<%@ Language=JavaScript %> سيف دعنا المقاومة في صحافة ابن حليق: ما بعد بعد الوقاحة

   

لا

للأحتلال

لا

للخصخصة

لا

للفيدرالية

لا

للعولمة والتبعية

حضارة بلاد الرافدين   

    

                                              

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين                                    

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                            

 

المقاومة في صحافة ابن حليق: ما بعد بعد الوقاحة

 

 

سيف دعنا

 
«هذا الرجل: يحاول وضع الكرة الأرضية في علبة سعوط سعودية» الشهيد غسان كنفاني «فارس فارس»
 
قبل ثلاث سنوات تقريباً، وأثناء الحرب الصهيونية على غزة، أوْصَتْ تسيبي ليفني، وزيرة خارجية الكيان الصهيوني حينها والمعنية بحكم وظيفتها بقيادة معركة الدعاية لتحسين صورة المستعمرة الصهيونية في فلسطين، بإعادة نشر مقالات عدد من الكتاب «العرب» على الموقع العربي للوزارة، لقيمتها الكبيرة في خدمة السياسة الصهيونية، وكطريقة مثلى لإيصالها إلى الشارع العربي. وهؤلاء الكتبة (بعضهم مدراء لمحطات فضائية كبرى أو رؤساء تحرير بعض كبرى الصحف العربية) الذين أصبحوا أدوات دعاية مجانية للكيان الصهيوني كانوا سلاحاً صهيونياً إضافياً في الحرب الهمجية على غزة. لذلك، فحين يذرفون دموع التماسيح على الدم العربي المراق في سوريا اليوم لتبرير هجومهم على المقاومة، ندعوهم إلى النظر الى أياديهم الملطخة بدماء أطفال غزة وفلسطين. نعم، يوجع القلب ما يحدث في سوريا، ويدمي فعلاً قلب من يحب سوريا وشعبها، لكن من شارك في مجزرة غزة وكان سلاحاً بيد المجرمة ليفني، ولاحقاً الفاشي ليبرمان، ليس في أي موقع أخلاقي ليلقي دروساً على البشر، لا في الأخلاق ولا في السياسة، ويبدو من الوقاحة والقذارة أن يتجرأ من يعمل في جهاز دعاية الكيان الصهيوني على إلقاء الوعظ الأخلاقي على المقاومة التي هزمت الكيان الصهيوني.
وعدا المشاركة الفعالة في مجزرة غزة، يَجْمَع أغلب هؤلاء الكتاب المفضلين لدى وزارة خارجية العدو أيضاً هجومهم المستمر على حزب الله والتزامهم جميعاً بدعاية التشكيك المتواصل في التزامه العربي واللبناني. وهذه الأسطوانة المشروخة (المقاومة عميلة لإيران، يقولون لنا باستمرار) استعرت اليوم بفعل الاشتباك السياسي القائم في المنطقة، وانتقلت بعدما «طق عرق الحياء» لدى البعض الى ما بعد بعد الوقاحة. والحماسة التي يكتبون بها في هجومهم على حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي بسبب التزامهم مشروع المقاومة تدفع القارئ، بعد أن يشد شعره من وقاحة وانحطاط جماعة «عرب من أجل إسرائيل»، إلى التساؤل إن كان مردود هذه المقالات المادي بالذات أكبر من غيره، إذ لا يمكن أن يكون التبرير الحقيقي أنّ من يعمل في صحيفة ممولة من نظام آل سعود وأمثالهم ممن اغتصبوا السلطة بحد السيف في الجزيرة العربية، ويهاجم مقاومة غزة ولبنان في أوج المجزرة حين كان أطفالنا يحرقون بالفوسفور الأبيض في غزة، أو يدفنون تحت الأنقاض في قانا، ويتغزل بالكيان الصهيوني وجيشه، مسكون فعلاً بِهَمِّ العروبة، لكن يبدو أنّ هذا فعلاً معنى العروبة عند بني سعود وآل ثاني وغيرهم ممن لا يرون العالم إلا من منظار المصلحة الصهيونية.
جنود ليفني وليبرمان
المتصفح للموقع العربي لوزارة الخارجية الصهيونية (لا أشجع على ذلك، لأنّها مخصصة للدعاية، إلا لمن يريد أن يتعرف على هؤلاء المستعربين، ويريد أن يرى بنفسه عينة من كتابات هؤلاء المنحطين) سيجد أكثر من مئتي مقالة، وبعضها يعود الى 2004، أي قبل قرار ليفني الخاص بالحرب على غزة بسنوات.
وأغلب المقالات تهاجم (وهذا غير الانتقاد) المقاومة بعنف وتصفها بالإرهاب والإجرام بما يتوافق تماماً مع الموقف الصهيوني الرسمي، وحتى يطالب بعضهم بمحاكمة قادتها بتهم جرائم حرب. فحين كانت المنطقة، وحتى العالم، تهتز لصوت السيد نصر الله: «الآن في عرض البحر، في مقابل بيروت، البارجة الحربية العسكرية الإسرائيلية، التي اعتدت على بنيتنا التحتية وعلى بيوت الناس وعلى المدنيين، انظروا اليها تحترق»، وجد يوسف ناصر السويدان الوقت ليكتب «حسن نصر الله مجرم حرب»، مشبهاً السيد بالنازيين لأنّ «مقاتليه»، كما قال، تسللوا «عبر الخط الأزرق الى داخل دولة اسرائيل المستقلة وذات السيادة والعضو العامل في الامم المتحدة، حيث قتلوا واختطفوا عدداً من الإسرائيليين» (السياسة الكويتية 25 تموز 2006، أعادت نشرها صفحة وزارة الخارجية الصهيونية. التشديد مضاف). ومواقف السويدان الوقحة هذه تجعله ينافس على المراكز المتقدمة في عدد المقالات التي أعاد نشرها موقع الوزارة الصهيونية، منافساً بذلك عبد الرحمن الراشد من الشرق الأوسط (مثلاً، «ثلاث سنوات على النصر، أيّ نصر»، 15 تموز 2009، «لماذا تستنجدون بالعرب قبل أن تسألوهم» 4 تموز 2007)، وطارق الحميد من الشرق الأوسط أيضاً (مثلاً «لذلك حزب الله خطر على لبنان»، 15 تشرين الأول 2009، «انظروا من يدافع عن حزب الله» 20 نيسان 2009، «حماس، هدنة أم حيلة؟» 19 تموز 2009، «حماس والصرف الصحي» 19 نيسان 2010، «دماء غزة مشروع تجاري» 28 كانون الأول 2008، الذي يحمّل فيه حماس مسؤولية الحرب على غزة، لدرجة أنّ وزارة الخارجية الصهيونية تقتبسه مع مقالتين لعبد الله الهدلق وتركي الحمد في ملف «عملية الرصاص المصبوب التي تقوم بها إسرائيل في غزة» المنشور على صفحتها).
ورغم أنّ المنافسة على جائزة المرتبة الاولى محتدمة بشدة بين عبد الله الهدلق صاحب «يا ليتني كنت جندياً إسرائيلياً» (الوطن الكويتية، 11 تموز 2007) وأحمد الجار الله صاحب «حلف الشياطين الإرهابي من لبنان الى اليمن وغزة»، يبقى السويدان، صاحب «الوزيرة ليفني والتساؤل المشروع» الذي يؤكد فيه على تساؤل ليفني البريء والمسكين: «إذا كانت حماس قد تصرفت بهذه القسوة إزاء مواطنيها الفلسطينيين فكيف ستتصرف مع إسرائيل؟» (السياسة الكويتية 24 حزيران 2007) من القليلين الذين حظوا «بشرف» إرفاق مقالاتهم ببيانات وزارة الخارجية الصهيونية على صفحة الوزارة، كما جاء في البيان الصحافي في أعقاب عملية ايلات (29 كانون الثاني 2007)، إذ جاء في قسم «انظر أيضاً» المرافق للبيان وصلة لمقالة السويدي «جريمة ايلات والمهمة العاجلة» جاء فيها:
«بعد العملية الارهابية التي نفذها ارهابيون فلسطينيون في مركز تجاري بمدينة «ايلات» الاسرائيلية، وراح ضحيتها عدد من المدنيين الاسرائيليين بين قتيل وجريح، فإن من العدل والانصاف والمنطق السليم ألا يلام الاسرائيليون اذا ما جاء ردهم عنيفا وسريعاً ومستهدفاً البنية الاساسية لمنظمات العنف والارهاب الفلسطينية، بقياداتها واوكارها ومعسكراتها وسراديبها وانفاقها ومراكز اطلاق صواريخها في قطاع غزة، فمن غير المعقول ان تتخلى دولة اسرائيل عن ممارسة حقها المشروع في الدفاع عن امنها وسيادتها وواجبها في حماية ارواح مواطنيها وسلامتهم وممتلكاتهم تجاه الجرائم الارهابية التي ترتكبها حركتا حماس والجهاد الاسلامي». هذا النموذج من الصحافة الوقحة ونموذج «كتبة للإيجار» ليس جديداً، بل هو استمرار لتقليد قديم بدأ حتى قبل غزو المال النفطي لمؤسسات الإعلام العربي، كما تشير الكتابات العبقرية لعبد الله نديم في «التنكيت والتبكيت»، لكنه استعر بعد تدفق أموال البترول على الصحافة، وتميّز بتركيز الهجوم على المقاومة وشيطنتها بغض النظر عن خلفيتها الايديولوجية. هم يهاجمون المقاومة الإسلامية والعلمانية على حد سواء، وما يصنفونه مقاومة سنية أو شيعية، ولهذا تسقط أسس التحريض المذهبي التي يعملون عليها، وينفضح أساسها السياسي المسكون بالحرص على الكيان الصهيوني (المسح المختصر جداً في الأعلى اكتفى فقط بنماذج لبعض ما تعيد نشره وزارة الخارجية الصهيونية، لأن غير ذلك سيحتاج إلى مجلدات، وهو لا يشمل حفلة شواء لحم المقاومة والمقاومين الهمجية التي استضافتها بعض الصحف العربية في أعقاب خطاب السيد نصر الله الأخير في ذكرى انتصار تموز، التي سأعود إليها في المستقبل القريب).
نظرية علبة السعوط سعودية
عمر حليق، الكاتب في «الحياة البيروتية» في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي هو الأب الشرعي لهذا النموذج الرخيص من الصحافة التي تمولها العائلات الحاكمة في السعودية ودول الخليج، وتعيد نشرها وزارة خارجية العدو الصهيوني، وعنده تحديداً بدأ تقليد شيطنة المقاومة خدمة لسياسات آل سعود وبتمويل منها. لهذا قال عنه الشهيد غسان كنفاني، في توصيف عبقري وفذ لمأجوري المال النفطي من الكتبة والمثقفين والإعلاميين الذي يتضمن ليس فقط العمل بالأجرة، بل والغباء والوقاحة أيضاً: «هذا الرجل: يحاول وضع الكرة الأرضية في علبة سعوط سعودية». وعمر حليق، الذي وبخه كنفاني لوقاحته، لم يكن إلا نموذجاً لأصحاب نظرية حشر العالم في «علبة السعوط السعودية» كما جاء في مقاله له تحمل العنوان نفسه في 28 كانون الثاني 1968. وحليق هذا، أو الشيخ عمر حليق، وفي تسميات اخرى أطلقها عليه الشهيد غسان كنفاني في لحظات السخرية وخفة الظل (كما وصفها صادق العظم) التي طبعت مقالاته النقدية التي كتبها بتوقيع «فارس فارس»، هو أيضاً الدكتور الجنرال «تشان كاي شيك» (رجل أميركا في الصين الذي نظم مجزرة شنغهاي ضد الشيوعيين الصينيين وحارب ماو تسي تونغ)، والدكتور الفورموزي، وأكاكي أكايفتش (البيروقراطي النَسّاخ، بطل قصة نيقولاي غوغول «المعطف») (غسان كنفاني، «فارس فارس»، ص: 52-54. أعادت نشرها أيضاً مجلة الهدف، العدد 1450، 15 أيار 2012، ص: 48). من التسميات السابقة التي أطلقها عليه الشهيد كنفاني، الذي تمر هذه الأيام ذكرى أربعين عاماً على استشهاده، يمكن معرفة أنّ حليق هذا كان كارهاً بشدة لليسار العربي، والماركسي منه تحديداً، وللتيار القومي ممثلاً بالرئيس الراحل جمال عبدالناصر. فهو القائل، كما نقل عنه كنفاني، «إنّ الإشتراكيين وباء يلوث كل أرض العرب»، لكن هذه العبارات بحق اليسار، التي يؤكد لنا كنفاني أنّ قائلها «هو الوحيد بين مفكري العالم (وربما يشاركه في ذلك السلطان شخبوط فقط) الذي لا يجد في الفكر الماركسي أي أهمية، وكذلك لا يرى فيه أي إنجاز إنساني أو فلسفي أو اقتصادي» ليست السبب وراء استحضاره هنا ـــــ فرؤيته لا تعدو حقاً كونها مزيجاً من الخزعبلات الغريبة العجيبة عن مؤامرة يهودية وشيوعية مشتركة تستهدف الإسلام السعودي (كنفاني نقل عنه سبع عبارات فقط وشبّهها استهزاءاً بـ«أعمدة الحكمة السبعة» لتوماس لورانس (المعروف بلورانس العرب)، لكن يبدو أنّه كان على معرفة جيدة بخزعبلات كتبه كما جاء في تعليقه على موقفه من الفكر الماركسي).
الشيخ حليق كان يهاجم المقاومة الفلسطينية المسلحة ويسخر بقوة منها في مقالاته بطريقة قريبة مما نراه اليوم في صحافة آل سعود وأذيالهم. فالفدائيون الفلسطينيون عند حليق هم «مراهقون مدججون بالسلاح». وهذا ليس لأنّه يدافع عن استراتيجية تحرير بديلة طبعاً، أو لأنه من أتباع غاندي «الكافر» لا سمح الله، أو لأن المقاومة الفلسطينية «شيعية الأجندات» و«عميلة لإيران» كما يقولون اليوم، بقدر ما كان دافعه تسخيف الفكرة نفسها لخدمة سياسات آل سعود (طارق الحميد شبّه محور المقاومة «بمربع حمالة الحطب» الشرق الأوسط 14 نيسان، وأعادت نشره وزارة ليبرمان لاحقاً). واللافت، كما لاحظ كنفاني، أنّ دفاعه عن نظام آل سعود وهجومه على الرئيس عبد الناصر والثورة الفلسطينية دفعا بأحقاده لتمتد على كل شيء ثوري «من سبارتاكوس حتى تشي غيفارا».
من الأفغاني الى نصر الله
أغلب الظن أنّ قليلين في أيامنا قرأوا ديوان «سحر هاروت» للشاعر سليم عنحوري وعرفوا أفكاره، وإن لم يكونوا ممن قرأوا شيئاً عن تاريخ الحركة الأدبية في سوريا في القرن التاسع عشر فلربما لم يسمعوا عن الرجل أصلاً. فالبحث حتى عن نسخة أصلية غير مكتملة لتوثيق ترجمته المُشَوَّهة لجمال الدين الأفغاني التي يتضمنها الكتاب، والتي تراجع عنها لاحقاً، مرهق بحد ذاته (يقال إنّه ضُلل من قبل من الشيخ زاهد الكوثري، الذي كان يكره الأفغاني، وتراجع لاحقاً عقب لقاء مع محمد عبده). وأغلب الظن، أيضاً، أن قِلَّة قليلة من الناس اليوم يعرفون شيئاً عن «الشيخ عليش»، وعن اتهامه هو الآخر للأفغاني بالإلحاد في أعقاب محاضرة عبقرية له في دار الفنون في إسطنبول لم يفهمها، كما يبدو، هذا الشيخ وأتباعه. يحتاج المرء الى الكثير من البحث والجهد ليعرف حتى شيئاً قليلاً عن هؤلاء وأفكارهم، أو ليجد نسخة قديمة لشيء كتبوه، لكن، أكثر من قرن مضى على رحيل من وُصِفَ، من ضمن أشياء كثيرة، بـ«موقظ الأمة والشرق» و«باذر بذور الثورة العُرابِيَّة»، وربما ستمر قرون اخرى، ولا يزال، وسيبقى نجم جمال الدين الأفغاني ساطعاً، وسيكون دائماً نقطة بداية لا بد منها ومن العودة اليها لفهم من نحن، وما هو تاريخنا، والى أين نحن ذاهبون وكيف. يتذكر، وسيتذكر الناس وقتاً طويلاً جداً، وبإجلال كبير، من سمي أيضاً «مصلح العقول والنفوس»، صاحب المشروع النهضوي والتحرري ومؤسس العروة الوثقى، السيد جمال الدين الأفغاني، لكن لا يتذكر أحد اليوم، وبالتأكيد لن يتذكر أحد في المستقبل، بعض الذين لم يستطع عقلهم الصغير إدراك القيمة الكبيرة والأهمية التاريخية لمشروع الأفغاني وفكره، فاتهموه بالإلحاد أو شوهوا صورته. ولم يكن الأفغاني، الثائر والمفكر الفذ الذي عاش حياته بحكمة «أمامك الموت، ولا ينجيك الخوف»، كما جاء في آخر رسائله الى محمد عبده، أكبر بكثير من أي يلتفت لهؤلاء الصغار فقط، أو أن يضيع وقته وجهده للرد على «تخاريفهم». فأنداده الحقيقيون كانوا بحجم مشروعه التاريخي وبقيمة شخصه الكبير. ففي الوقت الذي كان فيه بعض صغار العقل من «حشوية» القرن التاسع عشر (من يكتفون بظاهر النصوص ويرددون كلاماً لا يفهمونه) يرون في دعوته للتجديد والإصلاح، وفي فكره النهضوي إلحاداً وانحرافاً عن الإسلام، كان هو مشغولاً بمشروع الإصلاح الديني والسياسي والاجتماعي الذي وضعه كمفكر وثائر في مواجهة حادة مع الإمبراطورية البريطانية، والحكومة المصرية، كما السلطات العثمانية (التي قد تكون اغتالته حسب بعض الروايات) والإيرانية (حيث كانت علاقته وثيقة بانتفاضة التنباك التي قادها الإمام الشيرازي، ضد احتكار الشركات الإنكليزية للتبغ الايراني، كما تشير رسالته الشهيرة الى الإمام). هذا عدا أنّ شخصية الأفغاني وقِيَمَهُ وأفكاره كانت تمنعه من الالتفات والرد على ما يقوله ويفعله حتى من هو أكبر من هؤلاء بكثير، أو أن ينخرط معهم في جدال عقيم غير مثمر. يروي عبد الله نديم، خطيب الثورة العُرابية الفذ، وأحد تلامذة الأفغاني ومريديه المقربين، أنّه لما تمنى عليه ذكر دسائس ووشايات «ابو الهدى الصيادي» بحقه للسلطان العثماني (كان الصيادي، الذي ذكر محمد عبده لاحقاً وصف الأفغاني له بـ«السافل والدنيء»، قد رفع تقريراً للسلطان يصف فيها لقاء الأفغاني والنديم صدفة بالخديوي عباس في أحد حدائق إسطنبول بالمؤامرة على السلطان) رفض وغضب السيد لهذا الاقتراح وقال: «أعوذ بالله أن أكون من المنافقين، أو أن أفعل ما أنكره على الغير، أو أن أكون همازا مَشّاءً بنميم». فهو، كما قال عنه أحمد أمين، «كان يريد الحق غاية، ويريد الحق وسيلة». وبهذا كان الأفغاني أشبه الناس «في سياسته بعلي لا بمعاوية، كانت سياسة معاوية عنوانها «إنّا لا نصل الى الحق إلا بالخوض في كثير من الباطل». أما علي، فلا يريد الخوض في الباطل ليصل الى الحق، بل لا يريد إلا الحق من طريق الحق، وإلّا فلا كان» (زعماء الإصلاح في العصر الحديث، ص: 109).
والهجوم على شخص مؤسس الإصلاح والتجديد الفكري ومحاولة تشويه صورته كانا يستهدفان فكره الإصلاحي ومشروعه النهضوي بالدرجة الاولى. وما لم يعرفه بعض صغار العقل من الذين ظنوا أنّهم يدافعون عن الإسلام، أنّهم في الحقيقة كانوا يخدمون أعداء مشروع الأفغاني المعادي للاستعمار. كانوا يخدمون الاستعمار البريطاني لبلادهم بجهلهم وتخلفهم وهم لا يعلمون. وهذا الهجوم يتشابه في جوهره الى حد بعيد بالهجوم على السيد حسن نصر الله، وعلى مشروع المقاومة، رغم أنّ الهجوم على السيد نصر الله وحزب الله ممول حد الثمالة من اغنى دول المنطقة، وتشرف عليه وتقوم به مؤسسات صحافية دولية الامتداد وفضائيات كبرى.
ويخطئ من يظن أنّ هذه الحملة القذرة مرتبطة بموقف حزب الله مما يحدث في سوريا، بل هي تسبقه بكثير كما يشير المسح المختصر للمقالات التي تعيد نشرها وزارة خارجية الكيان الصهيوني. وهؤلاء هاجموا حزب الله في تموز 2006 حتى قبل صدور بيان الحكومة السعودية الشهير الذي هاجم عملية أسر الجنود الصهاينة. وموقف حزب الله من سوريا يمكن طبعاً مناقشته، ومقاربته من موقع الحزب أو من خارج هذا الموقع والاتفاق أو الاختلاف معه، لكن الاختلاف مع حزب الله في موضوع سوريا يعني لدى مرتزقة الصحافة فرصة ثمينة، كما يظنون، لتشويه كل تاريخ الحزب المقاوم وقلبه رأساً على عقب، ويعني أيضا تأييداً مطلقاً ودعاية مستمرة لمنتسبي أجهزة الاستخبارات الغربية، الذين نصبوا أنفسهم قادة للثورة (انظر شارلي سكلتون، «المعارضة السورية: من الذين يتحدثون». الغارديان 12 تموز 2012. أيضاً، صقر أبو فخر، «العنف وجذوره في سوريا الحديثة»، السفير 21 تموز 2012).
وكما فشل الوقحون في تشويه صورة الأفغاني سيسقط رهانهم على المَسّ بصورة سيد المقاومة. فالسيد نصر الله دخل التاريخ فعلاً كقائد لأول وأهم انتصارين على أبشع وأخطر أعداء الامة، وسيفرد التاريخ له وعنه كتباً ومجلدات تتحدث عن قائد عربي عظيم كسر حدود المذهب والطائفة والدين والقومية. سيذكر التاريخ أنّ السيد نصر الله حمل فلسطين، قضية العرب المركزية، التي احتضن ترابها لسنوات جسد ابنه البكر الشهيد هادي، الذي سقط في الخطوط المتقدمة للمواجهة، في القلب، فيما تخلى عنها من امتطى مأساة شعبها للوصول إلى السلطة. سيذكر التاريخ أنّه ذكر فلسطين في كل خطاب وكلمة له منذ خطاب نعيه للشهيد عباس الموسوي، والأول منذ توليه الأمانة العامة لحزب الله، وحتى خطابه الأخير قبل أيام. سيذكر التاريخ أنّ رؤساءً وملوكاً ومسؤولين عرباً وأجهزة عربية وإعلاماً عربياً رخيصاً حاربوه وهو يحارب العدو، وحاربوه وشنعوا عليه وهو يدعم غزة بأسباب الحياة والصمود والمقاومة، فيما يحاصرها الأخ قبل العدو. سيذكر التاريخ أنّ نصر الله هو القائد العربي الذي قاد في تموز معركة إفشال مشروع عالمي استهدف استعباد كل الأمة بمسمى «الشرق الأوسط الجديد»، تماماً كما تصدى الرئيس الراحل عبد الناصر، الذي تكرهه صحافة الخليج أيضاً، للعدوان الثلاثي على مصر وعلى الأمة العربية.
وحين تُكتب نسخة القرنين العشرين والحادي والعشرين من موسوعة «الأعلام الشرقية» أو «الأعلام العربية» سيكون باب السيد نصر الله فيها، مثل باب جمال عبد الناصر، طويلاً وحافلاً بالكرامة والمجد والعزة والتضحية والطهارة. ستكون ترجمة السيد نصر الله، قائد انتصاري أيار وتموز، كترجمة قائدي معركتي حطين عين جالوت. أما خدم سلاطين النفط و«ملوك الغازات» وكتبتهم وزعرانهم، فقيمتهم وقيمة أسيادهم لن تتساوى، هذا إن ذُكِروا أصلاً، حتى بِشِسْعِ نَعْلِ نصر الله.


*
أستاذ علم الاجتماع والدراسات الدوليّة في جامعة ويسكونسن ـــ بارك سايد
جريدة الاخبار 28/7/2012

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

Rahakmedia - Germany

 

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا