<%@ Language=JavaScript %> فاروق يوسف  الفن العربي معلبا: نسكت خوفا لئلا يغضب أحبتنا المستهلكون البلهاء!
   

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين          

 

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                        

 
 

 

 

لا

للأحتلال

 

 

 الفن العربي معلبا:

 

 نسكت خوفا لئلا يغضب أحبتنا المستهلكون البلهاء!

 

فاروق يوسف

 

بدلا من حفيظ سيكون أسمك حفيز، وألي هو علي. بسبب حرف واحد مضاف أو محذوف لن تقع كارثة مضافة. إن بدا لسانك عربيا فصيحا لن يتعرف عليك أحد في هذا الفضاء الافتراضي الذي أفترسك.
ما من أحد يتكلم العربية وعليك أن تكسب ود الجميع دون استثناء. 'ولكنهم عرب' لا تنفع جملتك الاعتراضية في شيء. ستجعلك منبوذا ولن ينصت إليك أحد. عليك أن ترضى بوضع قطيعي مختلف. مختلف غير أنه قطيعي في النهاية. هناك مَن يضعك في العلبة. ما الذي يحدث داخل علبة السردين؟ لا فرق بين كبير وصغير. تعرف أنك صورة اعلانية، تبهر آخرين وتخون حقيقتها. 'الفن ليس هنا' جملة تقال غير أنها بالنسبة لك لا تعبر إلا عن حسد وغيظ. نجاحك العالمي يغيظ مَن ظل مرتبطا بألف قيد بهويته، بتاريخه، بآدميته، بأخلاقه، بحرفته، بخياله. ولأنك فخر الصناعة المعولمة فقد صار على شركات الاستيراد العربية أن تتهافت عليك. لا أحد سيسأل عن ماضيك. عن صدق تجربتك. عن حقيقة حكايتك. لن يتفحص أحد بعين خبيرة ما تقدمه. لا يحق لأحد أن يقول كلمة نقض واحدة بحقك. الأمر يتطلب شجاعة وجرأة قد تبدو للكثيرين نوعا من الانتحار. عليك أن تبدل طريقتك في النظر. مشيتك هي الأخرى في حاجة إلى شيء من الغنج أما إذا كنت أنثى فشيء من الذكورة ينفع. سيكون عليك أن تظل صامتا. كلام ملغز قليل يكفي. احذر أن تكون طرفا في نقاش سياسي. لا بأس أن تقول رأيا في السياسة ولكن بطريقة رومانسية خالية من استفزاز الآخرين. كأن تبدي اعجابك بجيفارا الذي شبع موتا وتزويرا وأيقنة، كأن ترى في ماو صنما ألتهمته الديدان، كأن تظهر مقتك للطغاة العرب. أنت تكره الحرب طبعا (حروب الشرعية الدولية العادلة تؤيدها). سوف لن تكون وحيدا. هناك مَن يمشي إلى جانبك. مَن يحميك من أخطائك المتوقعة، من زلات لسانك. لن تكون عربيا أكثر منهم. ستكون أقل لكن بطريقة أفضل. مرضيا عنك تقدم صورة لشاب عقلاني مريح، يعرف كيف يوازن بين مصلحته الشخصية وبين فروض الطاعة التي تيسر له بقاءه في الواجهة. ولأنك تعرف أنك لن تخسر شيئا (لا ناقة لك ولا بعير في ماضيك، ولا أب ولا أم ولا أخوة في المكان الذي غادرته)، كان عليك أن تحشر نفسك جيدا في علبة السردين. حينها تكون جزءا من وجبة طعام جاهزة.
اعتدنا أن نلغي بالبلاغة حقائق العيش. بلاغة هي أشبه بالتوابل التي تضفي نكهة لا تزول إلا إذا فقد الطعام قيمته الغذائية كلها. لن تشرح البلاغة صدرا ولن ترطب عينا ولن تلين معصما. يمكنني أن أقول ان بلاغة الخوف هي أقسى درجات الثقة بالإحباط. لذلك وصل تراجعنا الثقافي إلى درجة الفحش. لا يُسمي العربي مشكلاته بأسمائها ولا يشير إليها. أخذه الخوف بعيدا، حتى صار يظن أن وعظه لأولاده قد يقوده إلى السجن. لذلك صار يوافق على كل ما يُملى عليه في محاولة منه لتحاشي الأسوأ. أمس طغيان، اليوم ديمقراطية. لا بأس. المهم أن يستمر الايقاع ملبيا لحاجات من يملي ارادته بقوة وجوده. على مستوى الفن سيكون الاستنتاج صادما: عادل عبدين، أحمد السوداني، فاطمي، وفاء حوراني، ديانا الحديد، نعيم كريم، قادر عطية، ناديا اياري، خالد حافظ. وقبلهم غادة عامر ومنى حاطوم هم عبارة عن معلبات غربية فاسدة، انتهت صلاحيتها قبل الانتاج. سيقال ان قناعتي جاءت متأخرة. أضحك. بعد قرون اتضح أن بعض لوحات رامبرانت كانت مزورة. فيرمير هو الآخر تعرض لنقد مشابه. حتى سيزان وهو أب الحداثة الفنية بامتياز يمكنه أن يكون موقع نقد يجهز على ابوته تلك. القاعات الفنية في مدن عربية عديدة (الخليجية منها بالذات) صارت تستقبل أعمال فنانين عرب ترشحهم جهات فنية غربية. صرنا إذاً لا نرضى بما يفعله أبناؤنا إلا بعد أن يزكيهم لنا الآخرون. الأمر يدعو إلى الريبة. وإذا ما عدنا إلى التاريخ القريب فان هناك عددا من الفنانين العرب عاشوا في كنف الغرب، غير أن واحدة من الجهات الفنية لم تتبنهم ولم ترشحهم فنانين عالمين: مروان في المانيا، شفيق عبود ومهدي مطشر وهيمت وغياث الاخرس في فرنسا، ضياء العزاوي في بريطانيا. علي رشيد ونديم كوفي في هولندا، فاضل عكرفي في سويسرا وعاصم الباشا في اسبانيا. عشرات آخرون. لماذا لم تضعهم المؤسسة الفنية الغربية على لائحة التصدير إلى الوطن العربي؟
لا تصلح قاماتهم للاستعمال في علب السردين الجاهزة.
لا لأنهم حضروا في المشهد الفني فنانين مكتملين، بل لأنهم كانوا أصحاب رؤى فنية عميقة ومبشرين بإنسانية فن يمكنه أن يشكل وعدا بالخلاص. لا أظن أن احدا منهم كان زاهدا بلقب فنان عالمي، غير أنهم لم يكونوا جاهزين للاستعمال الخارجي، وكان ذلك عيبهم من وجهة نظر المؤسسة الفنية الغربية. لقد كان لهؤلاء الفنانين حضور حيي في المشهد الفني الغربي. لم تنكرهم المؤسسة الفنية غير أنها في الوقت نفسه لم تنظر إليهم بارتياح ولم تبشر بتجاربهم. اليوم تقوم تلك المؤسسة بتصدير بضاعتها إلى الوطن العربي بشعور مزدوج من الثقة: خضوع الفنانين المعلبين لطبيعة المهمة التي خطط لها المنتج ورضا المستهلك الذي صار لا يناقش في ما يُقدم له. ثقة ذلك المستهلك العمياء بما هو جاهز جعلته لا يُفرق بين ما هو مادي وبين ما هو روحي. لقد تسللت السموم إلى الجوهر الأخلاقي من وجوده، فصار يشعر بالخجل من لغته بالقوة نفسها التي صارت يده فيها تتلمس طعام الجنة بين حروف كلمة مكدونالز. في المقابل كانت المؤسسة الفنية الغربية (وهي بالمناسبة مؤسسة سوق عارضة ومؤقتة) ذكية في توقيت ضرباتها الدقيقة. هنالك سيولة مالية وسوق لم تستوف بعد شروط وجودها. لمَ لا يبدأ الغزو؟ سيقال أنني أستعمل الكلمة الكريهة وفي ذهني تشتغل روح المؤامرة. ليكن. ما من كلمة بديلة إلا إذا شئنا أن نقع في شبكة بلاغة النفاق القديمة. هذه المرة سيكون الغزو أشد مرارة. نحن نعيد اليكم أبناءكم معلبين، بضاعة مغلفة بالسليفان الناعم. شيء ما يشبه دبي التي لم تعد تشبه نفسها.
لقد شهد العقد الأخير افتتاح عشرات القاعات الفنية في دبي وابو ظبي. أصحاب تلك القاعات والعاملون فيها لا يتحدثون العربية. البعض منهم كان عربيا تم استيرداه من بلاد المهجر. اما البضاعة فهي الأخرى لا علاقة لها بما يمكن أن تعرضه قاعة فنية في بلد عربي. لقد تم استلهام الموقع الحدودي بين العوالم المعولمة فصارت التجارب الفلكلورية القادمة من ايران والهند وكوريا تتحاور مع تجارب الفنانين الهواة القادمين من أوربا وأمريكا حبا في الصحراء ومشاهد النسوة المنقبات. كان المشهد سيكون سياحيا، لولا أن المؤسسة الفنية الغربية قد قررت أن تبدو جادة في عملية صنع فن عربي بديل. فن ينسجم مع التحولات السياسية التي ستشهدها المنطقة، حيث تغيب المباديء النظرية القديمة، لتحل محلها مباديء العيش في ظل تحاشي الأسوأ. وها هو الفن العربي البديل تهل طلائعه على شكل رسوم رديئة وأفلام فيديو وكتابات دعائية هي جزء من عالم بصري معولم. 'أخيرا صرنا جزءا من العالم' للكذب بلاغته الواقعية. ابناؤنا يهبوننا فنا زائفا، ما أتعسها من نهاية
.

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

Rahakmedia - Germany

 

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا