<%@ Language=JavaScript %> محمد الهجابي نص قصصي هو آخرُ الأسماءِ!

   

لا

للأحتلال

لا

للخصخصة

لا

للفيدرالية

لا

للعولمة والتبعية

حضارة بلاد الرافدين   

    

                                              

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين                                    

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                            

 

 

هو آخرُ الأسماءِ!

 

 

نص قصصي للكاتب

  محمد الهجابي

 

 

 

صاحبُه الماركسي ذهبَ إلى الحجّ. لم يذهب إلى موسكو، ليس بيعتوي كي يذهبَ. ولم يذهب إلى بكين، ليس ماوياً. ولم يذهب إلى هافانا، لا يؤمنُ بحروب الغوار والعصابات والأنصار. ربّما كان ذلك سيحدثُ قبل سنوات. الآن، أمورٌ عديدة تبدّلت. مجرّد التفكير في الموضوع أضحى غير ممكنٍ. صاحبُه ذهب، بالأحرى، إلى مكّة. قال أنا منْ هذه الملّة الواسعة المختارة، وطار إلى السعودية. ثمّ عاد حاجّاً. وزيّن مكتبته بمجلّدات خضراء تفوحُ منها رائحة التفسير والحديث والأصول والفقه. السي محمد زاره لمرّتين بمنزله، وحكى لي. بعد هذا الذي حصل، حار السي محمد في كيف ينادي صاحبَه. الرفيق الحاجّ؟ الحاجّ فقط، منْ غير رفيق؟ الرفيق، ويتجاهل نعت الحاجّ؟ حقاً، حار السي محمد في كيف يسمي صاحبه.

هو صادفه بمعرض الكتاب بالدار البيضاء. ورآه يقبضُ على أكياس بلاستيك؛ أكياس دغمت بشارات دور نشر وعلاماتها. ومنْ هذه الأكياس استطاع أنْ يلتقطَ عناوين مجلدات. لكنّ صاحبه لم يتردّد، فيما هما يجلسان إلى طاولة مقهى بالمعرض، هو يشرب فنجان قهوته وصاحبه يشرب براد شايه، منَ الكشف عنْ محتويات الأكياس. تلكأَ السي محمد عن التعليق، في حينه، على العناوين ومؤلفيها. فعلَ محاذراً إحراج صاحبه. بيد أنّ هذا الأخير لم يجد في الأمر ما يجعله يتحرّج في استعراض بضاعته على قدرٍ ظاهرٍ منَ الانتشاء. ألجمَ المشهدُ لسان السي محمد، بينما هو يتابعُ حركة يدي صاحبه. ظلّت اليدان تمسحان على أغلفة الكتب بتحنانٍ، تماماً مثلما كانت تصنعان بمجلدات حمراء قبل هذا التاريخ بعقودٍ خلت.

وخطَ الشيبُ شعر رأس صاحبه. في الواقع، رقّطه بشعيرات بيضاء في الفوذين، فيما لا يزالُ يحتفظُ معظم الشعر بسواده إلاّ منْ بداية تصحّر في القنّة. ثمّ إنّ جسمه بدُنَ قليلاً. وباتَ يستعينُ بنظارة طبية لاستجلاء الحروف. لم يكن ملتحياً. لكنّه قبل هذا التاريخ بكثيرٍ، كان يضعُ عثنوناً، كما لينين، كما العمّ هُو، وكما العديد من رموز الثورة وقاداتها في كلّ مكان. ساعتها، كان يحسبُ نفسه "أب الماركسيين" بفرعه الحزبي بلا منازع. لا يكادُ يتركُ تدخلاً له دون أنْ يستحضرَ قولةً أو أكثرَ منْ "ما العمل؟" أو منْ "خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء"، يحفظُها عنْ ظهر قلبٍ. ولا يني يكرّرُ فقرةً لوحدها منَ "البيان الشيوعي"، وكأنّه لا يعرف غيرها: «إن تاريخ أي مجتمع حتى الآن، ليس سوى تاريخ صراع طبقات. حر وعبد، نبيل وعامي، بارون وقن، معلم وصانع. وبكلمة ظالمون ومظلومون، في تعارض دائم، خاضوا حربا متواصلة، تارة معلنة وتارة مستترة، حربا كانت تنتهي في كل مرة إما بتحول ثوري للمجتمع كله، وإما بهلاك كلتا الطبقتين المتصارعتين». ويحلو له أنْ يردّد هذه الفقرة بالذات في مناسبةٍ ومنْ دونها.

والظاهرُ، أنّ السي محمد لم يلتق بصاحبه منذ ثمانينات القرن العشرين. لعلّ آخر صلة بيْن الرجلين كانت في أواخر الثمانينات. يستطيعُ السي محمد أنْ يعيّنَ بالضبط تاريخ آخر لقاءٍ لهما، 1989؛ السنة التي هزّت العالم الاشتراكي منْ أساسه.

أنا صادفتُ السي محمد برواقٍ. كنتُ أبحثُ عنْ روايات. والسي محمد يقلبُ في كتب السرديات. لم أقابله وجهاً لوجه. لمحتُه منْ قذاله، ففكّرتُ على الفور فيه. العنقُ ذاته مغروزٌ كبطيخة بين الكتفيْن العريضيْن. وعندما لكزتُه، دار على محوره نصف دورةٍ، يستعلمُ الفاعلَ. وما الفاعل سوى أنا. لفيني قدّامه، والابتسامة الواسعة تحتلّ جماع فمي. في العادة، كلّما واجهتُ الرجلَ أبتسمُ. تأتيني الابتسامة تلقائياً. لا أتعمّدُها. أبتسمُ، وقد أدخلُ في نوبة ضحك. أجدُني مستغرقاً في الضحك، حتى وأنا لا أتغيّاه. أقولُ إنّ في مرأى الرجل ما يدفعني إلى الضحك. أراه، فأرى تاريخاً كاملاً مشتركاً. لكن أرى، قبل ذلك، صنائعَ جمّة للرجل تحرّضُ على الضحك. ليس هذا مكان سرد بعض منْها. ربّما تركتُه لسردٍ طويل. رواية مثلاً؟ ولم لا؟ هذه المرّة، شاهدتُ صعقةَ المفاجأة تأخذُ بكيانه كلّه. الواردُ في لقاءاتنا أنّه يردّ على ضحكتي بضحكة مماثلة، بينما هو يتلقّفني في حضنه. نتحاضنُ ونحن نتخابطُ على الأكتاف. في هذا اللقاء خالف السي محمد العادة. تعيّنني مليّاً كما لو كان لا يصدّق عينيْه. كيف أكونُ أنا هو الواقفُ قدّامه؟ بعد هذه السنوات الطويلة، أفهمُ صعقتَه. أنا الآخر، لم أكن أنتظرُ هذا اللقاء. لم أكنْ أحسبُ له. بيد أنّني لم أتفاجأ. أو على الأقل لم أندهش. كأنّني كنتُ أقدّر أنْ ألتقي به، ولا أقدّره في الآن نفسه. أحتملُ، ولا أحتملُ. لم يُدِم النظرَ في وجهي طويلاً، فهبّ يعانقني، ويرسلُ ضحكاته المتقافزة تلك. يضحكُ هو، فأتخيّلُ، منْ جهتي، كرةً منْ جلد تنطّ. ما علاقة الضحك بالكرة؟

السي محمد لم يتغيّر. بلى تغيّرَ. لم يعد شاباً. لم نعد شباناً. كنّا كذلك، ولم نصرْ الساعة. اكتهلنا. فعلَ مكرُ الزمن فعلَه فينا. البياضُ دهمَ رأسي، فيما تصلّع هو. لم أرَ صلعته. كان يخفيها ببيريه أسود. غير أنّه منَ السهل تخمين ما تخفيه هذه البيريه. ثمّة صلعة بارقة منْ تحتها. فقط، ونحن نتجالسُ بالمقهى، كشف الرجل عنْ صلعته. وعلّق عليها، بينما هو يمرّرُ عليها كفّ يده. قال إنّها صلعة العلماء. علّق، وهو يقذفُ منْ جوفه ضحكة كروية مديدة. لكنّ السي محمد لم يعلّق فحسب، وإنّما حكى. سألني عمّا إذا كنتُ لا أزالُ أتذكّرُ صاحبه الماركسي. ثمّ تداركَ، وصحّح نعت الماركسي بنعت الماركسي_اللينيني. وحكاية النّعت هذا كان السي محمد يؤجّلُ إطلاعي عليها. يكتفي بالقول إنّ للنّعتيْن حكايةٌ، ويسكتُ. أُلحّ أنا عليه، فلا يستجيب. لم يقص عليّ خبر النّعتيْن، بيد أنّه حكى لي قصة حجّ صاحبه. وأسهبَ في كيف فاخره، أثناءما كان جالسيْن بهذه المقهى قبل قليلٍ، بحمولة أكياس البلاستيك. أنهى السي محمد القصّ، وصرّح بأنّ صاحبه هذا تخوْنجَ. لم أضربْ على جبهتي بكفّ يدي كما كنتُ أصنعُ متى صدمني موقفٌ، أو استعصى عليّ الفهمُ. أعلمتُ السي محمد بأنّ العديد منْ رفاقنا فعلوا، فصادقني الرّأيَ. ورحنا نعدّدُ في الأسماء. رفيقاتٌ تخونجنَ وتحجّبنَ، ورفاقٌ تخونجوا وتكوسجوا. كانوا ماركسيين، بل قلْ كانوا ماركسيين_لينينيين. اليوم، لم يعودوا كذلك. أشياءٌ كثيرةٌ تبدّلت. ما الذي تبدّل؟ سقط المعسكر الاشتراكي. هذا لا يكفي. ظهر حزب الله بلبنان، منْ حيثُ اختفت منظمة العمل الشيوعي. هذا لا يكفي أيضاً. استأسدت أنظمة الاستبداد والتوتاليتارية في الخارطة العربية. وهذا لا يكفي لتبرير ما جرى. ما الذي تغيّر؟ وفي المختصر، الذي حدث، يا رفيقي، هو أنّنا عجزنا عنْ خلقِ حلمٍ جماعي جديدٍ عبرَ تفكير أنواري جديد يناسبُ روح العصر الحديث.

حقاً، تغيّر السي محمد. الآن، أُقرّ بأنّ الرجل تغيّرَ على أكثر منْ صعيدٍ. لم يكتهل، ولم يتصلّع فحسب. هناك نظرٌ مغايرٌ، به يصرفُ السي محمد رأيه في قضايا السياسة. في زيارتي له إلى منزله وقفتُ على هذا التبدّل الذي جدّ لدى صديقي. أغلبُ الكتب التي تغمرُ رفوف مكتبته ينتمي إلى صنف الدراسات في السرد والسيميائيات والنقد بالفرنسية والعربية. لا زال يحتفظُ بكتبٍ في الماركسية. لكنّها قليلة قياساً إلى سابق عهده بها. لكأنّ الرجل تخلّص منْ إرثٍ. وأنا أستعرضُ رفوفَ مكتبته، أخبرتُه في كيف أوقفَ صديقٌ لنا مكتبته على السينما لا غير، حتّى أنّني عثرتُ على الكتب التي تخلّص منها عند باعة الكتب المستعملة، وفي الجوطيات، والأرصفة أحياناً.

صديقي السي محمد لم يجارني في الحديث عنِ الكتب؛ الحديثُ الذي ظلّ أحد هواياتي المفضّلة. حول صينية شايٍ منعنعٍ، فصّلَ في الكلام عنْ صاحبه الماركسي. قالَ إنّه حجّ، ودجّج خزانة الدار بالمجلدات الخضراء، ولبسَ خرقة الورع، وأشعلَ العودَ، وصار يصرفُ بأصابعه خرزات السبحة، فيما هو يستغفرُ. وفي المعرض بالدار البيضاء، تقدّر له أنّ الرجلَ فعلاً أجرى تلك اللّفة العجيبة بزاوية 180 درجة. ولم يعلّق بكثيرٍ، إذْ قرّر أنّ الواقع ينطق وحده بما هو عليه. لكن، بالمقابل، حار في كيف يندهُ صاحبه بعد اليوم. بماذا ينعتُه. الرفيق الحاجّ؟ الحاجّ؟ الحاجّ الرفيق؟ الرفيق؟ لا حاجّ ولا رفيق؟

ألتقي صديقي السي محمد، فأجدني مجبراً على تحاشي الكلام عنْ صاحبه، كما عنْ أصحاب له. أرى الحيرةَ فارزةً في عينيه كلمّا أخذه الحنينُ إلى تلك الأيّام، وراح يستعرضُ أسماءَ رفاقه.

 

دجنبر 2011

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا