<%@ Language=JavaScript %> محمد الهجابي زيّا، إذ فعلَتْها    نص قصصي

   

لا

للأحتلال

لا

للخصخصة

لا

للفيدرالية

لا

للعولمة والتبعية

حضارة بلاد الرافدين   

    

                                              

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين                                    

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                            

 

 زيّا، إذ فعلَتْها

 

 

   نص قصصي للكاتب

 محمد الهجابي

 

 

 

 

هايفونغ، اسمُ المطعم. المطعم يقعُ بشارع محمد الديوري، جهة الجنوب. وبدقةٍ، في الاتجاه الذي يُؤدّي إلى النهر. بيْن مقهى "المباركة" و"زنزبار" يوجدُ المطعم. قالت إنْ بحثتُ عنها سأعثرُ عليها بالمطعم إيّاه. تشتغلُ بالمطعم أثناء عطلةِ الأسبوع، فيما تُنفق باقي الأيّام بيْن الدراسة بالجامعة وزيارة الأهل بسيدي يحيى الغرب. هي لا تقصدُ المركز بالذات، بلْ الأرباض. قد أجدُها بالمطعم، وإنْ تعذّر فعَليّ انتظار أوبَتها. متى تعود؟ لا تمنحُ حواباً.

نظرتْ إليّ بعينيْن لوزيتيْن، وكشفتْ عن أسنانٍ بيضاء ناصعة في ابتسامة رائقة، ثمّ أدبرت، لتختفي، بعدَ حينٍ، داخلَ بهْو محطة القطار. أذكرُ أنّها، قبل أنْ تتوارى عنْ ناظري، التفتت نحْوي، وأشارت بيدها. ولربّما تلفظّت بكلامٍ. لمْ يكنْ بمقدوري، منَ المكان الذي كنتُ فيه، أنْ أتبيّنَ فحْوى حركتها. حركّت اليدَ، وغاصت وسط الحشْد. لكنّني، مع ذلك، أزعمُ أنّها أفضت بشيءٍ. قد تكونُ قالت: "إلـى اللقاء حبيبـي"، أو "احتفظ بروحك المرحة حتّى نلتقي"، ولعلّها قالتْ باختصارٍ: "أحبّك!". أزعمُ ذلك دون أنْ أعربَه. المسألةُ ترتبط بتأويل شخصي فحسبُ.

وأنا أتأمّلُ عجيزتَها الزنبورية، بينما هي تتدلدَلُ صوب محطةِ القطار، كزّزتُ بأسناني على شفتي السفلى بقوّةٍ حتّى تألمتُ. بالواقع، ندمتُ إذْ لمْ أستجرأْ فأدعوها إلى قضاء ليلة أخرى في ضيافتي. فوتتُ النهزةَ، وخنتُ ما كان يطرق خيالي كلّما كانت هي بحذائي. أنظرُ إلى شفتيْها الممتلئتيْن النديّتيْن، فأُحسّني أتحلّبُ بالشهوة الفادحة. هذه المرأةُ أتشهاها بلا انقطاعٍ. ثمّةَ رائحةٌ باذخةٌ، نفاذةٌ، تعبقُ بها خصلات شعرها الفاحم، المعقوص. بيْد أنّها، الآن، وقد انفلتتْ منْ بيْن يديّ، وجدتني أشيعها ببصرٍ حسيرٍ، وأشتُمُني كما لم أشتُمْني منْ قبلُ.

بالحقيقة، ليس الأمر هكذا تماماً. فأنْ أقعَ في سحر أنثى، أريدُها على هذا النحْو، شيءٌ لا يحدثُ لي كيفما صادف، وإنّما هو منْ باب تحقيق ما لا يخطرُ على البال بسهولةٍ. لذلك تَراني ، أمام هذا الضرب منَ النساء، أظهرُ قوّةً ورجولةً منْ حيث أبطنُ ضعفاً وخوفاً. وإذن، أفهَمُني لمَ لمْ ألح عليها بالمبيت لأيام أُخر. لا بدّ أنْ يكونَ الوميضُ الذي ينُزّ من عينيْها يكشفُ عن هذه الرغبة العارمة. لكن كيف رغبتُ عنها وأعرضتُ. أقولُ هذا فيما حالي كحال الذي يُمسكُ بيْن يديْه كأسَ زجاج، هو منَ الرهافة، بحيثُ يخشى عليه منْ أي حركة زائغة قد تحيلُه إلى هشيم!

شَغّلْتُ المحرك، وانصرفتُ لا ألوي على شيء. في سبيلي إلى البار تصورتُها تستدعيني بينما لسانُ حالها يقولُ: أيّ الرجال أكونُ؟

استويتُ فوق معقد ذي قوائم طويلة لصقَ الكونطوار. كان حميد قد سَبقني يغازل كأس "ريكار"، ويدخّنُ. طلبتُ بيرة، وقذفتُ الدخان بقوّة. مال حميد إليّ بوجهه الإهليلجي، وكشّر عن أسنانه، ثمّ سألَ: ما بكَ؟ لمْ أحر رداً. اكتفيتُ بإفراغ كأس البيرة في حلقومي، وطلبتُ بيرةً أخرى. أعاد السؤال، فلم أنبَس. امتدّ الصمت بيننا لحظاتٍ. كان صمتاً ثقيلاً، خلْته، لوقتٍ، أنّه قد لا ينتهي. كان البار قد بدأ يستقبلُ زبناءَه من الموظفين الخارجين، للتّو، من مؤسساتهم الإدارية. أخذَ لغطُ الوافدينَ يرتفعُ رويْداً رويداً. كان القومُ يتنابزون. ويتضاحكون بأصواتٍ عاليةٍ، ويتنادوْن كأنّما همْ من جذْمٍ واحدٍ. كنتُ منكفئاً على الكأس أكرعُ، وأمُجّ السيجارة. راحَ حميد، إذْ لمَس منّي هذا الارتداد، يشربُ، ويسفّ سيجارتَه دون أنْ يكفّ عن الالتفات، ذات اليمين وذات الشمال، كما لو كان يفتشُ عن أحدٍ. الرجل يعرفُ أنّني صاحبُ مزاج حادٍ. لا يستقرّ لي طبعٌ. الطبعُ المتقلب هذا الذي يتَلبّسُني كانَ مَثارَ انتقاداته منذُ أنْ انتسجتْ بيننا زمالة حميمة لم تستطع بغتات الدهر أنْ تنال منها.خمس عشرة سنة هي عمر هذا الذي يشدّ بعضنا إلى بعضٍ كالدبق. الآن، يدركُ تكوينات دخيلتي، أعني كيميائي الجوانية، فلم يعد يلجّ عليّ متى صفحتُ عن الحديث، إنّما يتركني سادراً في ما أنا عليه إلى أنْ يتروّقَ الخاطرُ، فأسعى منْ تلقاء ذاتي إلى مُطارحته شواغلي.

كانت الساعة تجنحُ جهة التاسعة والنصف ليلاً عندما أوصلتُ حميد قرب مسكنه بحي المحيط، ويمّمتُ شطْر سَكني بالقبييبات. انسلكتُ في منامتي، وانحشرتُ داخل الفراش. ضبطتُ منبّه الساعة، وأطفأتُ نور الأباجورة. كان عليّ أنْ أستيقظ على الساعة الخامسة والنصف فجراً. ساعتان كافيتان لكي أضع آخر اللمسات على جدادات حصتيْن دراسيتيْن برسم صباح هذا اليوم. يوم الجمعة، رابع نوفمبر. أتذكّر هذا اليوم جيداً لأنّه يتفقُ مع ذكرى يوم اعتقالي قبل عشر سنوات خلت. قضيتُ منها خمسة أشهر بالسجن المدني عين قادوس بفاس. وهناك بالسجن تعرّفتُ على حميد، ثم ما فتئتْ أنْ جمعت بيننا زنزانة وقضيةٌ. كان الرجل وقتَها ذا قامةٍ فارهةٍ، ونحيفةٍ. الساعة، هو ما يزال يحتفظ بنحافة الجرم، لكنْ مع ميلٍ لقسم جذعه العلويّ إلى الاحدوداب قليلاً، ثمّ إنّ فوديْه ابيضَّا. طبعاً هو ملمحٌ لا نختلفُ فيه نحن الاثنيْن، مثلما لا نختلفُ في ما أصابَ ناصيةَ رأسيْنا من جَلحٍ. فعلُ الزمن أقولُ، غيْر أنّه الفعل الذي لم نكنْ نحسبُ له الحسابَ اللازمَ.

هذا الصباح، لم يفارقني طيفُ زيّا. سيمرّ أسبوع بكامله قبل أنْ ألتقي بها. لرُبّما نلتقي بالقنيطرة إذا ما حزمتُ أمري، وامتطيتُ صهْوة السيارة. أعترفُ أنّ عينيْها اللوزيتيْن المشعتيْن تأسران مُهجتي، وسويداء قلبي. وأعترفُ، أيضاً، أنّني منذُ أنْ "تڤتنمت"، في ذلك الزمن البعيد، جعلت أبحثُ في الوجوه الأنثوية عمّا يشاكلُ تلك الغمازتيْن الضيقتيْن، وذلك الشعر الأكحل، والأملس، والناصع، ذي الزغبات الدقيقةِ المقصوصة حد القَذال، والمُطلة على الجبهة، وهيَ تتراقصُ كلّما تعرضتْ لنفحة هواء. ولم أكنْ أتمالكُ نفسي إذْ يسقطُ بصري على جرم أنثى قصير، وأملودي، كما جذع زيّا، فألفاني منهوماً به، أفترشُ إثْره كالمسرنم. وها إنّ الكثيرَ منْ هذا ينتظرُني خلال عطلة الأسبوع. فهلْ أفعلُ؟

حتْماً سأفعلُ، قلتُ، وأنا أدهسُ بقدمي على دواسة السرعة. مسافة أربعين كلمتراً عليّ أنْ أقطعَها قبل أنْ يأزفَ منتصف النهار. الطريقُ لاحبةٌ؛ طريقٌ سلكتُها مراراً. أكْنَه أعطافها بالتالي، كما أعلمُ أنّ متوسط الزمن الفاصل بين لحظةِ الانطلاق ولحظةِ الوصول لن يتعدّى، على أبعد تقديرٍ، النصف ساعة. والساعة الآن الحادية عشر وربع. سأكونُ وزانَ المطعم قبل الساعة الثانية عشر. هي قالت إنّها تغادرُ المطعم متى أنهتْ الترتيبات المطلوبة لتأمين فترة تناوب أخيها على تدبير شؤون المحلّ. كان الفصلُ خريفاً. وهناك ما يشي بأنّ الأمطارَ ستتأخرُ عنْ وقتها المعتاد. وهذا الصباح ضبابي، وغائم، شأنُه في ذلك شأن باقي أصباح الأيّام الفارطة، منذ أنْ أخْمَرَ فصلُ الصيف بأجوائه الحارة، الكاوية. نحن في شهر نوفمبر. وإنْ أردتُ التّعيينَ لقلتُ إنّنا في بداياته. كانت السيارة تنهبُ الأسفلت نهباً، فيما كنتُ أنا ممسكاً المقودَ بكلتا يدي، مشمولاً بدفء عقر السيارة، مسجوراً بهسيسها الناغم. كانت عيناي تَتَتَلعان أماماً كأنّما تستدعيان كرامة لاختصار الوقت، واقتصاد الجهد.

قالت إنّ حللـتَ بالمدينـة، فابحـثْ عن ملتقى الطرق المسمـى ب "الماگنة"، وانحدرْ، على امتداد شارع محمد الديوري، في اتجاه وادي سبو. على يسارك حاولْ أن تجد مقهى "المباركة"، ثمّ تقدمْ خطواتٍ، وستعثرُ على المطعم قبل "زنزبار". المطعم إيّاه متميزٌ بصباغة حمراء، وعلامات فريدة، ومنها بالونيْن مستطيليْن، أحمريْن، موشوميْن بكاليغرافيا صينية يتدلّيان منْ مظلّةٍ تُغطي طنَف المبنى. هايفونغ، هو ذاك لا مشاحة في الأمر. وأردفت تقولُ، حالما كانت تستعدّ للنزول من السيارة: إنْ وجدتني فأنتَ محظوظٌ. حقاً محظوظ أنتَ. وخلاف ذلك، سأكون، قطعاً، بالضّيعة.

وإذْ كانت عجلات السيارة تكشطُ الأسفلت، عدتُ بذاكرتي إلى يوم جاءتني تطلبُ تسجيل أطروحتها في السلك الثالث تحت إشرافي. وأراهنُ أنّ الكثيرين ممنْ يدرونَ بالحكاية لم يكفّوا قطّ عن القول مندهشين: مَنْ يصدقُ أنّ هذا الأستاذ سيقعُ في شباك هذه الطالبة! لكنّ المحذورَ حصل. وها أنذا أقرّ بأنّني ما إنْ مررتُ برواقٍ بالكلية، ونطقَتْ هي بلفظ أستاذ، حتى درتُ حول محوري، نصف دورة، فأبصرتُها تقبلُ نحوي، وأدركتُ، على الفوْر، أنّ قصة حبٍّ هي بصدَد النبق. وكذلك كان، ولم يكن فيما بعد كذلك. فقد صارتْ زيّا، بعد حينٍ، في الفراش كما على الرصيف، مجردَ امرأةٍ. أقصد امرأة منْ بين نساء عبرْن حياتي، لا تختلفُ عنهنّ سوى أنّها تنتسبُ إلى أرومتيْن. أب أمازيغي، وأم فيتنامية. ثمّ أنّها تنطق بأزيد من لسانيْن فصيحيْن. ويحدثُ أنْ أتملّى في ما شدّني إليها، طوال هذه المُدّة، فأقولُ لربّما استهواني حرفيْ الزّين والياء في اسمها. الزّين بالفتحة، والياء بالشدة، حرفان يصدحان بنغم خاص؛ نغم يخرق طبلة الأذن، ليداعبَ الصماخ بلحْنٍ عجيبٍ، تنتشي له كل أعضائي، وتطرب له الحواس جميعها، أو لعلّ اسمها، بذاك الإيقاع الطريف إنّما حرّك مخزوناً ايديولوجياً ما برحتُ أتستّر عليه كمُهرب بضائع على الحدود.

لم تكن الأشجار على طرفيْ الطريق قد فقدتْ شيئاً منْ تلك الفتنة التي كانت تدوّمُ عليها على مدار فصول السنة. لكن الأمزجةَ والطباعَ وحدها فقط هي التي تبدّلتْ. اليوم، لمْ أعدْ أقبل على فصل الخريف بمثل ذلك الإقبال الذي كان يعتورُ كامل حواسي كلّما لاحت نذرَه. لكمْ كنتُ أبتهجُ إذ يشرع فصل الصيف في التراجع، فلا يبقى من زفيره الكاوي، والكابس، غير أنفاس متلاشية أعدمتْ كل صمودٍ. وأنْ أكونَ خلْف الزجاج بمقهى، وأنا أطمحُ ببصري إلى الخارج، حيث الرياحُ تَرعص، بيدٍ لا تبين، أوراق الأشجار، وأكياس البلاستيك، هي لحظة من العمر استثنائية في احتفائي اللذيذ بورود فصل الخريف. كل الأشياء تموجُ، وترتجّ كما لو كانت محكومةً بسطوة قوةٍ فلتانةٍ.

قبل مدخل المدينة تلاحتْ لي شرأبيباتُ الأبنيةِ من الهضبة التي تُطلّ على فضاء أثّتتْه أشجار الغابة، والدورُ السكنية، ومباني الحي الصناعي. هذه المتمّمات، في جلائها، تأخذُ بلُبّي متى بلغتُ الهضبة، وطوّحت بنظري إلى القدام أمسحُ ما يوهَبُ لي تحت أشعّة شمس شاقوليةٍ. بيْدَ أنّ هذا الصباح انخسفتْ فيه الشمس تحت ثقل غلالة ضبابٍ غامرٍ، ولم يعدْ بإمكاني أنْ أرى غير ملامح الأشياء، وإن ألمعتْ فهي لا تكشفُ عنِ التفاصيل. مجرد مسافة قليلة، وسأكونُ في مواجهة الإعلان الإشهاري الذي يتصدّرُ شارع محمد الخامس: "مدينة القنيطرة ترحب بكم". لكم رحبتْ بي هذه المدينة لساعات لتلفظني، بعد ذلك، لشهور، بل لسنواتٍ؛ المدينةُ العاهرةُ. أقصدُ العاهرةَ التي أحببتُ. أجزم أنّ كلّ مغابن، وملاوي، وقباب، ونتوءات، هذه المدينة أحفظُها. كم أعشقُها، وكم أمقتُها!

مشاهدٌ راحتْ تندلقُ في ذهني إذ أشقّ سجوف الضباب. في ركن من أركان هذه المدينة أمضيتُ ردَحاً من الزمن حبيسَ الجدران الموبوءة، والأسواء العطنة، المتطاولة. ما ينيفُ عن العشر سنوات. الضباب الذي يكمش على العنْبر كلّما حلّ فصل الخريف يشبه الضباب الذي أمخر عبابه حالياً، ويختلف عنه في الوقت عينه. ضبابٌ مخملي، ومحملٌ بالرطوبة، وله مذاق حَرف. هذا الضبابُ يسكنني ما يزالُ. يمنعُ البصر من النظر الصافي، والسهل؛ ذاك النظر الذي يشدك إلى ما حولك دونَما وسيط. الساعة، وأنا أعلقُ نظارتي فوق أرنبة أنفي أشعرُ كما لو أنّني قلصت من الإمكانات الطبيعية المباشرة التي كانت تصلني بمحيطي وأنا منْ غير نظارات. العدَسة الزجاجية السميكة واسطةٌ. والواسطةُ، ياصديقي، سلطةٌ. فكيف لي أنْ أتخلّص منْ حجم عدد هذه السّلط التي باتت تزنّرُ الجسدَ كما الروح.

عند العطفة المفضية إلى مستهلّ الشارع الفسيح، تهيّأَ لي أنّني رأيتُ طيفاً يمرّ قدامي على حين غرّة. وتصورتُ، للحظة، أنّني سأصدمه لا محالة. كانت السيارة تسيرُ بسرعةٍ لا تسمح بكبْح فراملها على النّحْو المأمول، وبالدّقة المطلوبةِ. وكان ولوجُ الطيف لدائرة رؤيتي قد حصل في الوقت الذي غمرني فيه إحساسٌ بالاطمئنان؛ اطمئنان منْ عَطا بغيتَه بعد تعب، فارتخى منّي الجسدُ، وسَمَتْ منّي الروح إلى مداركِ الاستيهام والحُلُم. لمْ يكنْ أمامي منْ خيار آخر، والحالة هذه، سوى استنفار كامل وعيي (وأنّى لي منه ساعتها؟)، واتخاذ القرار المناسب، والمطابق للعارض. تركزَ ذهني على تَلافي الاصطدام. قلتُ في سرّي إنّ لفّةً إلى اليمين لرُبّما جَنّبَتْني المكروهَ، وتفادت المصير المحتوم. ولم يكنْ لديّ متسعٌ من الوقت لكي أتقرّى سؤال الموت أو الحياة، وأنا أديرُ المقود بسرعة هي أومضُ منْ خطْف الجَفن. تداخلت الصّور في دماغي وتعكشت الأشياء. وحسبتني منزوعاً إلى جوف ديماسي لدَرْدُورٍ بدون قرار. وكمنْ تعطلتْ فيه النوابضُ صرتُ منقاداً لمسارب انفلتتْ كُلية من إسار الضبط. واجتاح مسمعي تصاقبُ أصواتٍ صاعقة تنبثق من رواشن معتمة. أهي النهاية؟ خمنتُ قبل أنْ أستسلمَ، داخل العقر المصمت، لخدر عجيب.

 آن استقرت السيارة في الوهدة تملكتني حاجةٌ مسيسةٌ إلى نومةٍ عميقة تريحني من هذا التعب الباهض الذي استبد بي أثناء ما كان جسدي يتدحرجُ في دافن السيارة. ومنْ غير أنْ أتطلعَ إلى خارج الزجاج أدركتُ، في التّو، أنّ السيارة مقلوبةٌ، أعلاها أسفلها. كان ظهري قد استوى على باطن السقف في وضعة غريبة. الرأس فوق صفيحة القصدير، والرّجلان تسلقتا، على هيأة مقص منفرجٍ، المقود والكرسي. لم أكنْ راغباً في تغيير الوضعة إياها. بل أغمضتُ عينيّ إذ استغرقتني دوخة غطيسة. وقدرتُ أنّني قطعت دهراً منحشراً في مكاني قبل أنْ أتململ، وأنأم. لم أكن أنزفُ، ولا كنت مكدما. فقط إحساس بحمل يضغط على صدري، ويحبس أنفاسي.

لا بدّ أنْ أتحرك هجستُ. لا يمكن أنْ أحْينَ بهذا الغور كما لو أنّ ما يجري حكمٌ مقضيٌ. فهناك في المسام والأنساغ والشرايين فائضٌ من حرارة يأبَى النضوبَ، وفي تلافيف الدخيلة ما يحرضُ على الانتفاض. ولم يطلْ اصطباري. حاولتُ فتحَ باب الخلف، فما نجحتُ. آنذاك استجمعتُ كل قواي، ورحتُ أركلُ الزجاج المقابل، فما وفقتُ. لا بابٌ انفتحَ، ولا زجاجٌ تهشّمَ. ثم سعيتُ إلى تعديل وضعتي بما يسعفني على تحطيم زجاج الواجهة. هكذا، طفقتُ في رفس الزجاج السميك إلى أنْ أحدثتُ فيه تشققاتٍ ما عتمتْ أنْ توسعتْ لتُشَكل فجوةً كافيةً لكي أسحب منها جسدي إلى الخارج، وأنا لا أكاد أصدقُ. ودون أنْ ألتفتَ إلى الوراء سرتُ أجرّ قدميّ جراً وسط الضباب، حتى إذا أشرفتُ على الطريق تشبحتُ على طولي فوق الأرض المبللةِ والباردةِ، فيما الألمُ يهصرُ ساقي اليسرى، وأنفي ينزّ دماً ساخناً. حملتُ أصابعي إلى خياشيمي، لأسترجعَهَا في الحين منقوعةً بالدم القاني. افتقدتُ نظارتي وأنا أحدقُ في الأصابع المضرّجَةِ بالأحمر، فبدَتْ كما لو بترتْ رؤوسُها. هالني المنظرُ، عندها قلتُ في خاطري إنّني لا شكّ هالكٌ. شعرتُ بوَهَنٍ يجثمُ على فرائصي، وخواءٌ ماحقٌ يجتاحني مثْلما لو كنتُ أفرغ منْ كل مشحونات الجسم ومثخوناته. ثمّ تصوّرتُني أطبقُ جفنيّ شيئاً فشيئاً. وسمعتُ صوتاً يصيحُ في دافني وهو يبتعدُ بالتدريج: لماذا يا زيّا؟ لماذا؟

 

 

2003

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

Rahakmedia - Germany

 

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا