<%@ Language=JavaScript %> جلال أمين من ثورة يناير.. إلى نكسة نوفمبر

 

لا

للأحتلال

لا

للخصخصة

لا

للفيدرالية

لا

للعولمة والتبعية

حضارة بلاد الرافدين   

    

                                                

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين                                    

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                            

 

من ثورة يناير.. إلى نكسة نوفمبر

 

 

جلال أمين

 

بعد ستة أشهر من هزيمة مصر العسكرية فى 1967، دعيت لحضور مؤتمر كبير عقد فى هافانا، عاصمة كوبا، كان الغرض منه تعريف أكبر عدد من مثقفى العالم الثالث، الذين يمكن أن يتعاطفوا مع ثورة كاسترو، على ما أنجزته هذه الثورة خلال الأعوام التسعة الأولى من عمرها.

كان حزن المصريين لايزال عميقا لما حدث فى يونية 1967، وقد اعترتهم مشاعر مختلطة من فقدان الثقة بالنفس، إلى اليأس من أن تحقق بلادهم أى تقدم، إلى الندم عما علقوه على ثورة 1952 من آمال..الخ.

وكنت، مثل بقية المصريين الذين دعوا إلى هذا المؤتمر نشعر، بالإضافة إلى كل هذا، بنوع من الخجل إذ نضطر إلى مواجهة مثقفى العالم وبلادنا فى هذه الحال، وبعد أن ساءت سمعتنا بسبب هزيمة ساحقة بعد قتال لم يستغرق إلا أياما قليلة (بل وقد يقول البعض ساعات معدودة).

ثم فوجئنا عندما وجدنا أنفسنا وسط مثقفين جاءوا من مختلف أنحاء العالم، فإن هؤلاء المثقفين عندما يفكرون فى مصر، لا تحتل حرب 1967 إلا حيزا صغيرا جدا من تفكيرهم، ولا يتوقفون طويلا للتساؤل عن المسئول عن عجز النظام المصرى عن مواجهة الهجوم الإسرائيلى المدعوم بمساعدة وتأييد الولايات المتحدة، بل وجدناهم يعلقون أهمية أكبر بكثير على ما تمثله حركة الجيش المصرى فى 1952 من ثورة على نظام ملكى فاسد ولا يستغربون أن تواجه مثل هذه الثورة عقبة بعد أخرى، توضع لها من قوى خارجية أو داخلية. ناهيك بالطبع عما تمثله مصر فى نظرهم من أهمية بسبب تاريخها العريق ومساهمتها المتميزة فى الثقافة العربية. فوجئنا، نحن أعضاء الوفد المصرى، هذه المفاجأة السارة، وأدركنا خطأ الاستسلام لمشاعر ناتجة عن حادث، مهما كانت فداحته، فهو فى النهاية حادث عابر فى تاريخ مصر الطويل.

تذكرت تطور مشاعرى فى تلك الأيام، التى مر عليها ما يقرب من نصف قرن، بسبب ما يعانيه المصريون الآن من حزن وخيبة أمل بعدما أصاب ثورة 25 يناير 2011 من إحباطات متتالية، كان آخرها نكسة فظيعة فى نوفمبر من نفس العام، عندما فوجئ المصريون المعتصمون فى ميدان التحرير من أجل المطالبة باستعجال صرف التعويضات المستحقة لأهالى شهداء الثورة، فإذا بهم فى 19 نوفمبر والأيام التالية يتعرضون لضرب بالرصاص الحى والمطاطى والخرطوش، ويفقد كثير منهم حياتهم، وآخرون يفقدون بصرهم، عقابا لهم على المطالبة بما كانوا يعتبرونه حقا بديهيا وواضحا للغاية.

عندما حدث هذا، استيقظ المصريون فجأة على اكتشاف فظيع، كانوا يرفضون تصديقه رغم تكرار الدلائل على صدمة خلال الشهور العشرة السابقة، فكانت الصدمة قاسية، والشعور بالحزن والإحباط شديد الوطأة. هو اكتشاف أن الذين استلموا السلطة بعد الثورة لا يدينون بالمبادئ التى قامت الثورة من أجلها.

ثم ضاعف من أثر الصدمة وشدة الشعور بالإحباط، لدى أعداد كبيرة من المصريين (أنا واحد منهم)، ما أعلن عن نتيجة الانتخابات التى جرت بعد أسبوع واحد من أحداث القتل والترويع، من ذهاب غالبية الأصوات إلى أحزاب لا تثق هذه الأعداد الكبيرة من المصريين، لا بقدرتها على تحقيق النهضة المطلوبة، ولا على توسيع نطاق الحريات التى قامت ثورة 25 يناير من أجلها، بل وتحمل تهديدات حقيقية لمن يدينون بدين غير دين الأغلبية.

تذكرت مشاعرى فى أعقاب هزيمة 1967، ثم ما طرأ عليها من تغير بعد رحلتى إلى كوبا، فتأكدت لدى من جديد ضرورة الحذر من الاستسلام لتأثير أحداث قصيرة العمر، وضرورة النظر إليها فى إطارها التاريخى طويل المدى، فإذا بها تبدو أحداثا عارضة بمعنى الكلمة، وإذا بمشاعر الإحباط واليأس تحل محلها ثقة أكبر بالمستقبل.

***

فلنعد أولا إلى تذكر ما أسفرت عنه الأيام الأولى لثورة 25 يناير، من اكتشاف ما كان يجرى تحت سطح الحياة اليومية فى مصر من تطور رائع فى الجيل الجديد من المصريين، ذكورا وإناثا، هذا التطور الرائع لم يكن بسبب الثورة، بل كانت الثورة فقط سببا لاكتشافه. لقد ظهر فجأة أن الثلاثين أو الأربعين عاما السابقة على ثوة يناير 2011، رغم كل ما اقترنت به من فساد وأخطاء وعجز، لم تستطع منع حدوث تطورات إيجابية للغاية، كانت لابد أن تنشأ وتنمو بالرغم من كل ذلك الفساد والعجز وذلك الكم من الأخطاء. بل إنى استطيع الزعم بأن بعض هذه التطورات الإيجابية كانت نتيجة مباشرة أو غير مباشرة لبعض تلك الأخطاء. هل يمكن اعتبار هذا من قبيل «مكر التاريخ»؟، بمعنى أن التاريخ لا يسير فى خط مستقيم صاعد أو هابط، بل إن أحداث التاريخ تولد إمكانيات للنجاح والفشل فى نفس الوقت، وقد تنتج أشياء طيبة فى خضم أخبث فترات التاريخ وأكثرها فسادا.

ألم يكن التضخم الجامح نفسه، الذى أحدثته السياسات الاقتصادية الخاطئة التى اتخذت ابتداء من منتصف السبعينيات، وما خلقته من صعوبات أمام الأسرة المصرية التى وجدت أملها الحقيقى آخذا فى الانهيار بسبب التضخم، دافعا فى نفس الوقت لمضاعفة الجهد من كل فرد فى الأسرة، ذكورا وإناثا، من أجل مجرد البقاء على قيد الحياة؟

كذلك كان تطور التليفزيون المصرى، ذلك التطور الملعون ابتداء من تلك الفترة، عامل إفساد من وجوه كثيرة، وسببا من أسباب انتشار التفسيرات اللاعقلانية للدين. ولكن ألم يكن جهاز التليفزيون نفسه رغم كل ذلك (ثم الكمبيوتر والإنترنت) من عوامل التعرف على ما يجرى فى العالم، وشحذ الذكاء لدى جيل جديد من المصريين، استطاع بعضهم أن يجنى منه منافع رفعت بالكثيرين منهم إلى القيام بثورة 25 يناير؟

أو فلننظر إلى ما حدث فى ميدان التعليم. لقد أرى نظاما فاسدا، استمر نحو أربعين عاما، إلى تدهور شديد فى مستوى التعليم فى مصر فى مختلف مراحله. ولكن ألم يصاحب هذا توسع كمى فى التعليم كان لابد أن تحقق منه بعض النفع أعداد غفيرة من الشباب فى مختلف أقاليم مصر، وقد خرج كثيرون منهم للتظاهر ضد هذا النظام الفاسد، ونجحوا فى إسقاط رأسه فى 11 يناير؟

نعم، لابد أن تؤدى الأخطاء الجسيمة إلى نكسات خطيرة، ولكن هذا لا يعنى أن النكسة مهما كانت خطورتها لا يمكن النهوض بعدها، ومواصلة السير من جديد، بشرط أن ننجح فى اكتشاف الأسباب الحقيقية التى أدت بنا إلى النكسة.

***

هل هناك شبه بين الأسباب التى أدت إلى انتكاسة ثورة 23 يوليو 1952، وانتكاسة ثورة 25 يناير 2011، رغم ما بينهما من فوارق كبيرة كانت نتيجة ضرورية لمرور أكثر من نصف قرن بين الثورتين؟

لقد قام بثورة 1952 مجموعة من الضباط الشبان المملوئين حبا للوطن، فعبروا عن آمال الطبقات المغبونة فى مصر، فلاحين وعمالا وطبقة متوسطة صغيرة، ضد طبقة إقطاعية تتمتع بامتيازات دون وجه حق ولكن حدث أن تحول هؤلاء الضباط الشبان، مع مرور خمسة عشر عاما، إلى طبقة جديدة، ورثت امتيازات الاقطاعيين، فاستطعموا حلاوة السلطة والمال، وركنوا إلى الراحة، ولم يستعدوا بالدرجة اللازمة لمواجهة مطامع خارجية. بل إن هذه المطامع الخارجية لا يمكن أن تجد فرصة للنجاح إلا من خلال طبقة تستطعم حلاوة السلطة والمال فتركن إلى الراحة. وهكذا حدثت نكسة 1967.

فى 25 يناير 2011 قامت ثورة أخرى اشتركت فيها كافة الطبقات المغبونة فى مصر، تطالب بحقوقها فى مواجهة نظام ظالم وفاسد، فنجحت نجاحا باهرا فى إسقاط رأس هذا النظام، ولكن الثورة انتكست بعد شهور قليلة فأثارت كل هذا الحزن واليأس. فهل كان سبب الانتكاسة هنا أيضا، إن الذين تسلموا الحكم بعد نجاح الثورة، ينتمون بدورهم إلى طبقة كانت من قبل قد ذاقت حلاوة السلطة والمال فاستطعمتها، فركنت إلى الراحة، أم أن قوى خارجية استفظعت الثورة فعملت كل ما تستطيع عمله لوأدها فأصابتها بهذه النكسة؟ أم أن الحقيقة هنا أيضا أن القوى الخارجية لا يمكن أن تعمل إلا من خلال طبقة حليفة تتفق مصالحها مع مصالح هذه القوى الخارجية؟

* * *

أيا كان التفسير، فهناك حقيقة أخرى لا شك فيها، وهى أن التاريخ المصرى لم ينته فى 5 يونية 1967، كما أنه لا يمكن أن ينتهى فى نوفمبر 2011. ليس هذا فحسب، بل إن كل ما ارتكب من أخطاء وأعمال شريرة لا يمكن أن يمحو الحقيقة الآتية: وهى أن الجيل الجديد من المصريين الذى نحظى به الآن، ولم يكن موجودا أو مؤثرا فى 1967، يحمل إمكانيات جبارة للنهوض والمحاولة من جديد. هل هذا هو ما كان يدور بذهن الشاعر الفذ أحمد فؤاد نجم، عندما كان يخاطب مصر فى قصيدة كتبها فى سجن القناطر فى 1969، أى بعد النكسة الأولى بسنتين، قائلا:

مصر يامّه يا بهية  يامّ طرحة وجلابية

الزمن شاب وانتى شابة        هو رايح وانتى جاية

جاية فوق الصعب ماشية      فات عليكى ليل وميّه

واحتمالك هوّ هوّ    وابتسامتك هىّ هىّ

تضحكى للصبح يصبح        بعد ليلة ومغربية

تطلع الشمس تلاقيكى           معجبانية وصبية

يا بهية؟

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

Rahakmedia - Germany

 

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا