<%@ Language=JavaScript %> نصري الصايغ الربيع العربي ليس شتاء إسلامياً

   

لا

للأحتلال

لا

للخصخصة

لا

للفيدرالية

لا

للعولمة والتبعية

حضارة بلاد الرافدين   

    

                                              

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين                                    

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                            

 

الربيع العربي ليس شتاء إسلامياً

 

 

نصري الصايغ

 

يروي التقليد الديني ما يلي: «خلق الله العالم في ستة أيام، وفي اليوم السابع استراح». هذا يعني، ان الله احتاج إلى وقت قيس بالأيام، واليوم في العرف الالهي اللازمني، قد يكون دهراً أو دهوراً... ويروي التقليد الديني أيضاً ما يلي: «قال الله: كن فكان». وبين «كن وكان»، زمن يفصل بين فعل الأمر وفعل التكوين. ومثل هذا الاجتهاد، سمح لعلماء الكنيسة الحديثين بأن يأخذوا بنظرية التطور، في الزمان المفترض، برعاية الهية، لان فعل الخلق مخصوص بالله، اما فعل التجسد فمن اختصاص الزمن.

أما بعد.

يريد كثيرون ان تنجح الثورات العربية غداً بالتمام. كثيرون أيضاً يريدونها ان تنجح بالأمس، وانها تأخرت. يريدون منها ان تكون قد انجزت ما في الكتب، أو ما في المفاهيم المستستمة في سياقات نظرية... يريدون منها ان تكون قد انتهت من عملية استيلاد الديموقراطية وتطويبها نظاماً مكتمل العناصر والمؤسسات والسلطات. يريدون ان تعبر الثورات العربية إلى الديموقراطية برمشة زمن، وبلا مخاض. كأنهم يترجمون ما جاء في التقليد الديني السلفي: «كن فيكون»، أي مباشرة بعد فعل القول.

جميل ان نتذكر ما قاله بوالو (Boileau): «اللحظة التي أتكلم فيها هي الآن بعيدة عني». يأخذها الزمن إلى الماضي.

عودة إلى البدء: لأن الديموقراطية لم يكتمل نصابها، فإن ما حصل ليس ثورة. وينهض المشككون إلى اظهار عيوب الثــورة، وإلى التدليل على عجزها، وإلى انها قد تكون قد فتحت المنطقة برمتها على المجهول. فها هي تتعثر في تونس، وها هي تتديّن في مصر وتتعـسكر، وها هي تفتح شهية القبائل في ليبيا، وتحرّض القبائل في اليــمن، وتدمر المجتمع السوري. كأن المطلوب لدى البعض، الإبقاء على الاستنقاع الاستبدادي، أو كأن المطلوب، استئجار ثورة مكتملة، لتنصيبها في البلاد العربية.

الله، احتاج الى وقت. ويريدون من الثورة ان تحذف الزمن وتزيل الوقت... وهذا خُلف ومواربة وتلفيق.
تاريخ ولادة الديموقراطيات لم يسجـل في عز شبــابها. مخــاضها كان مديداً، واحتاج إلى اختمار اجتماعي وحاضنة ثقــافية وقوى سياسية وتدرُّج مؤسسي، وانتكاسات كبيرة وانتصارات قلقـة ومغامرات فذة ودماء قادة... كل ديموقراطية قيد التـداول في عـصرنا، لها تاريخ مخاض ومسار انتصار ومحطات انكسار، وفداحــة صــراع. لم تصل إلى ما هي عليه إلا بعد اجتياز اختـبارات مذهلــة... لا ثــورة في التاريخ انتجت نظامها الجـديد من دون المرور في غــمار من الدماء، ولم تصل إلى حال الكفاية والمقبولية والثبات إلا في بداية القرن العشرين.

يريدونها ديموقراطية مكتملة على طريقة «كن فيكون». لذلك نصبّت جماعات السلطة العربية المستبدة، وجماعات السلطات الفكرية المبرمة، وجماعات الانقياء في فكرهم ومبادئهم وطوباويتهم... نصبّت نفسها ديّانا لهذه الثورات العربية، فعابت عليها خلافاتها وتبايناتها وعدم التئامهما، إضافة إلى بروز تدين بعضها وتمذهبه وتخلفه السياسي. ورشقوها بالحرم السياسي.

هذه ثورات لم تكتمل بعد. لكنها ثورات.

هذه ثورات متعددة الاتجاهات والتيارات، لكنها ثورات.

هذه ثورات لم تنتصر بعد وتقيم النظام الديموقراطي، لكنها ثورات.

هذه ثورات قيد الثورة بعد، وهي قيد الصراع، وهي تدفع الأثمان، ولا تتراجع.

يريدونها في كامل عافيتها. وهذا حق لا يدفع الآن، بل يستحق بعد أزمان. الثورات العربية، حتى الآن، حسمت أُم المسائل العربية: «ليس في العرب عيب، ليس فيهم تخلف. ليس في حضارتهم نقص، ليس في دينهم علة. ليس في شعبهم نقص»... حسمت الثورات العربية، انتماء الشعوب العربية إلى الإنسانية. لم يعد العرب استثناء. ما عادوا مستحثات تاريخية. ما عادوا أهل الكهف. ما عادوا قطعاناً يقودهم رعيان بعصيِّهم الأمنية وزبانيتهم السياسية... لقد حسمت الثورات العربية، انها تستطيع ان تتصدى لأقوى آلهة الأرض جميعها: الاستبداد العربي المزمن.

لاضطهاد العربي السلطوي السحيق، الدكتاتورية العربية المستوردة والمدعومة من قوى التخلف الداخلي، والقوى الليبرالية الأجنبية، وعقيدة السوق وقراصنتها، وقوى الحماية الأجنبية.
ثورات عربية، هذه انجازاتها حتى الآن. هي فوق الثورات، بل هي الثورات الحقيقية، بلا منازع...
لقد حسمت هذه الثورات أم المسائل: لا عودة إلى الوراء. لا تراجع عن الحرية، لا راحة لنظام مستبد. لا بقاء لدكتاتوريات... بدء التاريخ العربي الجديد، بل الدولي كذلك، بو عزيزي. بدء التاريخ الـعربي المتداول والحي، معمد بالحرية. والحرية مصرية. من تونس اندلعت وإلى مصر انتقلت، وإلى ليبيا وصلت، إلى اليمن بلغت، وإلى سوريا اخترقت وإلى البحرين استقرت... ولن تقف عند حدود ممـالك ومشيخات وإمارات، حتى لو كانت مدعومة بآلهة الغرب وآياته العسكرية البينات.
المعاينة تعطينا الخبر اليقين والحق الملموس. لقد انتقلت تونس من نظام مؤبد وقيادة ابدية ونظام الحزب الواحد، إلى نظام مفتوح يقبل بالتعدد، والتداول في السلطة، التي يكون مصدرها الشعب، لا الحزب وليس العسكر وليس الغرب. لقد قضت الثورة في تونس على النمط والنموذج الاحادي الذي يلغي الشعب. فها هي قد تعددت في أحزابها وجمعياتها وهيئاتها وأعلامها وقياداتها ومنابرها. لقد فتحت الفضاء التونسي على الحرية، حرية التعبير والاجتماع والتظاهر والترشح والانتخاب.
فهل هذا قليل؟ هل قليل ان تجري انتخابات تأسيسية وطنية، ثم انتخابات رئاسية، ثم تأليف حكومة، ثم حوار ونقاش ونقد ومعارضة. هل هذا قليل؟ هل قليل ما حصل في مصر وانتقالها، لأول مرة، إلى حياة ديموقراطية، وهو أمر غير مسبوق في تاريخها؟ هل قليل ان يحــصل الانتقال بهذا اليسر وهذا الثمن الزهيد (رغم كفاءة الدماء وروعة الشهادة وشجاعة الريادة). بلى، مع حسني مبارك، ذهب النظام. وها هو نظام وليد جديد، يحاول العسكر مسخه. وهذا العسكر، ليس سيداً مطلقاً، يأمر فيطاع. فما زال ميدان التحرير قادراً على محو ما يكتبه العسكر، ببسالة نادرة.
فهل قليل ان يكون الميدان أقوى من النظام؟!

مصر اليوم، لها رئيس منتخب بحق. كما لتونس رئيس منتخب بحق. بينما ملوكنا اغتصبوا السلطات ومن تبقى من الرؤساء اغتصبوها وجعلوها وراثة. ولا تشذ الحالة الليبية عن هذا الهدف. الشعب الليبي بات حراً. انما، يعاب على الثورة انها اخرجت الشياطين من قعـر المجتمع. هي لم تفعل. النظام الاستبدادي اسكن القاع بالشياطين، ووضعهم إلى جانب الملائكة. من حكم شعبه بالقيد والسجن والتعذيب والسحل، وضع الملائكة والشياطين معاً، وترك «غلمانه» وخدمه يرتعون في المجتمع، واشترى لنفسه مثقفين وإعلاميين ليطهروه من نجس التخلف ويخففوا من غلواء التسلط... المثقفون هؤلاء مساحيق الأنظمة الاستبدادية، لا أكثر.

ومن شذ الحالة السورية عن مسار الحرية. الحرية في سوريا آتية، والدكتاتوريات إلى زوال، الحـرية تطرق الأبواب مضــرجة بدمائها. يقظة المجتمعات العربية، فتحت أبواب الكهوف العربية، وأخرجت الناس إلى وضوح الضوء، فبلـغت بها قامة إنسانيتـها. لن تفـضي الأزمة السورية إلى استمرار الدكتاتورية، ان نجا النظام من جحيمه او اكتلة النيران. كل الدلائل تشير إلى ان سوريا المأزومة هـي في طريقها الى حريتها. بأثمان مرتفعة وضـريبة موجعة... الخـطر في سـوريا ليس على النظام، بل على سوريا بذاتها، على مستقبلها كدولة حرة، تتصدى لمسؤولياتها التاريخية والقوميـة بطريقـة أخرى تشـرك الشعب في اتخاذ القرار... لقد بلغت سوريا سن الرشد الديموقراطي، وممانعتها مكلفة وخطرة. انما لا يمكن تصوّر سوريا الغد، من دون الحرية... النظام يدافع عن نفسه بكل ما اوتي من قبضة وأوراق سياسية قوية. وإذا استقر على هذه القوة، (وهو صعب التصوّر بسبب الاخفاقات المتواترة في بلوغ الحسم)، فإنه مضطر الى ان يعيد تركيب سلطة على قاعدة المزيد من الحرية... وإذا هزمت المعارضة(!) فلن تهزم معها الحرية بالكامل. أما اذا هزم النظام، ولم تدخل سوريا في حروب اهلية، ولم تستدرج الآخرين لحروب إقليمية، فإن سوريا ستكون ديموقراطية، بلا ادنى شك.

الشكوك بهذا التصوّر كثيرة ومشروعة، بسبب الخطر الذي بلغته سوريا. انها على الحافة في كل ما يؤول الصراع في الداخل والصراع عليها... والانتظار المقلق سيد الأيام والشهور المقبلة... انما، لا مفر من الحرية.

الثورات العربية بألف خير، إذا قسناها على الماضي.

الثورات العربية في ألف خطر، إذا قسناها على المستقبل.

أمام الثورة، خطر سوء استعمال الحرية. او جعلها أنصافا موزعة، او مصادرتها باسم دين او عقيدة او مذهب او حزب... أيّ مبدأ يتقدم على الحرية طعن بها. حتى الدين لا يحق له ان يتقدم عليها. النظام الديموقراطي أساسه الحرية، لا الدين. أساسه العدالة لا التمذهب، أساسه الكرامة لا الحسنة والذمية... او الرفق بالطوائف والأقليات.

الحرية في خطر، والديموقراطية في خطر، إذا اصبحت بضاعة العسكر. العسكر لا يؤتمن على الحرية. لا يؤتمن على السياسة، لا يؤتمن على الاقتصاد... العسكر يؤتمن عندما يكون عسكريا فقط، تحت السلطة السياسية.

الحرية في خطر، إذا توهم البعض أن حرية الأكثريات الدينية، حق مكتسب. وهي احدى دعائم الممارسة الديموقراطية. الحرية تقاس بالسياسة والاجتماع لا بالقوى الدينية... الأكثريات الدينية ليست تملك الحق الحصري في تمثيل هذه الأكثرية... الديموقراطية تقوم على الاختيار الحر، وليس على الوراثة. الملك لا يورث. السلطة لا تورث، المواطنة كذلك لا تورث.

أخيراً، يعيبون على السلطة إسلاميتها. إسلامية السلطة الآن، ليست عيباً، إسلاميتها غدا ستكون عيباً كبيراً. والأمل كبير، بأن تعي القوى الإسلامية حدودها. هي الآن، تظهر كأنها تهرب من ان تحكم وحدها، برغم ما لها من شرعية انتخابية. لأنها تدرك ان شرعية قبولها، غير مكتملة بسبب نصابها الديني. خطر الإسلامية ليس في هوية السلطة، بل في توظيف الدين ليكون مصنعا للاتباع.

الأمل، ان المساس بالحرية ممتنع، لأنها محروسة بقوى مؤمـنة بها. وبما ان الحرية مستقرة، فليس امام القوى العلمانية الليـبرالية والقومية واليسارية، غير خوض غمار السياسة بالحجة والثقافة والفكر والاعلام، لاحداث النقلة النوعية، باتجاه الديموقراطية المبنية على المواطنة.
الأمل، في ان الإسلاميين، لن ينجوا من فلسطين، ستعود إليهم ويعودون إليها. لا مفر من ذلك... «فلسطين وراك والزمن طويل».

أخيراً، ان العيش في نظام إسلامي، جاء بالانتخاب الحر، ويحترم الحرية التي امنت له الفوز، افضل من العيش ألف مرة، في نظام علماني جاء بقوة العسكر.

لا خوف من الثورات، ولا خوف عليها... كل الخوف من الاستبداد، ومن القوى الغربية التي جعلت شغلها الشاغل، حرف الثورة عن الحرية وإغراقها في مشاريع تفتيت وتغييب ونفي.
تستحق مصر التهنئة بعد تونس.

وتستحق الشعوب العربية ان تحتفل ذات يوم، بما حصل في تونس، وبما سيحصل عندها.
الربيع العربي، برغم العواصف، ليس شتاء إسلامياً.

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

Rahakmedia - Germany

 

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا