عرض " لا أحد يطرق بابي" لفاروق صبري:
بشاعة الحرب ووحشة الغربة
د. أمين المظفر
على صالة
Howick Little Theatre
عرضت مسرحية " لا أحد يطرق بابي " من تأليف الشاعر العراقي عبدالررزاق
الربيعي واخراج وتمثيل الفنان فاروق صبري والذي قدم للربيعي قبل أربع
سنوات نصاً منودرامياً أخر بعنوان " امراء الجحيم " و في هذا العرض
-وهو منودراما أيضاً– "
نشاهد مثقفا عراقيا يعيش غربته في المنافي ويهيمن عليه
احساس لامبالاة مرير تجاه ما يحدث ، وسر هذا الاحساس يكشف عنه خلال
سرده المبكي المضحك لمجريات حياته
أو جوانب منها حينما كان في وطنه العراق وما تعرض له من
ظروف قاسية ومريرة لم يكن له أي دور في التصدي لها أو التخفيف منها
لذلك بدأت غربته وهو داخل الوطن و تعمقت كجرح قديم ينزف القهر والدم
والألم وهو يعيش وحيداً بين كتبه وذكرياته وهاربا من سماع أو رؤية ما
يحدث في الوطن من ويلات وخراب وموت ، نعم يهرب صوب جرعات الخمر خاصة في
هذه الساعة- وهي زمن العرض والحدث- المتبقية من عمر عام يمضي لياتي
عام آخر " ....
ما ان تدخل إلى فضاء المسرح حتى ينتابك احساس غريب ،
تتصاعد دقات قلبك فجأة ثم تختفي نهائياً وأنت ترى الدهشة والحزن على
وجوه الحاضرين الذين يلاقون انفسهم بين حيطان خشبة مسرح لبست ثوب
الحداد ، المسرح كله حالك السواد، من سقفه تتدلى خرق سوداء مزقتها هموم
الدهر ، طاولة في يسار المسرح داكنة اللون لحد العتمة وحتى المايكرفون
والالات الموسيقية توحي بالسواد لكثرة ترانيم الحزن التي رددتها، الكتب
المبعثرة في كل ركن وزاوية تشكو حمل صاحبها ، قناني العرق متناثرة في
كل مكان ، كلها تحكي قصة شعب عانى من ظروف الحرمان والقمع
والحروب....... من بين كل هذا يخترق العتمة خط رفيع من نور وكأن
المخرج أراد به أملاً لبزوخ نور
الغد!!
كتب الشاعر عبدالرزاق الربيعي هذا النص بعد الحروب
المتلاحقة التي ابتلى بها العراق منذ أوائل ثمانينات القرن الماضي ،
وبعد الدمار الذي لحق بالعراق وتردي معنويات الفرد العراقي لخوضه
حروباً لا ناقة لهٍ فيها ولا جمل ولقد عكس العرض نصاّ واخراجاً فضاعة
الحروب وقبح منظريها بفنية متميزة، حيث نشاهد تمحور أحداث المسرحية حول
حالة التمزق واليأس التي يعيشها مثقف عراقي ، حالة عبأتها حروب أكثر من
عقدين من الزمن ، وهنا نرى هذا المثقف يحاول جاهداً ، دون جدوى لملمة
شتات أفكاره المبعثرة ليجيب على سؤال وجهه أحد الصحفيين اليه في
الساعات الأخيرة من ليلة نهاية السنة: هل أنت راض كل الرضا عن مستوى
أدائك هذا العام؟.......
خلقت حالة اليأس لعمر أدمته مشاهد الحروب وغربة ووحشة
المنافي ورتابة حياته اليومية ، خلقت وقائع لا يرى فيها " المثقف" في
يومه سوى" امتداد لاخطاء أمسه" ولذلك صار يتبجح كثيراً بحشر أقوال مهمة
مأثورة وقصائد لمشاهير تاريخية مثل عنترة بن شداد والجاحظ وبودلير
وشكسبيروحتى روجيه غارودي وغيرهم..
لقد أفلح الممثل بتغيير نبرات صوته واكسسواراته بشكل
خاطف للتعبير عن الشخصية ذات العلاقة ولتجسيد المحاكاة مع المشاهد وذلك
لمقتضيات تتطلبها أدوات واسلوبية المونودراما ، لينقلنا بالتالي
بانسيابية وهدوء إلى عالم هذا المثقف المتشبث والمتشبه بمشاهير العصور
، محاولا رفع معنوياته المنهارة!!؟
وأظهر المخرج قدرة متميزة على توظيف الموسيقى والاضاءة
وتحولاتهما الدقيقة في الزمان والمكان لمرافقة العرض بشكل حاز على
اعجاب الجمهور رغم تسارع الاحداث و تعقيداتها ، ففي العرض نرى تغييرات
مستمرة في الحركة والموقع وكان لمقاطع من الاغاني حضور موفق ، وكذلك
أصوات الطبول ألحسينية مرافقاً لها مشهد نرى فيه الممثل وهو يحمل شجرة
من الشموع . كما وكان لمقاطع من الاغاني التي غناها الممثل فاروق صبري
باللغة العربية والكردية والتركمانية وقع خاص بين الجمهور .
إن كل مشهد من مشاهد المسرحية يستحق النقد والتحليل دون
استثناء ، ولكني وجدت أنه لايمكن المرور دون وقفة تأمل عند مشهد واحد
كاد يبكي حتى الاجانب من جمهور الحاضرين رغم عدم فهمهم للغة العرض
العربية ونحن نرى اماً ثكلى " أي الممثل" تهدهد طفلها بصوت حزين رخيم :
دللّو يلولد يا ابني دللّلول ...."" لينام بسلام بعيداً عن أعين
المتربصين من سماسرة الحرب.
وكان من بين الحاضرين السيدة
Alison Mudford
مديرة مسرح هويك الصغير اذ تحدثت عن تأثرها ببعض مشاهد العرض وتمكن
الممثل من اداء تلك الادوار المختلفة وتسالت عن امكانية ترجمة النص إلى
الانكليزية ليتم عرضه للجمهور النيوزلندي.
لقد نجح المخرج في تجسيد صور الحروب التي عاشها العراق
في ابعاد ثلاث ، الشاشة ، الايماءة الحركية ، المؤثرات الصوتية فبعد
الطبول الحسينية تأتينا أصوات المعارك كخلفية للاغنية السيئة الصيت (
احنا مشينا .. مشينا للحرب..) التي تحث الجندي للاندفاع نحو الموت وفي
المقابل تظهر على الشاشة صورة لوجه جندي محترق فيما نرى فاروق |الجندي
القادم من الحرب يخرج فجأة من خلف الشاشة ، حافياً، بائساً ، منهكاً،
مستسلماً وبسطال عسكري معلق على رقبته وهو يلوّح بقطعة قماش بيضاء ،
قطعة بيضاء تجسم السواد بعينه.
أراد المخرج الفنان فاروق صبري " ولربما أيضاً المؤلف
الربيعي" أن يضفي على المسرحية بعضاً من مسحة فكاهة في مواقع عدّة ،
وذلك عندما نرى على الشاشة الممثل فاروق وهو يتعرض لرشقات ماء من كل
صوب في أكثر من مناسبة كان ذلك بغية اخراج الجمهور ولو لبضع من الزمن
من تداعيات هوة الحرب وما بعدها . ولكن تأثير عمق الحرب في جميع أبعاد
المسرحية كان قوياً مؤثراً ، فأبقى هذه المحاولات معزولة بحيث لم ترتق
الى المستوى المنشود.
وفي نهاية العرض تظهر الشاشة صوراً لشخصيات سياسية
وكأنها دعايات انتخابية، ينظر اليها الممثل بإشمئزاز ، تستفزه الصور ،
تحرك كوامنه الفكرية وبالإيماءة يعلن رفضه لها اي للصور الانتخابية
ويرميها بقناني العرق الفارغة و يديرظهره اليها موقداً الشموع
ومتوجهاً صوب جمهور الحاضرين.
وأثناء العرض شاهدنا " خروقات مسرحية" جميلة أكثر من
مرّة في نقلات نوعية موفقة يخاطب فاروق فيها الجمهور مشتكياً من برودة
الماء مرة ومن كرهه للظلام مرة اخرى.
بعد انهاء العرض علق أحد الاصدقاء الحاضرين متسائلاً :
كيف استطاع الممثل فاروق أن يحفظ كل هذا الكم من النصوص (دون مساعدة
الملقن) لجميع هذه الادوار ( حوالي 14 شخصية) ولمدة 45 دقيقة متماشياً
وبتنسيق رائع مع حاجة الموقع على الخشبة وزمن الاضاءة لحد الثانية !!!؟