مألوف لتلك الأحداث المتلاحقة التي تشكل المستقبل؟ أم أن الأجدى أن يسعى كل فريق لتكريس جهده للمساهمة ميدانيا في تشكيل ذلك المستقبل وفقا لرؤيته.
ولعلنا لا نستبق الأحداث إذا ما قلنا أن الغلبة في النهاية ستكون للسباقين في بذل الجهد الميداني السياسي الجاري علي قدم وساق لتشكيل المستقبل, وأن الأقل حظا في ترك بصماتهم على هذا شكل المستقبل القادم هم من يستنفدون جهدهم في البحث عن عنوان لما جرى
.

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

Rahakmedia - Germany

 

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا