<%@ Language=JavaScript %> عبدالله السناوي حرائق الدم

 

لا

للأحتلال

لا

للخصخصة

لا

للفيدرالية

لا

للعولمة والتبعية

حضارة بلاد الرافدين   

    

                                                

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين                                    

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                            

 

حرائق الدم

 

 

عبدالله السناوي

 

لا تضارع نكبة حرق المجمع العلمي المصري سوى نكبة ثقافية أخرى جرت وقائعها قبل أربعة عقود بحرق دار الأوبرا في مطلع السبعينيات. كان حرق الأوبرا نذيرا بتجريف الثقافة المصرية، وحرق المجمع العلمي - في أحوال فوضى تسببت فيها حمامات الدم في شارع مجلس الشعب- نذيرا آخر بتجريف أخطر وأفدح للذاكرة الوطنية.

خسرنا نحو (192) ألف كتاب ووثيقة وخريطة ومخطوطة، من بينها المخطوطة الأصلية لموسوعة «وصف مصر»، أهم الإنجازات العلمية للحملة الفرنسية.

أحرقت كنوزا ثقافية لا تعوض ولا تقدر بثمن. اعتلت جماعات من البلطجية - بجوار جنود من القوات المسلحة- أسطح مجلس الشعب، وأسطح البنايات المجاورة، ومن بينها المجمع العلمي، وأفلت العيار تماما، وجرت الجريمة المروعة وسط تراشق زجاجات المولوتوف، وهي جريمة لا تسقط بالتقادم، جريمة ضد التاريخ، وجريمة ضد الحضارة، وهي ترادف همجية القتل العشوائي لمتظاهرين سلميين، وهذه جريمة ضد الإنسانية.

أحداث متعارضة تزامنت في مواقيتها.. وأجواء عصبية تنذر بانهيارات أكبر وأفدح.

طغت رائحة الدم المسفوك في شارع مجلس الشعب على أجواء فرز صناديق الاقتراع في الجولة الثانية من الانتخابات النيابية.

لوهلة بدا أن المستقبل المصري معلق على تفاعلات الحوادث وتداعياتها في شارع مجلس الشعب أكثر مما هو معلق على توازنات اللعبة الانتخابية لمقاعد المجلس نفسه.

خالطت أصوات الرصاص الحي ومشاهد الدماء على الإسفلت وقائع فرز الأصوات الانتخابية. المشهد أقرب إلى عرس دم، لا احتفال فيه بالديمقراطية ولا ثقة معه في المستقبل.

بدا في حوادث شارع مجلس الشعب أن دماء أخرى قد تسفك، وأن حوادث مماثلة قد تتكرر.. فهذا الحادث الدموي يشبه في وقائعه وتداعياته موقعة شارع محمد محمود.. اعتصام محدود أعقبه عدوان وحشي على المعتصمين بلا مبرر ولا داعٍ. كان ممكنا ويسيرا في موقعة محمد محمود الاستجابة لمطالب إنسانية ومشروعة من مصابي الثورة، وإنهاء الاعتصام بالوسائل السياسية. وكان ممكنا ويسيرا أيضا في حادث شارع مجلس الشعب تجنب الصدام، وإنهاء الاعتصام بالوسائل السياسية نفسها، وعودة مجلس الوزراء للاجتماع في مقره الرسمي، دون حاجة إلى إزاحة المعتصمين إلى المستشفيات بوجبات «حواوشي فاسدة»، وهي تهمة خطيرة أكدتها أحداث اليوم التالي بالعدوان الهمجي عليهم، وقتل تسعة مواطنين سلميين برصاص نافذ في الصدر والرأس حسب بيانات موثوقة من مستشفي قصر العيني، أحدهم الشيخ «عماد عفت»، وهو شخصية دينية جليلة يتقلد منصبا رفيعا في دار الإفتاء المصرية، ربما يكون قد حضر إلى ميدان النزال للتضامن مع الشباب الغاضب، أو لتخفيض الاحتقان والفصل بين القوات وإعلان هدنة على النمط الذي قام به شيوخ الأزهر في موقعة محمد محمود، وكلها مصطلحات عسكرية لا أزهرية، تسبب في وقائعها المجلس العسكري، وذهب ضحيتها مع الأزهري الجليل شباب من جيل جديد تصور أنه على موعد مع القدر فكان على موعد مع الغدر.

أصيب في عرس الدم مئات المتظاهرين بجروح خطيرة، وضرب عشرات الناشطين السياسيين بقسوة ووحشية. شاهد العالم كله تلك الوقائع الدموية مسجلة بالصوت والصورة.. ولكن بيان «المجلس العسكري» أنكر استخدام العنف أصلا، وهي حالة نكران تخاصم الوقائع المصورة، وتجافي الحقيقة في ميادين النزال. ولا يصح أصلا معالجة الأزمات السياسية بمثل تلك الطرق البدائية، التي وصلت في نكرانها للوقائع المشهودة إلى حد أن رئيس الحكومة الدكتور «كمال الجنزوري» استخدم عبارة: «ما يسمى بالعنف».. كأنه لم يكن هناك عنف، أو شبه عنف، أو شبهة تورط في عنف، بينما العالم كله يرى ويشاهد الصور المشينة.

تضاربت بيانات المجالس الثلاثة «العسكري» و«الوزاري» و«الاستشاري» بصورة تدعو للتساؤل حول مستقبل الأخير وجدوى استمراره، فالمجلسان الأولان في حالة إنكار تام لأي تورط في الأحداث الدموية، بينما الثالث يطالب الأول بوقف العنف والاعتذار.. وهو احتمال مستبعد مع إصرار «العسكري» على أنه لم يستخدم العنف، ولا فكر في استخدام العنف، وأنه معتد عليه، وأن الضحايا قد سقطوا بتدخل طرف ثالث.. وهي نظرية جاهزة لغسل الأيدي من دماء الضحايا، وتكرر استخدامها في موقعتي «ماسبيرو» و«محمد محمود»، وحوادث أخرى أقل دموية، دون أن تضع السلطات الرسمية في كل مرة تستخدم فيها هذه النظرية قبضتها على هذا الطرف الثالث المتهم بمحاولة الوقيعة بين الشعب والجيش، ولم تشر إلى أسماء وجهات بعينها. وهو ما يطرح علامات استفهام وتعجب حول مسار الأحداث وأسبابها الحقيقية.

هناك فرضيتان في تفسير ما جرى في شارع مجلس الشعب. أولاهما، أن هناك سوء أداء فادح وقلة كفاءة باهظة التكاليف في معالجة الأزمات تصورت أن إنهاكا شديدا حل بالمعتصمين، وأن استخدام شيء من القوة يمكن أن يفض الاعتصام بسهولة، وإعادة هيبة الدولة، بما يمكن حكومة الدكتور «الجنزوري» من عقد اجتماعاتها في مبنى مجلس الوزراء.. وهو ما لم يحدث، وتضررت هيبة الدولة بصورة أفدح، وكادت تهوى بين أكوام الطوب والحجارة.

وهكذا تحول حادث عارض لمجموعة من الشباب يلعبون كرة القدم لقتل الوقت في ليلة شتوية أمام خيام الاعتصام إلى موقعة دموية. كان يمكن إعادة الكرة التي سقطت خلف بوابات مجلس الوزراء بسلام، إذا كانت هناك تعليمات تقضي بتجنب الصدام تحت أي ظرف مع المعتصمين، وعدم الاعتداء عليهم ولو باللفظ حسب تأكيدات رئيس الحكومة الذي يقال إنه لديه الصلاحيات التنفيذية لرئيس الجمهورية.. وهي صلاحيات ثبت عمليا أنها خيالات على ورق صدر بها مرسوم بقانون، فالسلطة تتبع القوة.

لم تكن هناك تعليمات لها صفة الإلزام، وجرى استدراج أحد الشبان إلى داخل مجلس الوزراء بدعوى استعادة الكرة، وضرب بقسوة لنحو ساعة كاملة قبل إعادته للمعتصمين الغاضبين.. إنها دعوة صريحة لتبادل العنف لتسويغ فض الاعتصام بالقوة، كأنهم لم يتعلموا شيئا من درس شارع محمد محمود، فالأعداد المحدودة تكاثرت بقوة النداء العام لإنقاذ المعتصمين من السحل والقتل في شارع مجلس الشعب.

وثانيهما، أن ما جرى مقصود لإثارة الفوضى ودفع البلاد إلى سيناريوهات الانقضاض على الديمقراطية. الاتهام هنا موجه للمجلس العسكري، وهو اتهام شائع في الشارع المصري، ومرده الحقيقي أنه لا توجد خريطة طريق للمرحلة الانتقالية تصون الثورة والدولة معا وتقود الخطى إلى الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، غير أن العسكري يوجه الاتهام ذاته إلى طرف ثالث غامض ومجهول.. وهناك واقعة محددة تستحق تقصى حقائقها، فهي كاشفة لما جرى، أو ما قد يجرى في مواجهات تالية. الواقعة شاهد صورها العالم.. أشخاص يعتلون أسطح مجلس الشعب، بعضهم بزى عسكري، يقذفون المتظاهرين الغاضبين بالحجارة.. وكانت المفارقة اللاذعة أن المجلس العسكري أعلن أنه لا صلة له بمن يقفون فوق تلك الأسطح، وأن طرفا ثالثا يدفع للوقيعة بين الجيش وشعبه. وهذه حجة لا يمكن قبولها، فالقبول بها أقرب إلى العته العقلي، فقوات عسكرية تسيطر تماما على المبنى النيابي، والدخول إليه والخروج منه يخضع لإجراءات مشددة، ومن العيب أن يقال إن الذين صعدوا إلى أسطح المبنى وصلوا هكذا دون أن يمروا على تلك الإجراءات الأمنية، كأنهم هبطوا من السماء، والتقط بعضهم ملابس عسكرية ارتدوها أثناء هبوطهم فوق البناية!

كان يمكن لقوات التأمين العسكرية بحكم سيطرتها الكاملة على المبنى أن تقبض على هذه العناصر وتكشف هوياتها الحقيقة، وتسقط مؤامرة الوقيعة بين الشعب والجيش، ولكنها لم تفعل، ولم يتوقف في الوقت نفسه العسكري عن تبنى نظرية الطرف الثالث المجهول. وهذا بذاته دليل إدانة يطرح تساؤلات مقلقة حول مستقبل البلد. وأدت إدارة الأزمة على هذا النحو العشوائي والعنيف، والافتقار إلى الحد الأدنى من المسئولية، إلى حرق المجمع العلمي، وربما تتبعه حرائق أخرى.

لا أحد بوسعه - في هذه الأجواء- أن يجزم بأن السلطة سوف تنتقل إلى جهات مدنية منتخبة بيسر ورشاقة عرض باليه روسي في مسرح البولشوي! فلا المجلس العسكري سوف يسلمها على «ورق سركي» لمكتب الإرشاد، ولا الأخير مستعد لتقبل فكرة الصدام، قد يلوح بأوراقها ولكنه يتحسب نتائجها. والأجواء الانتخابية تلاحقها الطعون والمشاحنات والمخاوف على مستقبل الدولة المدنية بعد صعود الإسلاميين الكبير في صناديق الاقتراع، وهي أجواء تنفي صفة العرس عن الانتخابات، فالانتخابات بلا قواعد دستورية تحكمها قد تفضي إلى مخاطر الانقضاض على نتائجها. وهناك من هو متأهب لمثل هذا الخيار الأخير، الذي قد يشجع عليه ويدفع إليه عبارات وتصرفات منفلتة من بعض السلفيين، كأن توصف جامعة القاهرة درة التاج في النهضة المصرية الحديثة بأنها أنشئت لمحاربة الإسلام والشريعة الإسلامية، أو توهم الانقلاب من تحت قبة البرلمان على الدولة المدنية وإعلان إمارة إسلامية على نمط طالبان!

في حوادث شارع مجلس الشعب تحضر روح التمرد، التي تذكرنا بأنه كانت هناك ثورة دفعت ثمنا باهظا من دماء المصريين لإطاحة رأس النظام السابق، وأن هذه الثورة توشك أن تنتكس وتذهب غنائمها لغير أصحابها، وهذه الروح المتمردة تبقى على جذوة الثورة تحت رماد التجاهل والإقصاء. إنها الثورة إذن لا الصراع على السلطة. إنها الأهداف لا الغنائم، وهذه القوة المعنوية، رغم عبارات كثيرة من الاستخفاف والتهكم على الشباب الغاضب، لها كلمة حاسمة في نهاية الصراع، فلن تستقر السلطة لأحد ما لم توافق القوى الحية في المجتمع على تسلمه أمانة حكم البلاد، والجيل الجديد في قلب القرار المصيري.

في الحوادث الدموية أمام البرلمان يطرح سؤال الشرعية نفسه بإلحاح، فالشرعية الثورية يفترض أنها وحدها التي تحكم المشهد الانتقالي كله، ولكنها أقصيت بقسوة، وصممت خريطة طريق انتقالية طويلة ومجهدة.. أجريت انتخابات، لكنها لن تسفر لشهور طويلة عن معادلات توازن جديدة، فالمجلس النيابي وفق الإعلان الدستوري شبه منزوع الصلاحية حتى نهاية المرحلة الانتقالية.. وهكذا تجد مصر نفسها بلا شرعية ثورية تحمى أهداف ثورتها ولا شرعية دستورية تصون دولتها الحديثة.

في فراغ الشرعية تبدو الحوادث المتدافعة في شارع مجلس الشعب أكثر أهمية من نتائج الانتخابات النيابية.. فالانتخابات بمفردها لا تؤسس لشرعية جديدة. ما يؤسس لهذه الشرعية التوافق الوطني على دستور جديد يحصن الحريات العامة والدولة المدنية ويصون هوية البلد العربية والإسلامية ويحفظ حقوق مواطنيها الأقباط ويضمن العدالة الاجتماعية.. وهذه كلها قضايا اتفاق لا شقاق، وإذا ما جرى الشقاق حولها فإن مشاهد المسرح السياسي مرعبة حقا، وحرائق الدم سوف تجرف في طريقها المستقبل نفسه

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

Rahakmedia - Germany

 

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا