<%@ Language=JavaScript %> عاطف العراقي مؤثرات مشرقية في الفلسفة المغربية  (الفارابي - ابن سينا - ابن رشد)
   

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين          

 

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                        

 
 

 

 

لا

للأحتلال

 

 

 

مؤثرات مشرقية في الفلسفة المغربية


 (الفارابي - ابن سينا - ابن رشد)

 

عاطف العراقي
 

تعد الفلسفة تعبيراً عن الوصل لا القطع, تعبيراً عن الاتصال وليس الانفصال. كان هذا هو حالها في الماضي, وستظل معبرة عن التواصل بين الأفكار إلى أبد الآبدين. إن المذاهب الفلسفية قبل الميلاد كمذهب أفلاطون, ومذهب أرسطو, لايمكن فهمها وسبر أغوارها إلا بالرجوع إلى الفلاسفة الذين عاشوا منذ بداية ظهور الفلسفة في المدارس الأيونية والإيلية.
وما يقال عن الفلاسفة القدامى, يقال عن فلاسفة العرب في المشرق وفي المغرب أيضاً, بل إن نشأة الفلسفة عند العرب, قد بدأت بالمشرق العربي, وبحيث وجدنا العديد من المترجمين يقومون بنقل الفلسفة اليونانية من اللغة اليونانية
إلى اللغة العربية, فالفضل إذن يرجع إلى المشرق العربي, وكان فلاسفة العرب في المشرق وفي المغرب أيضاً,يجهلون اللغة اليونانية, فكانوا إذن عالة على مجهودات المترجمين. وهذا الجهل باللغة اليونانية لانجده عند فلاسفة المشرق فقط, بل نجده أيضاً عند فلاسفة المغرب العربي, من أمثال ابن باجة وابن طفيل وابن رشد.
 

ويضاف إلى ذلك, أننا لانستطيع القول إن المشرق العربي كان مقر المفكرين أصحاب الاتجاه الإشراقي, على العكس من مفكري المغرب, الذين اتجهوا اتجاهاً عقلانياً. إن هذا التعتيم يعد خاطئاً تماماً, وإلا فكيف نفسر وجود
العديد من الصوفية الكبار في المغرب العربي الإسلامي?!
 

وسنحاول الكشف عن مؤثرات مشرقية في فكر المغرب العربي. ويبدو لنا أن هذا الكشف لابد أن يكون من خلال اثنين من فلاسفة المشرق وهما الفارابي وابن سينا وهما أكبر فيلسوفين أنجبهما المشرق العربي, وفيلسوف واحد من فلاسفة المغرب العربي, إنه آخر فلاسفة العرب, وعميد الفلسفة العقلانية عند العرب, الفيلسوف الذي وقف على قمة عصره, لبروز اتجاهه النقدي إنه - كما سنرى - إذا كان قد تأثر بالسابقين, فقد أضاف إليهم إضافات عديدة.
 

نقول أخيراً, إننا نخطئ كثيراً في فهم قضية التأثر, والمؤثرات, وذلك حين نحصرها في الاتفاق وليس الاختلاف. إن هذا يعد فهماً خاطئاً, إذ إن المؤثرات إذا وجدت عند اللاحق عن السابق, فإن ذلك لايكون في حالة الاتفاق فحسب, بل في حالة الاختلاف أيضاً.
 

نقول هذا ولابد من القول به, مادمنا نجد على أرضنا العربية الفكرية, من يفسد فيها. نعم لابد من التأكيد على أن الفيلسوف اللاحق (لابن رشد) إذا قام بنقد السابق (الفارابي - ابن سينا), فإن هذا النقد إن دلنا على شيء, فإنما
يدلنا على وجود المؤثرات المشرقية, في فكر فلاسفة المغرب.
 

          سنحاول الدفاع عن قضيتنا من خلال مجموعة من النماذج, ونرجو من خلالها
أن نصل إلى القول إننا لانجد فيلسوفاً أو مفكراً يبدأ من فراغ, بل إنه يعتمد
على أفكار السابقين, سواء كان متفقاً معهم, أو كان ناقداً لهذا الرأي أو ذاك من
الآراء التي وجدها عند من سبقوه.
 

*القسم الأول: مؤثرات فارابية في فكر ابن رشد*
 

أولاً: كتاب الحروف للفارابي وصلته بشرح ابن رشد لأرسطو :
 

يمكن القول إن أهمية الفارابي ترجع إلى الكتب الخالدة التي تركها لنا وإذا كان قد ترك لنا كتباً كثيرة فإن كتاب (الحروف) من أهم الكتب التي تركها لنا هذا الفيلسوف وأعمقها, فلا يذكر اسم الفارابي إلا ويذكر معه كتاب (الحروف) إذ إن هذا الكتاب يجعلنا نقدر الفارابي تقديراً كبيراً نظراً لأنه يعد أكثر كتبه دقة وأصالة, إذ إننا نجد فيه بالإضافة إلى البحوث الفلسفية بحوثاً في اللغة وصلتها بالمجتمع وتحديداً دقيقاً لمعاني المصطلحات التي تستخدم في كثير من العلوم. ومن هنا فإن الدارس لفلسفة الفارابي يجد أنه من الضروري بالنسبة له دراسة هذا الكتاب دراسة دقيقة قبل أن يتكلم عن أي موضوع من الموضوعات التي بحث فيها الفارابي في المشرق, وابن رشد في المغرب.

 ونود أن نشير إشارة موجزة إلى النسخة الخطية لهذا الكتاب وتحقيقها, ثم نعرض لأبرز الموضوعات التي تضمنها هذا الكتاب والقيمة الأساسية له وذلك حتى يتسنى لنا إدراك مدى تأثيره على أجيال المفكرين والفلاسفة والأسباب التي من
أجلها كان هذا الكتاب موضع إعجاب هؤلاء شرقاً وغرباً.

نسخة الكتاب الخطية - والتي تعد في الغالب هي النسخة الوحيدة -
موجودة في المكتبة المركزية في جامعة طهران بإيران. وقد قام بتحقيقها تحقيقاً غاية في الدقة الدكتور محسن مهدي, وقد علق عليها بكثير من التعليقات المفيدة, وقدم لها ووضع الكثير من الفهارس وعناوين الفصول. وقد نشر هذا التحقيق عام 1969م عن دار الشرق ببيروت.

وينقسم الكتاب إلى ثلاثة أبواب, يتضمن كل باب مجموعة من الفصول بلغت كلها ثلاثة وثلاثين فصلاً.

ويمكن القول إنه كانت توجد أسباب تاريخية دفعت الفارابي إلى تأليف هذا الكتاب; إذ إننا نجد الكثير من المحاورات التي كانت تتم بين أنصار النحو واللغة من جهة وأنصار المنطق من جهة أخرى, وذلك على النحو الذي نجده واضحاً في
كتاب (الامتاع والمؤانسة) لأبي حيان التوحيدي والذي نجد فيه الكثير من المناقشات والجدل العنيف الذي كان يحدث بين المشتغلين بالنحو وعلم اللغة وبين المتبحرين في المنطق والفلسفة, إذ إن كل فريق كان يوجه الكثير من أوجه الطعن
إلى الفريق الآخر.
ومن هنا نجد الفارابي حريصاً في كتابه هذا: (كتاب الحروف) على عقد الكثير من الصلات بين الجانب اللغوي من جهة والجانب الفلسفي من جهة أخرى. ولعل هذا يتضح من عنوانه من جهة ومن استعراض فصوله كما سنرى بعد قليل, من جهة أخرى,
فهذا الكتاب إذن يعد فريداً في بابه, إذ قلما نجد فلاسفة اهتموا ببيان الصلة بين الجانبين, بل إن أهميته تكمن في كونه يبحث في العلاقات بين الجانبين, الجانب اللغوي والجانب الفلسفي, بالإضافة إلى أنه يكشف لنا عن رأي الفارابي
فيلسوف المشرق العربي, حول بعض المشكلات الفلسفية ومنها على سبيل المثال مشكلة التوفيق بين الدين والفلسفة.
 

ولابد من القول إن الفارابي - شأنه في ذلك شأن ما نجده في كتبه الأخرى - قد استفاد من فلاسفة اليونان الذين سبقوه استفادة كبيرة وخاصة أرسطو; إذ إن القاريء لكتاب (الحروف) يجد أنه أقرب كتب الفارابي إلى كتاب (الميتافيزيقا) أي ما بعد الطبيعة لأرسطو, إذ لايخفى علينا أن كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو مقسم إلى أقسام أو مقالات حسب أحرف الهجاء اليونانية (ألف وبيتا وجاما) وهذا ما فعله الفارابي حتى يقسم الكثير من فصول كتابه حسب أحرف كحرف
(أي) وحرف (كيف) وحرف (هل) وحرف (متى) وهكذا, وليس هذا فقط ما يعد دليلاً على تأثر الفارابي بالفيلسوف اليوناني أرسطو, بل إنه - كما سبق أن ذكرنا منذ قليل - يتأثر بأرسطو في عديد من الآراء التي توصل إليها.
وإذا كان كتاب (الحروف) يتضمن - كما أشرنا - ثلاثة وثلاثين فصلاً, فإننا نستطيع القول إن الموضوعات التي يبحث فيها الفارابي خلال ثنايا هذه الفصول إنما تعد موضوعات فلسفية تارة ولغوية تارة أخرى, وقد يكون ذلك محاولة من
جانبه للربط بين اللغة والمصطلحات العلمية من جهة وبين المنطق والفلسفة الإلهية بصفة خاصة من جهة أخرى.
 

ويخصص الفارابي الباب الأول من الأبواب الثلاثة التي نجدها في كتاب (الحروف) للبحث في الحروف وأسماء المقولات, أي ما يقال على الوجود فنجده في فصول عديدة من فصول هذا الباب يبحث في الجوهر والذات, وأيضاً يفرق بين العديد من العلوم والصناعات كعلم المنطق, والعلم الطبيعي, والعلم الإلهي, وصناعة الخطابة, وصناعة الشعر.
بل إنه يبحث في العديد من التفصيلات والجوانب الجزئية الخاصة بكل علم من هذه العلوم سواء كان علماً من العلوم النظرية أو كان من العلوم العملية فنجده - على سبيل المثال - حين يبحث في (النسبة) يبين لنا معانيها المختلفة
المتعددة, عند المهندسين, وعند الرياضيين, وعند المشتغلين بالمنطق, وعند الرياضيين, وعند الباحثين في علم النحو.
 بل ويحاول الفارابي عقد مقارنات بين معاني المصطلحات الفلسفية في لغة العرب وبين معناها في اللغات الأخرى كاللغة اليونانية, ومن هذه المصطلحات مصطلح (الوجود) إنه يبين معناه ويقارن بين ما يعنيه العرب بهذه اللفظة أو ذلك المصطلح وبين معناه عند أمم كثيرة, وهذا إن دلنا على شيء فإنما يدلنا على أن الفارابي لم يكن مكتفياً بنقل التراث الفلسفي اليوناني, بل كان يجتهد في المقارنة بين هذا التراث وبين التراث الخاص بالشعوب العربية.
 

هذا عن الباب الأول, أما الباب الثاني فإن الفارابي يبحث في فصوله العديدة في كثير من الموضوعات التي تعد أقرب إلى الفلسفة منها إلى اللغة وهذا يعد دليلاً على ما سبق أن أكدنا عليه في بداية دراستنا لهذا الكتاب من أن هذا الكتاب لايبحث في موضوعات لغوية فحسب كما قد يتبادر إلى الأذهان من كلمة (الحروف) التي تعد عنواناً لكتاب (الحروف), بل إنه يبحث في العديد من الموضوعات الفلسفية والتي تعد غاية في الأهمية, وهذا الاتجاه من جانب الفارابي لبحث الكثير من المشكلات الفلسفية في فصول هذا الكتاب هو الذي جعل له أهمية كبرى عند من أتوا بعد الفارابي.
 

إن الفارابي يبين لنا في هذا الباب الصلة بين الدين والفلسفة, ويفرق بين الأديان المنزلة والأديان غير المنزلة, كما يحدد الفروق بين الأساليب السوفسطائية, والأساليب الجدلية, والأساليب الإقناعية والخطابية, والأساليب البرهانية, ونستطيع القول إن الفارابي في تحديده للفروق بين كل أسلوب منها والآخر, إذا كان قد تأثر بأرسطو الفيلسوف اليوناني, إلا أنه أعطانا الكثير من الأمثلة والتفصيلات التي لانجد بعضها عند أرسطو, وخاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن الفارابي أمام كل أسلوب من هذه الأساليب يضع أمامه طبقة من الناس تسعى لاستعماله.
 

 نوضح ذلك بالقول إن الأساليب السوفسطائية تسعى إلى المغالطة, وعلى ذلك فإن من يستعمل هذه الأساليب يكون قصده الانتصار على الخصم في الرأي عن طريق اتباعه المغالطة. وهذا هو الفهم الخاطئ والشائع.
 

أما الأساليب الجدلية فإن معظم من يستعملها هم المتكلمون, أي الفرق الكلامية في الإسلام كالمعتزلة والأشاعرة. إن بحوثهم كلها تعد أساليب جدلية. بمعنى أن كل فرقة حين كانت ترد على الفرقة المخالفة لها في الرأي تتبع أسلوباً
جدلياً يتمثل في قولها: فإن قالوا بكذا - أي أصحاب الفرق الذين يقومون بالرد عليهم - فإننا نقول بكذا, أي أنه أسلوب الجدل: جدل كل فرقة من المتكلمين مع الفرقة الأخرى التي تخالفها في الرأي والمذهب والاتجاه.
 

أما الأساليب الخطابية والتي تسعى إلى إقناع الناس, فإنها خاصة بالجمهور وعامة الناس إذ إنهم لايستطيعون فهم الأساليب الجدلية التي يستعملها المتكلمون, كما لايستطيعون أيضاً إدراك الأساليب الجدلية التي يتمسك بها
الفلاسفة; إذ إنهم أقل مرتبة من المتكلمين من جهة ومن الفلاسفة من جهة أخرى.
 

هذا عن الأساليب السوفسطائية والجدلية والخطابية, أما الأساليب البرهانية فإنها تعد خاصة بالفلاسفة الذين يعتبرون بالنسبة للأسلوب الذي يتبعونه - أي الأسلوب البرهاني - أعلى مرتبة من العامة ومن المتكلمين أيضاً.
 

كما يبحث الفارابي في هذا الباب أيضاً الفرق بين الملة الصحيحة والملة الفاسدة, والأسباب التي من أجلها ينهي البعض عن الاشتغال بالفلسفة, وهكذا إلى آخر الموضوعات المهمة التي نجدها بين ثنايا الفصول التي يتكون منها
الباب الثاني من أبواب كتاب (الحروف).
 

أما الباب الثالث والأخير من كتاب الفارابي والذي يتكون من ثمانية فصول, فإن الفارابي يبحث فيه الكثير من الحروف ويبين لنا دلالتها الفلسفية كحرف (هل) وحرف (كيف) وغيرهما من الحروف, كما نجد الفارابي يفرق لنا تفرقة دقيقة بين العلم الإلهي والعلم الطبيعي; إذ إن موضوع العلم الإلهي لا يتعلق بالمادة, أي أنه مفارق للمادة تماماً, وهذا على العكس من موضوع العلم الطبيعي, إذ إن العلم الطبيعي يبحث أساساً في مواد الأشياء.
 

بعد هذا نود الكشف عن أثر هذا الكتاب الممتاز عبر الزمان, وسنرى كيف أن هذا الكتاب قد أحدث أثراً كبيراً في تشكيل وجهات النظر عند كثير من المفكرين والفلاسفة الذين اطلعوا على فصول هذا الكتاب, سواء بطريقة مباشرة أو بطريقة غير مباشرة, كما يوجد أوجه تشابه بين مباحث هذا الكتاب ومباحث كتب أخرى ألفت قبله وألفت بعده, وسنضرب مثالاً واحداً وهو ابن رشد.
 

 لقد كان تأثر ابن رشد بكتاب الفارابي: كتاب (الحروف) تأثراً كبيراً, لقد عرف ابن رشد كتاب (الحروف) معرفة تامة وأشار إليه واستفاد منه في كثير من المجالات التي بحث فيها.
 

فإذا كنا قد أشرنا إلى أن كتاب (الحروف) للفارابي إنما يكشف عن تأثر مؤلفه (الفارابي) بكتاب (الميتافيزيقا) أو ما بعد الطبيعة لأرسطو, فإن الدارس لكتاب (الميتافيزيقا) لابد أن نتوقع من جانبه تأثراً بالفارابي, وهذا ما حدث
بالنسبة لابن رشد, إننا نجد ابن رشد يقتطف من كتاب (الحروف) الكثير من العبارات وهذه العبارات موجودة في أكثر من كتاب من كتب ابن رشد, ومنها على سبيل المثال كتاب (تلخيص ما بعد الطبيعة) وكتاب (تفسير ما بعد الطبيعة) إن كثيراً من المواضع والمواضع المنطقية التي بحث فيها ابن رشد أثناء شرحه لكتاب (ما بعد الطبيعة) لأرسطو, نجد فيها تأثراً من جانب ابن رشد. كان أثناء تفسيره لكتاب أرسطو يرجع إلى كثير من الكتب التي تشرح وتعلق على كتب أرسطو, ومن هذه الكتب كتاب (الحروف) للفارابي, بل إن ابن رشد يذكر اسم (كتاب الحروف) صراحة ويذكر اسم
مؤلفه الفارابي, وذلك في كتاب (تهافت التهافت) الذي ألفه ابن رشد إلى الفارابي وكتابه (الحروف), أثناء شرحه لكتاب (البرهان) لأرسطو.
 

والواقع أننا نجد آراء الفارابي تتردد في كثير من المواضع التي يبحث فيها ابن رشد, ليس المشكلات الفلسفية فحسب بل الجوانب المنطقية أيضاً, فكثيراً ما نجد ابن رشد يشير إلى كتاب (الحروف) أثناء دراسته لأنواع القياس, وفي تفرقته بين القياس الجدلي والقياس البرهاني, إلى آخر هذه المجالات التي إن دلتنا على شيء فإنما تدلنا على أن أثر الفارابي من خلال الأفكار الموجودة في كتاب (الحروف) كان عظيماً على ابن رشد الفيلسوف المغربي الأندلسي.
 

*ثانياً: الإلهيات في فلسفة الفارابي ومدى تأثيرها في الفلسفة الرشدية:*
 

 1) تمهيد:
يحتل الفارابي في تاريخ الفلسفة العربية مكانة كبيرة. نقول هذا إذا أدخلنا في الاعتبار الأثر العميق الذي تركه الفارابي في الفلاسفة الذين جاءوا بعده كابن سينا وابن رشد. (فهو قد لقب بالمعلم الثاني, لأن أرسطو هو المعلم الأول.
 

صحيح إن الكندي كان أول فلاسفة العرب فيما يذهب المؤرخون لفلسفته. ولكن يجب ألا ننسى أن مذهب الكندي بوجه عام تسوده النزعة الكلامية في بعض جوانبه, بالإضافة إلى عدم وجود تناسق منهجي في بعض آرائه الفلسفية التي تركها
بين أيدينا.
أما الفارابي فيصح ما قاله عنه ابن خلكان إلى حد كبير, من أنه أكبر فلاسفة المسلمين على الإطلاق. نقول إن هذا القول يعد قولاً صادقاً إلى حد كبير, ولا نقول إنه صادق صدقاً تاماً, نظراً لأننا يجب أن نضيف إلى قول ابن خلكان (في
المشرق العربي فقط).
 

وصحيح أيضاً ما قاله ماسينيون عنه من أنه كان فيلسوفاً بما تحمله هذه الكلمة من معنى إذ إن الفارابي قد ترك لنا مذهباً محدد المعالم إلى حد كبير, سواء في الطبيعيات أو الإلهيات أو الأخلاق أو السياسة.
 

ولكن هذا يجب ألا ينسينا ما في بعض آرائه من تذبذب أحياناً ومن تناقض أحياناً أخرى, وقد سبق لابن سبعين أن لاحظ ذلك, حين قال إن الفارابي يقول بآراء مختلفة حسب كتبه المختلفة, وضرب مثالاً على ذلك برأيه حول بقاء النفوس.
 

ونود أن نضيف إلى هذا المثال الذي ضربه ابن سبعين, مثالاً آخر, هو رأيه حول موضوع حدوث العالم وقدمه.
 

 ومهما يكن من أمر فإننا نرى من جانبنا أننا لو حاولنا التعمق في نصوص كتبه ولم نقف عند ظاهر النص, بل نفذنا إلى أعمق أعماق النص, أي ما وراء الظاهر, لاستطعنا إلى حد كبير جداً التوصل إلى حقيقة رأيه حول موضوع من الموضوعات التي بحثها.
 

فمثلاً قوله بالفيض أو الصدور يؤدي إلى الاعتقاد بأنه من القائلين بقدم العالم لا حدوثه, إذ إن القول بالفيض يتناسب مع القول بقدم العالم.
 

2) الاستدلال على وجود الله:
 

 درس الفارابي الكثير من الموضوعات الفلسفية الميتافيزيقية: ومن هذه الموضوعات الميتافيزيقية التي اهتم الفارابي بدراستها اهتماماً كبيراً, واجب الوجود وصفاته.
 

 فإذا رجعنا إلى الكثير من كتبه مثل (عيون المسائل), (وآراء أهل المدينة الفاضلة), وجدناه يفيض في الاستدلال على وجود الله وبيان طبيعة واجب الوجود ويعدد صفاته.
 

ويبدأ الفارابي بحثه في هذا المجال بتقسيم الموجودات إلى قسمين: ممكن الوجود وواجب الوجود, فهو يقول في كتابه (عيون المسائل): إن الموجودات على ضربين: أحدهما إذا اعتبر ذاته لم يجب وجوده ويسمى ممكن الوجود. والثاني إذا اعتبر ذاته وجب وجوده. وإذا كان ممكن الوجود إذا فرضناه غير موجود لم يلزم عنه محال, فلا غنى لوجوده عن علة. وإذا وجب صار واجب الوجود بغيره. فيلزم من هذا أنه كان مما لم يزل ممكن الوجود بذاته واجب الوجود بغيره. وهذا الإمكان إما أن يكون شيئاً فما لم يزل وإما أن يكون في وقت دون وقت. والأشياء الممكنة لايجوز أن تمر بلا نهاية في كونها علة ومعلولاً ولا يجوز كونها على سبيل الدور, بل لا بد من انتهائها إلى شيء واجب هو الموجود الأول.
معنى هذا أن الفارابي يستدل على وجود الله بالتفرقة بين طبيعة الممكن وطبيعة الواجب, وأيضاً بقسمته للواجب إلى واجب بذاته وواجب بغيره. فوجود العالم ممكن, وإذا تحقق هذا الإمكان أي أصبح وجوداً, فإنه لامفر من القول - لكي نفسر الانتقال من الإمكان إلى الموجود - بوجود إله يخرج الإمكان إلى الوجوب, أي يخرج العالم من مقولة الإمكان إلى مقولة الوجوب والوجود.
 

ولكي يفرق الفارابي بين العالم (الواجب) بعد أن وجد, وبين الله الذي لابد من وجوده, أي هو واجب أيضاً, ميز بين الواجب بذاته وبين الواجب بغيره. فالله واجب بذاته, لأننا لانستطيع المرور إلى ما لا نهاية في مجال العلاقة بين العلة والمعلول. كما أننا لانستطيع أن نقول بالعلاقة الدورية بين العلة والمعلول, لأن الدائرة ليست لها نقطة بداية محددة بذاتها وليست لها نقطة نهاية محددة بذاتها, إذن لابد أن نقف عند علة أولى هي الله. أما العالم فهو واجب بغيره, لأنه لم يوجد نفسه بنفسه, أي لم يوجد مصادفة وعرضاً, كما يقول بذلك أصحاب التفسير المادي للكون.
 

يقول الفارابي في كتابه (عيون المسائل): فالواجب الوجود متى فرض غير موجود, لزم منه محال, ولا علة لوجوده, ولايجوز كون وجوده بغيره, وهو السبب الأول لوجود الأشياء. ويلزم أن يكون وجوده أول وجود وأن ينزل عن جميع أنحاء النقص, فوجوده إذن تام, ويلزم أن يكون وجوده أتم الوجود ومنزهاً عن العلل مثل المادة والصورة والفاعل والغاية.
وإذا كان ابن رشد قد نقد دليل الممكن والواجب عند الفارابي وعند ابن سينا, إلا أننا لابد أن نضع في اعتبارنا - كما سبق أن أشرنا - أن النقد في حد ذاته يعد وجهاً من أوجه تأثر اللاحق بالسابق.
 

 3) طبيعة واجب الوجود وصفاته:
 لعلنا قد لاحظنا من استدلال الفارابي على وجود الله, أن الفارابي قد فرق تفرقة أساسية بين واجب الوجود بذاته (الله) وبين واجب الوجود بغيره (العالم بعد أن وجد) وبين ممكن الوجود (العالم قبل أن يوجد).
 

فواجب الوجود, إذا فرضناه غير موجود, لزم عن ذلك محال, ما دام الفارابي - كما سبق أن أشرنا منذ قليل - يمنع التسلسل إلى ما لا نهاية, كما يمنع العلاقة الدورية, إذن لايجوز كون وجود الله بغيره, بل هو واجب بذاته, وهو السبب الأول لوجود سائر الموجودات كلها, وعنه فاضت الموجودات كلها.
 

 بعد ذلك يأخذ الفارابي في بيان طبيعة واجب الوجود عن طريق خلع مجموعة من الصفات عليه. ومنها:
 

 1- الله واحد:
 يبرهن الفارابي على وحدانية الله في فصل يعقده في آراء أهل المدينة الفاضلة بعنوان (القول في نفي الشريك عنه تعالى) كما يتحدث عن وحدانيته تعالى في بعض مؤلفاته الأخرى بطريقة متناثرة.
 

 وكان يجدر بالفارابي أن يثبت أولاً وحدانية الله قبل أن يتحدث عن بقية صفاته, وخاصة أننا سنلاحظ أن أكثر الصفات التي سيخلعها الفارابي على الله تعالى, إنما تترتب إلى حد كبير على القول بوحدانية الله. ولكن الفارابي في أكثر الأحيان يتحدث عن وحدانية الله بعد أن يذكر بعض صفات الله تعالى الأخرى كخلوه من العدم والضد وغير ذلك من صفات.
 

 ونظراً لأن أكثر صفات الله إنما تترتب - كما ذكرنا - على القول بوحدانيته, فإننا سنتحدث أولاً عن وحدانيته ثم نتابع دراستنا لمجموعة من الصفات الأخرى.
 ذكرنا أن الفارابي يبرهن على وحدانية الله, ونستطيع أن نقول من جانبنا إن مفتاح البرهنة على وحدانية الله عند الفارابي يتمثل في معنى التام عنده. فالتام - كما يقول الفارابي - هو ما لايمكن أن يوجد خارجاً عنه وجود من
نوع وجوده, وذلك في أي شيء كان.
 

ويضرب لنا الفارابي أمثلة للتام. فالتام في الجمال هو الذي لايوجد جمال من نوع جماله خارجاً عنه. والتام في العظم هو ما لايوجد عظم خارجاً عنه. والتام في الجوهر هو ما لايوجد شيء من نوع جوهره خارجاً عنه, وهكذا.
 

 وإذا كان الله تاماً, فإنه لابد أن يكون واحداً, إذ لايمكن أن يكون هذا الوجود التام لشيء آخر غيره, فإذن هو منفرد بذلك الوجود وحده, ولايشاركه شيء آخر أصلاً: إنه منفرد برتبته وحده.
 

 معنى هذا أن الفارابي يربط بين معنى التمام ومعنى الوحدة, من جهة أن التمام والوحدة لايوجدان إلا لواجب الوجود. يقول الفارابي في عيون المسائل; هو واحد بمعنى أن الحقيقة التي له ليست لشيء غيره, وواحد بمعنى أنه لايقبل التجزؤ, كما تكون الأشياء التي لها عظم وكمية. وإذن ليس يقال عليه كم ولا متى ولا أين وليس بجسم, وهو واحد بمعنى أن ذاته ليس من أشياء غيره كان منها وجوده, ولا حصلت ذاته من معان مثل الصورة والمادة والجنس والفصل.
 

هذا من جهة, ومن جهة أخرى فإن الله يعد واحداً من جهة أنه لاينقسم, فالله غير مركب من مادة ومن صورة, كما هو الحال في سائر الموجودات, وإذا كانت هذه الموجودات تقبل الإنقسام لأنها مركبة, فإن الله لاينقسم لأنه غير مركب من
مادة ومن صورة.
 

 2- وجود أفضل الوجود:
 

 الله بريء من جميع أنحاء النقص, فوجوده أفضل الوجود وأقدم الوجود, بحيث إننا لانجد وجوداً أفضل ولا أقدم من وجوده تعالى.
 

 3- نفي العدم والضد عنه تعالى:
 

لايشوب وجود الله وجوهره العدم ولا الضد, إذ إن كلا من العدم والضد لايوجدان إلا في العالم السفلي, أي عالم ما تحت فلك القمر, طبقاً للقسمة الأرسطية المشهورة للعالم إلى قسمين: العالم العلوي أي عالم ما فوق فلك القمر, والعالم الأرضي, أي عالم ما دون فلك القمر. فالعدم يحدث في الموجودات الحادثة المتغيرة, والله ليس بحادث ولا متغير, والضد يعني أن هناك شيئين أو ضدين. ولما كان الله واحداً لامثيل له فلا ضد له.
 

4- الأزلية ودوام الوجود:


الله أزلي دائم الوجود بجوهره وذاته, يبين لنا الفارابي أن الله مكتف بذاته, وإذن لاحاجة له إلى شيء آخر يعينه على البقاء أو على دوام الوجود.
 

5- الخلو من المادة والصورة:


وجود الله خلو من المادة ومن الصورة. إذ إننا لو قلنا إن له تعالى صورة لأدى هذا إلى القول بأن له مادة, إذ الصورة لاتوجد إلا في مادة. وأيضاً ليس له تعالى مادة, إذ لو قلنا إن له مادة, لاستتبع هذا, القول إن له صورة, إذ
المادة لابد أن يكون لها صورة.
 

هذا بالإضافة إلى أننا لو قلنا بالمادة والصورة بالنسبة لله تعالى, فإن ذاته ستكون مؤلفة من شيئين, كما هو الحال عندما نقول إن جسما ما من الأجسام, مؤلف من مادة ومن صورة. وعلى هذا فليس له مادة ولاصورة.
 

 6- الخلو من الفاعل والغاية:
 إذا كان الفارابي قد نفى عن الله تعالى العلة المادية والعلة الصورية, فإنه نفى أيضاً عنه تعالى العلة الفاعلة والعلة الغائية. فالله سبب أول, وإذن ليس له علة فاعلة. وأيضاً ليس لوجوده علة غائية, إذ لو قلنا بالغاية والغرض, فإن هذا يؤدي إلى القول بأنه كسائر الموجودات التي لها علل أربع, العلة المادية والعلة الصورية والعلة الفاعلة والعلة الغائية.
 

7- العقل:
 

 إذا كان الفارابي قد نفى عن الله اتصافه بالجسمية, فإنه يصفه بأنه عقل بالفعل: ومعنى هذا أن الله إذا كان غير محتاج إلى المادة, فإنه إذن عقل بالفعل من كل وجه.
 

وإذا كان الله عقلاً بالفعل, فإنه أيضاً عاقل ومعقول, أي أنه عقل وعاقل ومعقول.
 

وهذه المعاني الثلاثة كلها فيه معنى واحد وذات واحدة غير منقسم.
 

وهذا إن دلنا على شيء, فإنما يدلنا على تأثر الفارابي بالتراث الاعتزالى, إذ المعتزلة يوحدون بين الذات وبين الصفات, فعلمه تعالى هو هو, وقدرته تعالى هي هو, وهكذا.
 

كما أن توحيد الفارابي بين العقال والعاقل والمعقول, يعني تنزيه الله عن صفات البشر. إذ إننا كموجودات بشرية, لابد أن نفرق بين ذات تعقل وبين موضوع نعقله أو نعلمه, أي نجد قسمة بين ذات وبين موضوع. ولكن بالنسبة لله تعالى لانجد هذه التفرقة.
 

هذا بالإضافة إلى أننا في المجال الإنساني نجد انتقالاً من الشيء بالقوة إلى الشيء بالفعل. فالإنسان مثلاً يعد معقولاً بالقوة ثم يصير معقولاً بالفعل بعد أن عقله. أما بالنسبة لله تعالى فإننا لانجد تلك النقلة من القوة إلى الفعل والتفرقة بينهما.
 

8- العلم:
 

 إذا كان الفارابي قد وحد بالنسبة لله بين العقل والعاقل والمعقول, فإنه يعتمد على هذه الفكرة بالنسبة لصفة العلم. فالله عالم, ولايحتاج في أن يعلم, إلى ذات أخرى خارجة عن ذاته يستفيد منها العالم, بل إن الله مكتف بذاته إن صح هذا التعبير. فإنه يعلم وإنه معلوم وإنه علم, فهو ذات واحدة وجوهر واحد تماماً كما نقول إن العقل والعاقل والمعقول منه شيء واحد.
 

ونود أن نشير ونحن بصدد دراستنا لصفة العلم الإلهي إلى أن أقوال الفارابي في هذا المجال تدلنا على أنه ينفي إلى حد كبير علم الله بالجزئيات الحادثة, خلافاً لما نجده في القرآن من أن الله عالم بكل صغيرة وكبيرة في هذا الكون.
 

 فالفارابي في كتابه السياسة المدنية يقول: وأما جل المعقولات التي يعقلها الإنسان من الأشياء التي هي في مواد, فليست تعقلها الأنفس السماوية لأنها أرفع مرتبة بجوارها عن أن تعقل المعقولات التي هي دونها. فالأول يعقل
ذاته وإن كانت ذاته بوجه ما هي الموجودات كلها. فإنه إذا عقل ذاته; فقد عقل بوجه ما الموجودات كلها, لأن سائر الموجودات إنما اقتبس كل واحد منها الوجود عن وجوده, والثواني فكل واحد منها يعقل ذاته ويعقل الأول.
 

 وإذا كان العلم بكل جزئية من الجزئيات التي تحدث في هذا الكون يرتبط ارتباطاً مباشراً بموضوع الثواب والعقاب, بمعنى أن الإنسان سيثاب أو سيعاقب في العالم الآخر بناء على أفعاله في هذا العالم الذي نعيش فيه, فإن هذا ما جعل
آراء الفارابي في مجال الخلود فيها نوع من التناقض والتذبذب, لأنه لم يكن صريحاً صراحة تامة في إثبات علم الله بكل الجزئيات, وخاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن الصفات التي يخلعها الفارابي على الله تعالى ورأيه في هذه الصفات,
يجعل الله بعيداً من زاوية ما عن مخلوقاته.
 

 9- الحكمة:
 

 إذا كان الفارابي قد أثبت أن الله عالم, فإنه قد أثبت أنه حكيم أيضاً, إذ إن الحكمة تعني أن يعلم الله بأفضل علم. وإذا كان علم الله يعد علماً دائماً لايمكن أن يزول, إذ هو علمه بذاته, فلابد أيضاً أن نقول إنه تعالى حكيم.
 

10- الحق:
 

 الله حق. ويحاول الفارابي في هذا المجال أن يسوي بين الوجود وبين الحق, بمعنى أن الفارابي إذا كان قد أثبت أن الله موجود, فإنه رأى أن من صفاته تعالى أنه حق, إذ إن الحق يساوق الوجود, بمعنى أننا إذا أثبتنا ما يعد موجوداً,
فلابد أن نقول إنه حق.
 

11- الحياة:
 

إذا كان الفارابي قد أثبت لله صفة الحق, فإنه قد أثبت له أيضاً صفة الحياة. وهو يسوي بين الحي والحياة طبقاً لتسويته بين العقل والعاقل والمعقول. فالله حي والله حياة, وليس يعني هذا القول معنيين متغايرين, بل يدلان على معنى واحد طبقاً للتوحيد بين الصفة والموضوع أو بين الصفة والذات الإلهية.
 

 ويبرهن الفارابي على القول بأن الله حي بالقول بأننا إذا كنا نقول عن أنفسنا إننا أحياء حين ندرك أحسن المدركات ونحس بأحسن إدراك, فإن الله بالأحرى لابد أن يكون حياً لأنه يعقل الأشياء ويدركها بأفضل عقل وأفضل إدراك. بل إننا إذا كنا نستعير صفة الحياة لشيء آخر غير الحيوان, كالنبات مثلاً فأولى بنا أن نضفيها على الله تعالى لأن وجوده أسمى وأرقى وجود.
 

12- العظمة والجلال والمجد:
 

 الله عظيم وجليل ومجيد. هذا ما يثبته الفارابي, إذ إن الفارابي - كما سبق أن لاحظنا - إذا كان قد فرق بين صفات واجب الوجود وصفات الموجودات الممكنة الوجود, فإن هذا يتضح أيضاً حين يتحدث عن عظمة واجب الوجود وجلاله ومجده. إذ إن هذه الصفات - فيما يرى الفارابي - مباينة لكل ذي عظمة ومجد, كما أنها في ذاته لا من غيره, بمعنى أنه تعالى لم يستفدها من الخارج. إنه ذو جلال في ذاته وذو عظمة في ذاته وذو مجد في ذاته, سواء أجله أو لم يجله, عظمة غيره أو لم يعظمه, مجده غيه أو لم يمجده.
 

ويمكن إذا رجعنا إلى كتابات ابن رشد وسواء في مؤلفاته أو في شروحه, أن نجد تأثيراً كبيراً من جانب ابن رشد, بالفيلسوف المشرقي, الفارابي.
 

القسم الثاني: مؤثرات سينوية في فلسفة ابن رشد
 

 أولاً: الفلسفة الطبيعية:
 

1) تحديد المقصود من الطبيعة:
 

إذا كان ابن سينا قد اهتم في رسائل عديدة له ببيان الصلة بين العلم الطبيعي والعلوم الأخرى كالإلهيات والرياضيات بفروعها الأربعة (حساب وهندسة وفلك وموسيقى) فإنه في فن السماع الطبيعي يبين لنا المقصود من الطبيعة متأثراً
في هذا بفيلسوفه أرسطو.
 

 وبعد أن يضرب لنا ابن سينا الكثير من الأمثلة ويناقشها ينتهي إلى القول بأن الطبيعة مبدأ أول الحركة ما يكون فيه وسكونه بالذات لابالعرض, ليس على أنها تجب في كل شيء أن يكون مبدأ للحركة والسكون معاً, بل على أنها مبدأ
لكل أمر ذاتي يكون للشيء من الحركة إن كان والسكون إن كان.
 

2) العلاقة بين المادة والصورة:
 

 إذا كان ابن سينا ينسب الطبيعة إلى المادة والصورة, فإنه يتساءل: هل تعد طبيعة الشيء هي بعينها صورته أم لا? ويجيب عن ذلك بالقول إنه بالنسبة للأجسام البسيطة فإن الطبيعة هي الصورة بعينها. مثال ذلك أن طبيعة الماء هي
بعينها الماهية التي بها الماء وما هو. ولكن هذه الماهية تكون طبيعته من جهة ما وتكون صورته من جهة أخرى. فإذا قيست إلى تقويمها لنوع الماء, دون الالتفات إلى ما يصدر عنها من الآثار والحركات سميت صورة. فصورة الماء مثلاً هي قوة أقامت هيولي الماء نوعاً هو الماء, وتلك محسوسة وعنها تصدر الآثار المحسوسة. وما يصدر عنها يدخل في مجال الأعراض التي تلزمها كالبرودة والرطوبة التي يتعاون على وجودها كل من المادة والصورة.
 

 أما الأجسام المركبة فإن الطبيعة تكون كشيء من الصورة, ولا تكون كنه الصورة. دليل هذا - كما يرى ابن سينا - أن الأجسام المركبة لاتصير هي ما هي بالقوة المحركة لها بالذات إلى جهة وحدها, وإن كان لابد لها من أن تكون هي ما
هي من تلك القوة. فكأن تلك القوة جزء من صورتها, وكأن صورتها تجتمع من عدة معان تتحد فيما بينها, كالإنسانية مثلاً, فإنها تتضمن قوى الطبيعة وقوى النفس النباتية والحيوانية الناطقة. وإذا اجتمعت هذه كلها نوعاً من الاجتماعات أعطت الماهية الإنسانية.
ولايخفى أن ابن سينا يتابع أرسطو في هذه النقطة متابعة تامة. فالأخير قد ذهب في كتاب الطبيعة إلى أن جميع ما هو بالطبيعة ليس له طبيعة, إلا إذا كانت له صورته; دليل هذا أن الناس لايقولون عن الأشياء قبل أن تتكون إن لها طبيعة ما لم يحصل لها صورتها, فطبيعة الكائنات الحية إذن هي صورتها التي نعين النوع الداخلي في حدها. وإذا كانت لهذه الكائنات مادة فإن هذه المادة لاتنفصل عن الصورة التي تعد مميزة لها وافضل منها.
 

 أ) نقد القول بعلة واحدة:
 

إذا كان ابن سينا قد ذهب إلى أن الصورة تعد (طبيعة) للأجسام البسيطة, كما تعد (طبيعة) - إذا أضيف إليها معان أخرى - للأجسام المركبة, فإنه ينقد - كما فعل أرسطو - مذهب القائلين بتفضيل المادة والقول إنها هي (الطبيعة).
فأنطيفون مثلاً قد أصر على أن المادة هي الطبيعة وأنها هي المقومة للجواهر, إذ لو كانت الصورة هي الطبيعة في الشيء- لكان السرير مثلاً إذا أصابه العفن وصار بحيث يفرع غصناً وينبته فرَّع سريراً, وليس كذلك, بل يرجع إلى طبيعة الخشب وينبت خشباً. وحجته على ذلك - على ضوء عبارات ابن سينا - يمكن إيرادها في صورة قياس كالآتي: الطبيعة والجوهر إنما هو الشيء الثابت الذي يوجد في كل شيء, ما دام هو أحق بالثبات من غيره, الهيولي هي الثابتة في كل شيء.
 

الهيولي هي الطبيعة والجوهر.
 

قلت: إن ابن سينا قد ذهب إلى تخطئة رأي أنطيفون. فما هي الأسباب التي استند إليها في بيان هذا الخطأ?
 

 1- لم يفرق بين الصورة الصناعية وبين الطبيعة.
 

 2- لم يفرق بين العرض وبين الصورة.
 

 3- لم يعرف أن مقوم الشيء يجب ألا يكون منه عند وجود الشيء, لاعدم الشيء.
 

 4- الهيولي لا تكفي في أن يكون الشيء موجوداً بالفعل, إذ إنها تفيد قوة الوجود فحسب. أما الصورة فهي التي     تجعله بالفعل. فالخشب والطوب مثلاً إذا وجدا كان للبيت كون بالقوة, ولكن كونه بالفعل مستفاد من صورته.
 

5- خفي على أنطيفون ومن ذهب مذهبه أن الخشبية صورة, وأنها عند الإنبات محفوظة.
 

 وينتهي ابن سينا بعد نقده لمذهب القائلين بأن المادة لا الصورة هي
طبيعة الأشياء إلى أنه إذا كان المهم بالنسبة لنا في مراعاة شرائط الطبيعة, هو
ما يفيد الشيء جوهريته, فإن الصورة أولى بذلك, فإذا كانت الأجسام البسيطة هي ما
هي بالفعل بصورها دون موادها وإلا لما اختلفت, فالطبيعة إذن ليست المادة, بل
الصورة بالنسبة للبسائط, وأنها في نفسها صورة من الصور وليست مادة من المواد,
أما بالنسبة للمركبات فإن الصورة المحدودة وحدها لاتعطي ماهيتها, بل هي مع
زوائد تضاف إلى هذه الصورة.
 

 ب) علل الموجودات:
 

إذا كان ابن سينا قد انتهى في فن السماع الطبيعي من البحث في مبادئ
الموجودات الطبيعية ذاهباً إلى القول بأنها مركبة من مادة وصورة, فإنه وجد من
الضروري - لكي يفهم طبيعة الموجودات في كل عمومها - أن يدرس علل هذه الموجودات
حتى ينظر إليها من وجهة ذاتها ومن وجهة وجودها أيضاً. أوضح ذلك فأقول بأن ابن
سينا إذا كان قد فسر طبيعة الموجودات بالقول إنها مركبة من مادة وصورة, هما
علتا طبيعتها, فإنه - لكي يفسر لنا وجودها - يذهب إلى القول إن لها علة فاعلة
هي سبب وجودها, وعلة غائية تعد سبباً لوجود العلة بالفعل وسبباً لوجود الصورة
في المادة. وبذلك يكون قد ظهر إلى الموجود الطبيعي من جهة علله الداخلية - أي
مادته وصورته - وعلله الخارجية - أي العلة الفاعلية والعلة الغائية.
 

 وإذا كان ابن سينا قد تناول دراسة العلية في كثير من كتبه, فإن أهم
دراساته لها يتمثل في المقالة الأولى من فن السماع الطبيعي; حيث يخصص ابن سينا
الفصل التاسع منها لنقد مذهب القائلين بعلة واحدة فقط سواء كانت مادية أو
صورية, ويبين لنا في الفصل الحادي عشر, والثاني عشر, والخامس عشر الجانب
الإيجابي من مذهبه. ولأحاول الآن إيجاز رأي ابن سينا في علل الموجودات وغائيتها
في عالم الطبيعة من خلال الصفحات الموجودة بين ثنايا فن السماع الطبيعي.
 

 الواقع أن الدارس لفلسفة كل من أرسطو وابن سينا - على اختلاف فيما
بينهما - يجد أنهما استفادا - وخاصة أرسطو - من نقد أسلافهم بحيث تولد مذهبهما
من النظر في مذاهب سابقيهم ونقدهما لهم. ويمكن توضيح ذلك بالقول بأن نقد أرسطو
لمذاهب سابقيه أدى به إلى مذهبه في العلل الأربع. فهو ينقد المذاهب التي اقتصرت
على علة دون غيرها من العلل. ينقد الأيونيين الأوائل; إذ إنهم كانوا يبحثون عن
العلة المادية للأشياء. وينقد الفيثاغوريين; إذ إن اهتمامهم المفرط بالأعداء
يؤدي إلى التركيز على العلة الصورية, وينقد هيراقليطس الذي نسب للنار دوراً
مبالغاً فيه, وأنبادوقليس بمذهبه في الحب والكراهية, فهما قد ركزا اهتمامهما
لإيجاد العلة الفعلية وحدها. وينقد سقراط; إذ إنه إذا كان قد ذهب إلى تعليل كون
الأشياء على حالة ما دون غيرها بأفضلية كونها على ما هي عليه, فإنه قد انتهى
إلى العلة الغائية. من هذا ينتج أن المادة الحية عند قدامى الفلاسفة الطبيعيين,
والعقل عند انكساغوراس الذي يعتبر مبدأ للحركة, والمثل الأفلاطونية في صورتها
الأرسطية, يمكن أن تعطي مجتمعه بياناً كاملاً بمبادئ الوجود وعلله.
 

 ج) نقد الاتفاق والمصادفة وتقرير الغائية في عالم الطبيعة:
 

 في فن السماع الطبيعي نجد صفحات كثيرة تدور حول موقف ابن سينا من
الاتفاق والمصادفة. وهو إذا كان يفيض في بيان موقفه منهما فإن سبب ذلك رغبته في
الارتفاع إلى جوهر المذهب الذي تتحكم فيه النظرة الغائية للكون. فإذا كان بعض
قدامى الفلاسفة قد ذهبوا إلى تقرير مبدأ الاتفاق وعمموه بالنسبة لكل الأمور
الطبيعية وضربوا على ذلك الكثير من الأمثلة التي توضح وتبرر وجهة نظرهم, فإن
ابن سينا في الجانب النقدي من مذهبه في الغائية قد بذل أقصى جهده في الرد على
هؤلاء الفلاسفة موضحاً رده بكثير من الشواهد التي لاحصر لها.
 

فإذا كانوا قد قالوا إن الجزئيات تكون بالاتفاق, وخلطوا الاتفاق
بالضرورة بأن جعلوا حصول المادة بالاتفاق وحصول صورتها لها بالضرورة لالغاية,
فإن ابن سينا يرتفع من ذلك كله محاولاً إثبات الغائية - كما قلت - فالبقعة
الواحدة إذا سقطت فيها حبة قمح أنبتت سنبلة قمح, وإذا سقطت فيها حبة شعير أنبتت
سنبلة شعير. ولايمكن أن نقول إن الأجزاء الأرضية والمائية تتحرك بذاتها وتنفذ
في جوهر حبة القمح والتربة التي فيها; إذ إن تحركها عن مواضعها ليس لذاتها,
والحركات التي لذاتها معلومة, فيجب أن يكون تحركها إنما هو بسبب قوى فاعلة.
وإذن ليس هناك ضرورة منسوبة إلى المادة, بل الصورة تطرأ على المادة من مصور
يخصها بتلك الصورة ويحركها إلى تلك الصورة, وأنه يفعل ذلك الأمر إما بطريقة
دائمة أو بطريقة أكثرية. وهذا هو المراد بالغاية في الأمور الطبيعية. أي أن
تحريكات الطبيعة للمواد إنما على سبيل قصد طبيعي منها إلى حد محدود, وأن ذلك
مستمر بطريقة دائمة أو أكثرية, وهذا لايكون بالاتفاق; إذ إن كل ما يكون دائماً
أو على أكثر الأمر ليس بالاتفاق.
 

 وهكذا يمضي ابن سينا في توضيح وجهة نظره, فكل شيء لغاية, ووجود
الشرور ومظاهر النقص لايمكن أن ينهض دليلاً على عدم الغائية والخيرية. يدل على
ذلك الكون كله سماؤه وأرضه وما فيه من نبات وحيوان, ولايصدر ذلك كله إلا عن
تدبير محكم وليس عن اتفاق, فالطبيعة تفعل من أجل شيء وجميع أفعالها تنساق في
الكون إلى غاية وخير ولها ترتيب محكم, أي ليس فيها شيء معطل ولايتم جزافاً
واتفاقاً إلا بصورة نادرة.
 

 والواقع أن هذه النظرة الغائية متغلغلة في دراسات ابن سينا إلى أقصى
صورها, فهو لايدرس صنفاً من الأصناف إلا لكي يبرز لنا غايته في حد ذاته أو
بالنسبة لارتباطه ببقية الموجودات, حتى إننا قد لانخطئ إذا قلنا إن المحور
الغائي في دراسات ابن سينا من أهم المحاور وأبرزها عنده. إنها نظرة لا يستطيع
الباحث إغفالها; إذ إنه عبر من خلالها ونظر بمنظارها إلى الموجودات في حركتها
وسكونها وتغيرها وكونها وفسادها.
 

وهذا فيما يبدو لي عيب ابن سينا الأكبر. وإذا كان نطاق هذه الصفحات
لايسمح لنا ببيان الأخطاء التي وقع فيها فيلسوفنا وما أكثرها, فإنني أكتفي
بالقول إن تركيز ابن سينا على دراسة الغائية وجعلها - إذا جمعنا بينها وبين
العلة الصورية - قمة العلل, قد أدى به إلى أن أصبحت دراسة الطبيعيات عنده دراسة
أساسها الاهتمام بالكيف لا بالكم, بتصنيف الموجودات لابقياسها. وهذا عكس مانجده
في العلوم الطبيعية في عصرنا الحاضر. ولو كان ابن سينا قد اعتبر الغائية علة
كسائر العلل, لكان اعتباره هذا قد جنبه الكثير من الأخطاء. إنها سببية مثل كل
شيء, بل هي في حاجة إلى السببية. ولكن ابن سينا لم يفعل ذلك, فطالما وجدنا عنده
مبالغة في التفسير الغائي, حتى أننا يمكن أن نقول إن بحثه في العلل الأخرى يوحي
بردها إلى العلة الرابعة والأخيرة وهي العلة الغائية.
 

وهذا يعد من جانبه - فيما يبدو لي - عجزاً عن فهم الأسباب الحقيقية,
وغلواً كبيراً. فمن الخطأ أن نجعل الأساس هو فهم غايات الطبيعة, بحيث تكون
أساساً لدراستنا لها كما فعل فيلسوفنا, بل الأقرب إلى الصواب أن تعتبر الغايات
شيئاً جانبياً, دون أن تعتبر أساساً وعنصراً داخلياً في الأسباب.
 

ولكن - إنصافاً لابن سينا - يمكن أن نقول إنه يتصور العلية في
مستواها الفيزيقي, بمعنى أن بحثه في العلل والعلاقة بينها وبين معلولاتها تتيح
أمامنا تفسيراً فيزيقياً لظواهر الكون وإن كان يعتوره بعض مظاهر القصور والنقص,
دليل هذا أننا لو انتقلنا إلى الفنون التي خصصها لدراسة النبات والحيوان
والمعادن والآثار العلوية, وجدنا أن إيمانه بالعلل يمكن التجريبي من أن يدرس
هذه الكائنات, وهذا عكس ما نجده في التفسير الميتافيزيقي للعلل عند أفلاطون
مثلاً والذي طالما نقده ابن سينا نقداً عنيفاً متأثراً في ذلك بأرسطو.
 

وسنرى حين ننتقل إلى ابن رشد, وجود مؤثرات سينوية لاحصر لها في فلسفة
ابن رشد, وخاصة أن الفيلسوفين قد تأثرا بأرسطو تأثراً بالغاً.
 

*القسم الثالث: الاتفاق والاختلاف (من المشرق إلى المغرب)*
 

أولاً: تأثر ابن رشد بابن سينا ونقده المذهبي والمنهجي
 

والواقع أن نقد ابن رشد لابن سينا لايقل أهمية عن نقده للغزالي, بل
يعد أكثر أهمية من نقده للغزالي, وخاصة إذا وضعنا في الاعتبار أنه نقد فيلسوف
لفيلسوف, أما بالنسبة للغزالي, فإنه نقد فيلسوف لمفكر متكلم أشعري صوفي.
 

ولكننا مع الأسف الشديد أسرفنا في الكشف عن ردود ابن رشد على
الغزالي, تلك الردود التي تظهر في كتاب (تهافت التهافت) الذي قام ابن رشد فيه
بالرد على كتاب (تهافت الفلاسفة), ولكننا لم نهتم اهتماماً كبيراً بتحليل أوجه
نقد ابن رشد للفيلسوف ابن سينا الفيلسوف المشرقي.
 

          وسنحاول الآن الكشف عن بضعة نماذج من نقد ابن رشد لابن سينا, وسيتبين
لنا كيف أن المنهج النقدي الذي سلكه ابن رشد في رده على ابن سينا, إنما كان
قائماً إلى حد كبير على إيمان ابن رشد بالعقل, بمعنى أن ابن سينا إذا تأثر
بمقدمات جدلية كلامية فابن رشد يجد أنه لامفر من نقده, لأن الطريق الجدلي
لايرقى إلى مستوى البرهان الذي يقوم على العقل, بالإضافة إلى أن تأثر ابن رشد
بأرسطو وإعجابه به, كان سبباً لقيامه بنقد ابن سينا. فإذا ابتعد ابن سينا عن
فلسفة أرسطو, أو فهمها فهماً خاطئاً, فإن ابن رشد يجد أنه لامفر من القيام بنقد
هذا الفيلسوف.
 

وهذا النقد ينطبق إلى حد كبير على الفارابي, وذلك إذا وضعنا في الاعتبار تأثر ابن سينا البالغ بالفارابي فيلسوف المشرق العربي.
 

قلنا إن ابن رشد ينقد ابن سينا في مجالات عديدة. وهو في الواقع لايدع فرصة تمر دون أن ينقد فيها هذا الفيلسوف ويقوم بدحض آرائه.
 

فابن رشد يعلم تماماً أن ابن سينا لم يفهم في بعض مواضع فلسفته مذهب
أرسطو كما ينبغي أن يكون الفهم, بل إنه خلط أحياناً بين آراء أرسطية وآراء
أفلوطينية. ومن هنا أراد ابن رشد تخليص فلسفة أرسطو من العناصر الدخيلة عليها,
بمعنى أنه يريد أن يقدم مذهب أرسطو للعالم الإسلامي خالياً من أخطاء بعض الشراح
والمفسرين وتأويلاتهم.
 

 ونود أن نشير إلى أن ابن رشد إذا كان ينقد ابن سينا, فإن الهدف من
ذلك لم يكن مجرد نقد هذا الفيلسوف, بل إن الهدف أيضاً بيان الأخطاء التي وقع
فيها خصمه الغزالي الذي اعتمد في أحيان كثيرة على فهم ابن سينا لأرسطو, ولم
يرجع إلى مذهب أرسطو من خلال كتبه.
 

فإذا كان الغزالي قد ظن أنه رد على فلسفة أرسطو, فإن ابن رشد يبين
لنا بحسه النقدي أن هذا الرد يعد خاطئاً, لأن الغزالي استند في تكفيره للفلاسفة
على آراء ابن سينا لا على آراء أرسطو الحقيقية. وهذا يدل على أن ابن سينا لم
ينقل رأي أرسطو كما ينبغي أن ينقله ويفهمه.
 

وهذا إن دلنا على شيء, فإنما يدلنا على أن ابن رشد طبقاً لمنهجه
النقدي وحسه النقدي يريد التمييز بين فلسفة أرسطو وفلسفة ابن سينا, ولعمري فإن
هذا الاتجاه يعد قاعدة منهجية غاية في الدقة ويجب أن نلتزم بها, بمعنى أننا إذا
أردنا دراسة آراء فيلسوف ما من الفلاسفة, فإنه لامفر من الرجوع إلى كتب هذا
الفيلسوف نفسه, ولانعتمد اعتماداً كلياً على فهم الشراح لهذا الفيلسوف, بل إن
فهم الشراح يجب أن يكون في مرتبة ثانوية لافي المرتبة الأولى.
 

فابن رشد يذهب إلى أنه إذا نسب اتهام ما من الاتهامات إلى الفلسفة,
فينبغي أن ينسب إلى المصدر الحقيقي الذي كان باعثاً على هذا الاتهام, وهو يقصد
بذلك ابن سينا على وجه الخصوص, إذ إن القصور في الحكمة إنما نتج عن أن الغزالي
لم ينظر إلى رأي أرسطو, إلا من خلال ابن سينا.
 

ابن رشد إذن ينقد ابن سينا في هذا المجال, لأنه يعرف أن بعض الأخطاء
التي وقع فيها الغزالي إنما كان مصدرها خلطه بين آراء أرسطية وآراء سينوية.
 

 بيد أن نقد ابن رشد لم يقتصر على هذا المجال فقط, بل إنه نظراً لحسه
النقدي ينقد ابن سينا في كثير من آرائه سواء في المجالات الإلهية أو المجالات
الطبيعية, ليس هذا فحسب, بل إنه ينقد ابن سينا في كثير من التفريعات والمواضع
الجزئية.
 

وسنشير الآن إلى مجرد نماذج من هذا النقد حتى ندلل على ما سبق أن
أشرنا إليه, وهو أن المنهج النقدي عند فيلسوفنا يقوم على أسس محددة من بينها
تعاطفه مع الفلسفة الأرسطية في كثير من المجالات التي بحث فيها, بالإضافة -
بطبيعة الحال - إلى محاولته الانتصار للعقل, حيث إنه إذا وجد رأياً من الآراء
لايقوم على أساس عقلي, فإنه يجد من واجبه الكشف عن الأخطاء والتناقضات الموجودة
في هذا الرأي أو ذاك من هذه الآراء.
 

 فابن سينا قد قدم لنا دليلاً على وجود الله, هو دليل الممكن والواجب,
ذهب فيه إلى أن كل ممكن الوجود بذاته إنما يوجد عن واجب الوجود بذاته, أي لابد
لممكن الوجود من علة تخرجه من العدم إلى الوجود. ولايجوز أن تكون علته نفسه,
لأن العلة تتقدم على المعلول بالذات, فيجب أن تكون علة غيره.
 

ولاشك أن هذا الدليل الذي تأثر فيه ابن سينا بالفارابي الفيلسوف
المشرقي, يعتمد على تحليل معاني الممكن والواجب والتفرقة بينهما, بمعنى أن
العالم كان في مرحلة الإمكان قبل أن يوجد, وإذا وجد أصبح واجب الوجود بغيره,
أما الله فهو واجب الوجود بذاته.
 

وهكذا حاول ابن سينا أن يقيم علية الذات الإلهية على أساس تفرقته بين
الممكن والواجب.
 

هذه هي الفكرة التي يعتمد عليها ابن سينا, أما ابن رشد فإنه بناء على
منهجه النقدي الذي يسير عليه, يهتم بالكشف عن أوجه النقص في هذا الدليل, تماماً
كما سبق أن فعل بالنسبة للحشوية والصوفية.
 

ونستطيع القول إن ابن رشد إذا كان يعلي البرهان على الجدل وعلى
الخطابة, فإن هذا يتضح من موقفه من الباحثين في موضوع وجود الله تعالى.
 

إنه بنقده للحشوية يرفض الطريق الخطابي الاقناعي, أما بالنسبة لابن
سينا, فإننا سنجد عنده رفضاً للطريق الثاني الذي يعد في مرتبة وسطي بين الطريق
الخطابي والطريق البرهاني, ونعني به الطريق الجدلي الكلامي, وإذا تم له ذلك فقد
تسنى له الصعود إلى البرهان بعد تجاوز كل من الطريق الخطابي والطريق الجدلي.
 

والواقع أن منهجه النقدي يقوم - كما سبق أن أشرنا - على رفض أي طريق
أو اتجاه يرى أنه يتعارض مع الطريق العقلي البرهاني, أو على الأقل يختلف معه
بصورة أو بأخرى.
 

فابن رشد بعد أن يعرض لدليل ابن سينا في كثير من كتبه المؤلفة
والشارحة, يبين لنا أن ابن سينا قد أذعن لمقدمة الجويني المفكر الأشعري,
القائلة إن العالم بجميع ما فيه جائز أن يكون على مقابل ما هو عليه, حتى يجوز
مثلاً أن يكون أصغر مما هو عليه أو أكبر مما هو عليه. ومرد ذلك ذهابه إلى أن كل
موجود ما سوى الفاعل إذا اعتبر بذاته. ممكن وجائز وهذه الجوائز صنفان: صنف جائز
باعتبار فاعله, وصنف واجب باعتبار فاعله ممكنًا باعتبار ذاته. والواجب بجميع
الجهات هو الفاعل الأول.
 

 وهكذا يحاول فيلسوفنا ابن رشد, إثارة الشكوى والاعتراضات وأوجه النقد
على دليل ابن سينا, مقيماً نقده على تمسكه بالعقل وعلى تأثره بأرسطو, بالإضافة
إلى أنه يريد أن يجنب الفلسفة الطريق الكلامي الجدلي لأنه لايلتقي والطريق
البرهاني الذي يعتبره ابن رشد أسمى صورة اليقين.
 

والواقع فيما نرى من جانبنا أن ابن سينا رغم تمييزه في كتبه المنطقية
بين الطريق الفلسفي البرهاني والطريق الجدلي الكلامي ورفعه الطريق الأول على
الطريق الثاني, إلا أنه تأثر بكثير من المقدمات الكلامية في بعض جوانب فلسفته,
ومنها مقدمات الأشاعرة كما كشف عن ذلك ابن رشد. وقد يكون وقوع ابن سينا وتأثره
ببعض المقدمات الكلامية الأشعرية, هو الذي أدى به إلى دفاعه في بعض كتبه عن بعض
أبعاد التجربة الصوفية, وخاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن هناك نقاط التقاء عديدة
بين الفكر الأشعري والفكر الصوفي, تماماً كما نقول إن هناك نقاط التقاء بين
الفكر الاعتزالي والفكر الفلسفي.
 

وإذا كنا قد ذكرنا أن من معالم وعناصر المنهج النقدي في فلسفة ابن
رشد, تأثره بأرسطو, فإن هذا يتضح للدارس لنقد ابن رشد لدليل ابن سينا, إذ إن
مغزى هذا النقد هو أنه لايجد عند أرسطو دليلاً على وجود الله يقوم على فكرة
الممكن والواجب. صحيح أن فكرتي القوة والفعل عند أرسطو, وانتقال الشيء من مرحلة
الوجود بالقوة إلى مرحلة الوجود بالفعل, قد نجد بينها وبين فكرة الممكن
والواجب, نوعاً من التشابه, ولكن الأساس غير الأساس والتصور غير التصور, وإلا
فكيف نفسر نقاط الالتقاء بين اعتماد ابن سينا وقبله الفارابي على تحليل فكرتي
الممكن والواجب, وبين الوقوع في التيار الأشعري. إن هذا التمييز بين طبيعة
الممكن وطبيعة الواجب يعد من بعض زواياه - كما سبق أن أشرنا منذ قليل - تأثراً
بالمقدمة الكلامية التي تقول إن العالم بجميع ما فيه جائز أن يكون على مقابل ما
هو عليه. وهذا ما أدى بالأشاعرة مثلاً والغزالي أيضاً إلى القول إن العلاقة بين
الأسباب والمسببات تعد علاقة غير ضرورية, أي لانجد ضرورة مثلاً بين النار
والاحتراق, بل من الجائز أن تؤدي النار إلى البرودة وهكذا.
 

والدليل على أن أساس الفكرة الأشعرية (الواجب والممكن) غير أساس
الفكرة الأرسطية (القوة والفعل) هو أن تصور الأشاعرة للعلاقة بين القوة والفعل
يختلف عن تصور أرسطو.
 

نوضح ذلك بالقول إن تحليل فكرة الممكن والواجب يمكن أن يؤدي إلى أن
القوة عند الفعل فقط وليست قبل الفعل, وبالتالي تكون العلاقة غير ضرورية بين
الأسباب والمسببات, أما إذا لم تعتمد على فكرة الممكن والواجب فإننا نقول إن
القوة قبل الفعل. وإذا قلنا بهذا فإن العلاقة تكون غير ضرورية بين الأسباب
والمسببات, فإذا جاء ابن سينا وأقام دليله على وجود الله على تحليل فكرة الممكن
والواجب, فإن ابن رشد ينبهنا إلى أنه وقع في مقدمات كلامية تؤدي إلى القول إن
العلاقة غير ضرورية بين الأسباب والمسببات.
 

ولعل هذا هو ما أدى بابن رشد إلى نقد كل من الأشاعرة وابن سينا حين
أقاموا أدلتهم على تحليل معاني الممكن والواجب لأنه يعلم تماماً أن ذلك يؤدي
إلى إنكار الخصائص الثابتة بين الأسباب والمسببات. وقد فعل ذلك متأثراً بأرسطو
حين كان يرد في كتابه (الميتافيزيقا) على الذين يقولون إن القوة عند الفعل فقط,
ويربط ابن رشد بينهم وبين أولئك الذين ينكرون الخصائص الثابتة الضرورية
للأشياء, كما هو الحال عند الأشاعرة والغزالي أيضاً.
 

وهكذا نجد عند ابن رشد نقداً لتفسير العلاقة بين الواحد (الله) والكثير (العالم) على النحو الذي وجد عنده الفارابي وابن سينا, ومحاولة من جانبه لدراسة هذه العلاقة دون القول بالفيض.
 

وإذا كان ابن رشد كما سبق أن ذكرنا قد اهتم بنقد الفلسفة السينوية,
فإنه لم يقتصر على ذلك, بل إن دقة ابن رشد, ومحاولة كشفه عن كل صغيرة وكبيرة من
الأخطاء التي وقع فيها ابن سينا, واهتمامه بالرجوع إلى الفكر الأرسطي كعنصر
مكون لمنهجه النقدي, جعلته يهتم بالرد على ابن سينا في كثير من الواضع الجزئية
ومنها على سبيل المثال, أن ابن سينا إذا كان يذهب إلى أن صاحب العلم الطبيعي
لايبرهن على مبادئه, وأن العلم الإلهي (الميتافيزيقا) هو الذي يتكفل ببيان
مبادئ العلم الطبيعي, فإن ابن رشد يرى أن العلم الطبيعي هو نفسه الذي ينظر في
مبادئه, فالمادة والصورة مثلاً ينظر العلم الطبيعي فيهما من حيث إنهما مبدآن
لوجود متغير, وتنظر الفلسفة الأولى فيهما من حيث إنهما مبدأ الجوهر بما هو
جوهر.
 

 وإذا كان ابن سينا يذهب إلى القول - مخالفاً في ذلك أرسطو - بوجود
قوة وهمية وظيفتها إدراك المعاني غير المحسوسة الموجودة في المحسوسات الجزئية,
كالقوة التي تدرك عداوة الذئب للشاه, وأن الذئب مهروب عنه والولد معطوف عليه.
فإن ابن رشد يذهب في معرض نقده لابن سينا إلى القول بعدم وجود هذه القوة في
مذاهب القدماء, وأن الوظيفة التي يرجعها ابن سينا للقوة الوهمية إنما هي من عمل
القوة المتخيلة, وبذلك لايكون هناك معنى لإضافة قوة جديدة أخرى.
 

 وهكذا نجد ابن رشد مهتماً بنقد الفلسفة السينوية في كثير من المواضع,
سواء كانت مواضع رئيسية تعبر عن خلاف مذهبي بين الفيلسوف المشرقي (ابن سينا)
والفيلسوف المغربي (ابن رشد) أو كانت مسائل وفروعاً جزئية لاتعبر عن خلاف مذهبي
رئيسي, وإن كانت تعد دليلاً على أن فيلسوفناً يريد الرجوع إلى مذهب أرسطو نظراً
لأن رأيه - فيما يذهب ابن رشد - يعد رأياً صحيحاً. وهذا النقد من جانب ابن رشد
لابن سينا, يدلنا بطبيعة الحال على وجود مؤثرات سينوية في الفلسفة الرشدية.
 

ثانياً: مشكلة السببية عند ابن رشد ومدى تأثره بالفارابي وابن سينا
 

 إننا إذا درسنا كتابة (تلخيص ما بعد الطبيعة لأرسطو), وكذلك (تلخيص
السماع الطبيعي لأرسطو) وجدناه يفيض في مباحث خاصة بالسببية على النحو الذي
نجده عند أرسطو, أي يجعل محور مباحثه دراسة العلل الأربع للموجودات منتقلاً من
هذا إلى الإفاضة في غائية العالم سمائه وأرضه.
 

وإذا كان في مباحثه هذه يتابع أرسطو إلى حد كبير ويوافقه في كثير من آرائه, إلا أنه لايقف عند هذا الحد, إذ إنه في معرض دراسته لمشكلة العلاقة بين الأسباب ومسبباتها, وهل هي علاقة ضرورية أم أنها ترجع إلى الله, يشن هجومه على آراء الأشاعرة وعلى آراء الغزالي الذي تابع بدوره مواقف الأشاعرة, وهذا يعني أن ابن رشد يربط بين دراسة علل الموجودات وبين نقده العنيف للأشاعرة والغزالي وكم نجد نصوصاً يصعد فيها من تقدير علل الموجودات إلى نقد الأشاعرة محاولاً تفنيد آرائهم وكشف ما فيها من أوجه خطأ.
 

وهذا الموقف من جانبه, والخاص بنقده للأشاعرة والغزالي, يتضح لنا تماماً إذا درسنا كتابه (تهافت التهافت) ومعنى هذا أن بحوثه يتمثل فيها الجمع بين دراسة العلل الأربع وبين التساؤل عن العلاقات بين الأسباب ومسبباتها, وهل هي ضرورية يقينية, أم أنها ليست كذلك.
 

ويقرر ابن رشد في دراسته لمشكلة السببية, العلاقة الضرورية بين الأسباب ومسبباتها, ويرى أن إنكار وجود الأسباب الفاعلة التي نشاهدها في المحسوسات إنما هو من قبيل الأفعال السوفسطائية.
 

 ولهذا نجد ابن رشد حريصاً على دحض رأي الأشاعرة الذين لم يعترفوا
بالعلاقات بين الأسباب ومسبباتها. فمعارفهم - فيما يقول ابن رشد تعتبر معارف
سوفسطائية إذ إنها تجحد كثيراً من الضروريات مثل ثبوت الأعراض وتأثير الأشياء
بعضها في بعض ووجود الأسباب الصورية للمسببات والصور الجوهرية والوسائط.
 

 نقول إن ابن رشد- إذا كان ينادي بالخصائص الثابتة المعينة لكل شيء
فإن هذا قد أدى إلى نقد طرق الأشاعرة والغزالي, متأثراً في ذلك بأرسطو حين كان
يرد في كتابه الميتافيزيقا على الذين يقولون إن القوة عند الفعل فقط, ويربط ابن
رشد بينهم وبين أولئك الذين ينكرون الخصائص الثابتة الضرورية للأشياء, كما هو
الحال عند الأشاعرة والغزالي.
 

وهكذا يؤكد ابن رشد أن لكل شيء طبيعة خاصة وفعلاً معيناً, وأن هذا
يتبين بوضوح في الأجسام المادية, فإن القوى التي تكون بغير نطق, إذا قرب الفاعل
منها من المفعول, ولم يكن هناك أمر عائق من خارج, فإنه ينتج عن هذا أن وينفعل
الفاعل وينفل المنفعل, فالمنار مثلاً إذا قربت من الشيء المحترق ولم يكن هنالك
عائق يعوقها عن الإحراق المحترق ضرورة. وهذا العائق يعد أمراً ضرورياً يعوق فعل
النار, إذ الأجسام تتحرك تارة بالقسر وضد الطبع, وتارة أخرى تتحرك حركة طبيعية,
فالنار تتجه إلى فوق, ولاتتجه إلى تحت إلابالقسرة وإذا كان السكون إلى أسفل يعد
طبيعياً للارض فإنه يعد غير طبيعي للنار.
 

هذا تأكيد من جانب ابن رشد على الطبيعة الخاصة لكل عنصر وفعل كل
موجود من الموجودات, وهذا التأكيد قد أدى به بعد ذلك إلى أن يحاول بكل طاقته
نفي الاتفاق العرضي والجوار والإمكان.
 

فهو يذهب إلى أن الفلاسفة قد وقفوا على صفات الأجسام من قبل أفعال كل
جسم من تلك الأجسام الخاصة بها. مثال ذلك أنهم أدركوا الصفات التي بها صار
النبات نباتاً من قبل فعله الخاص به والصفات التي بها صار الحيوان من قبل أفعال
الحيوان الخاصة به, وكذلك أدركوا أن في الجمادات صوراً بهذه الصفة تخصها من قبل
أفعال الجمادات الخاصة بها. ثم لما نظروا في هذه الصفات علموا أنها في محل من
تلك الذات, وتميز لهم ذلك المحل بانقلاب الموجودات المشار إليها من نوع إلى نوع
ومن جنس إلى جنس, بانقلاب طبيعة تلك الصفات وتغيرها, مثال ذلك انقلاب طبيعة
النار إلى الهواء, بزوال الصفة التي عنها يصدر فعل النار, وهي التي بها سميت
النار ناراً, إلى الصفة التي عنها يصدر فعل الهواء الخاص به, وهي التي سمى بها
الهواء هواء.
 

وإذا كان ابن رشد قد ربط بين السبب والعقل, محاولاً الصعود إلى القول
بعقل إلهي, فإنه يبين لنا أن التأكيد على العلاقة الضرورية بين الأسباب
ومسبباتها يؤدي إلى القول بالحكمة والغائية بالنسبة للموجودات, فالحكمة هي
معرفة الأسباب التي تقوم على منطق العقل, بحيث لو ارتفعت الضرورة في كميات
الأشياء المصنوعة وكيفياتها وموادها, كما يتوهم الأشاعرة, لارتفعت الحكمة
الموجودة في الصانع وفي المخلوقات, وكان يمكن أن يكون كل فاعل صانعاً, وكل مؤثر
في الموجودات خالقاً, وهذا عند ابن رشد إبطال للخلق والحكمة.
 

وهكذا يحاول ابن رشد في دراسته لمشكلة السببية نقد آراء بدت عنده خاطئة كآراء الأشاعرة والغزالي, منتهياً إلى جانب إيجابي, يبين لنا فيه نظرته إلى هذه المشكلة.
 

 وهذه النظرة - فيما لاحظنا - تشمل دراسة أكثر الجوانب التي تتصل بالسببية, ومحورها التأكيد على وجود علاقة ضرورية بين الأسباب ومسبباتها, علاقة تؤدي عنده إلى الاعتراف بالحكمة والغائية في الكون كله سمائه وأرضه, علاقة تربط بين عمل الأسباب وعمل العقل في الإنسان.
 

ولعلنا لو تساءلنا عن أبرز الأخطاء التي نراها في موقف ابن رشد من
السببية, لقلنا إن أبرز هذه الأخطاء تتمثل في خلطه بين مجالات مادية طبيعية
ومجالات إلهية ميتافيزيقية, ولعل الدارس لمحاولة ربطه بين القول بالأسباب,
وتقرير الحكمة والغائية في الكون, يلاحظ هذا تمام الملاحظة, إنه يبدأ بالتحليل
الدقيق لجوانب المشكلة, ولكنه سرعان ما يغوص في متاهات لاصلة بينها وبين ما
ينبغي أن يكون علي التحليل للعلاقة بين السبب والمسبب الذي ينتج عنه, إنه خلط
وضرب في متاهات, أضاعا عليه إبراز زوايا وأبعاد ومجالات المشكلة في وحدة
متكاملة.
 

هكذا نرى أن ابن رشد إذا كان قد تأثر تأثراً كبيراً بالفارابي, وابن سينا, إلا أننا نجد نقطة رئيسية في الخلاف وتتمثل في إصرار ابن رشد على أن دليل الممكن والواجب عندهما قد يكون مؤدياً إلى عدم الإصرار على العلاقة الضرورية بين الأسباب ومسبباتها.
 

ثالثاً: فكرة الغائية في إلهيات ابن رشد ومدى تأثرها بالفلسفة السينوتية:
 

اهتم ابن رشد اهتماماً بالغاً بفكرة الغائية وربط بينها وبين العناية الإلهية لقد اهتم اهتماماً كبيراً بالتدليل على وجود الله تعالى, إنه بعد قيامه بنقد بعض الاتجاهات التي سبقته كالاتجاه الصوفي والاتجاه الكلامي الجدلي, يقدم لنا أكثر من دليل على وجود الله تعالى.
 

من هذه الأدلة دليل يعتمد على فكرة العناية الإلهية أو الأسباب
الغائية, وإذا كان ابن رشد قد اهتم بإقامة دليل يقوم على هذه الفكرة فإن هذا
يعد تأكيداً لهذه الفكرة - فكرة العناية الإلهية أو فكرة الغائية - كما سبق أن
اهتم بها المعتزلة أثناء دراستهم لأصل العدل الذي يعد أصلاً من أصولهم الخمسة.
 

ويذهب ابن رشد إلى أن الهدف من هذا الدليل: الوقوف على العناية بالإنسان وخلق جميع الموجودات من أجله.
 

 كما يشير على أن هذا الدليل يتعرف على الله بمصنوعاته, وهي طريقة الحكماء, فهو يقول إن الشريعة الخاصة بالحكماء هي الفحص عن جميع الموجودات, إذ كان الخالق لايعبد بعبادة أشرف من معرفة مصنوعاته التي تؤدي إلى معرفة ذاته سبحانه على الحقيقة, الذي هو أشرف الأعمال عنده وأحظاها لديه, أي أن من أراد معرفة الله معرفة تامة عليه الفحص عن منافع جميع الموجودات.
 

ويمكن نظم دليل ابن رشد هذا, والذي يقوم على الاعتماد على فكرة الغائية وفكرة العناية الإلهية, في صورة قياس كالتالي:
 

العالم بجميع أجزائه يوجد موافقاً لوجود الإنسان والكائنات.
 

كما يوجد موافقاً في جميع أجزائه لفعل واحد ومسدداً نحو غاية واحدة فهو مخلوق.
 

العالم مخلوق ضرورة وله خالق:
 

ولا يكتفي ابن رشد بالتدليل على وجود الله تعالى بالاعتماد على فكرة العناية الإلهية, بل يقدم لنا دليلاً ثانياً يرتبط من بعض زواياه بالدليل السابق, وهذا الدليل هو دليل الاختراع.
 

وهو يقيم هذا الدليل على أصلين هما: هذه الموجودات مخترعة, كل مُخْتَرَعٍ له مُخْتَرِعٌ.
 

فإننا إذا رأينا أجساماً مادية ثم رأينا الحياة تحدث فيها, علمنا علم
اليقين أن هناك موجوداً أوجدها, فلكل شيء سبب, ولاشيء يحدث مصادفة, أما السموات
فنحن نعلم من قبل حركاتها التي لاتفتر أنها مأمورة بالعناية بما ها هنا ومسخرة
لنا, والمسخر المأمور مخترع من قبل غيره ضرورة, فإذا اجتمع الأصل مع الأصل
الثاني, الذي يرى أن كل مخترع له مخترع, صح لنا أن للموجود فاعلاً خالقاً له
ومخترعاً له.
 

والواقع أن ابن رشد يقدم لنا الكثير من الأدلة على وجود الله تعالى,
ولعل أهم أدلته هي تلك التي سبق أن أشرنا إليها, وهذا يدلنا على اهتمام ابن رشد
اهتماماً كبيراً بالتدليل على وجود الله تعالى, ومن الواضح أنه تأثر تأثراً
كبيراً بحديث ابن سينا المستفيض عن الغائية والعناية الإلهية, وقد سبق أن أشرنا
إلى أن ابن سينا قد اهتم بدراسة العلة الرابعة, العلة الغائية, وانطلق منها إلى
نقد المصادفة, وإثبات أن العالم كله تسوده العناية الإلهية والغائية.
 

*رابعاً: شرح ابن رشد لكتاب الميتافيزيقا لأرسطو ومدى تأثره بالفكر المشرقي
(الفارابي - ابن سينا):*
 

1) تمهيد:
 

قلنا منذ سنوات عديدة وفي أكثر من مناسبة, أنه من الخطأ أن نبتر
فلسفة أي فيلسوف من فلاسفة العرب, بأن نقصر فلسفته على ما تركه لنا من المؤلفات
ونستبعد ما قام به من شروح على فلاسفة اليونان, ويقيني أننا لو غيرنا اتجاه
دراستنا لفلسفات هؤلاء الفلاسفة, أي فلاسفة العرب, بأن نجمع بين المؤلفات
والشروح, لتوصلنا إلى نتائج جديدة تختلف اختلافاً جوهرياً ورئيسياً عن تلك
النتائج العقيمة والتقليدية, بل الخاطئة, التي توصل إليها نفر من الدارسين
والتي مازالوا حولها يدورون دون أن يتقدموا خطوة إلى الأمام.
 

وإذا كنا قد قلنا هذا - كما ذكرت - أكثر من مرة, وقدمنا على ذلك أكثر
من دليل, فإننا نريد اليوم أن نكشف عن المؤثرات الفارابية والسينوية في فلسفة
ابن رشد من خلال تفسيره لأرسطو.
 

معنى هذا أن ما يدفعنا لدراسة ذلك السفر الضخم, تفسير ابن رشد
لميتافيزيقا أرسطو, الذي تقترب صفحاته من ألفين, ليس مجرد عرض كتاب لابن رشد,
لقي إهمالاً غريباً من جانب كثير من الدارسين للفلسفة الرشدية, وخاصة الدارسين
العرب, رغم أنه يعد أعظم كتبه على الإطلاق, بل إن الهدف الرئيسي من دراستنا
لهذا الكتاب النفيس, تقديم دليل يبدو لنا قوياً على تأثره بكتاب الحروف
للفارابي, والشفاء لابن سينا.
 

 2) كتاب تفسير ما بعد الطبيعة : مدى معرفة العرب بهذا الكتاب - تفسير ابن رشد له:
 

إذا كان ابن رشد - كما أشرنا فيما سبق - قد بذل أقصى عنايته في تفسير
وتلخيص كتب استاذه أرسطو فإن من أهم وأبقى الآثار الفلسفية لفيلسوفنا ابن رشد
كتاب (تفسير ما بعد الطبيعة).
 

ولابد من القول بأن تفسيره هذا, وهو نوع من الشرح الأكبر, لايتضمن
مجرد شرح كتاب الميتافيزيقا لأرسطو, وإيراد الترجمة العربية لكتاب يعتبر من أهم
مؤلفات أرسطو, بل يحتوي أيضاً على آراء كثير من شراح أرسطو, الذين عرض ابن رشد
لآرائهم وانتهى إلى تأييدهم أو معارضتهم, مثل نيقولاس الدمشقي, والإسكندر
الأفروديسي, وثامسطيوس, هذا بالإضافة إلى رجوع فيلسوفنا لفلسفة ابن سينا
فيعرضها ثم ما يلبث أن يشن عليها وعلى فلسفته في أكثر المجالات, هجوماً عنيفاً.
 

ولهذا فإننا يمكن أن نعتبر تفسيره هذا, من الكتب التي تضمنت فلسفته,
شأنها في ذلك شأن كتبه الشارحة الأخرى, فهو كما قلنا يناقش ويحلل ويفند آراء
بدت عنده خاطئة بل يدخل في تفسيره هذا جانباً إيجابياً في مذهبه, سنراه واضحاً
تمام الوضوح, ومن هنا كان لابد من الرجوع إلى شروحه على كتب أرسطو وخاصة هذا
الكتاب, إذا أردنا أن نتعرف على حقيقة مذهب فيلسوفنا في كل مجال من مجالاته.
 

أما عن تاريخ كتاب ميتافيزيقا أرسطو عند العرب,وكيف توصلوا إلى
ترجمته, فإننا نجدهم يطلقون عليه اسماء أربعة هي: ما بعد الطبيعة, الإلهيات
الفلسفة الأولى, كتاب الحروف نظراً إلى ترقيمه حسب حروف الهجاء اليونانية.
 

ولكن الشائع عند ابن رشد تسميتان هما: الفلسفة الأولى, وما بعد
الطبيعة, فهو يقول في تلخيص ما بعد الطبيعة: (ويشبه أن يكون إنما سمي هذا
العلم, (علم ما بعد الطبيعة) من مرتبته في التعليم, وإلا فهو متقدم في الوجود,
ولذلك سمى الفلسفة الأولى).
 والواقع أن العرب لم يتوصلوا إلا إلى اثنتي عشرة مقالة من المقالات
الأربعة عشر التي يتألف منها كتاب الميتافيزيقا لأرسطو, رغم أن قول ابن النديم
يشير على أن حرف (نو) قد يكون موجوداً باليونانية بتفسير الإسكندر.
 

أما ابن رشد, فإن تفسيره لايحتوي إلا على أحد عشر حرفاً, فهو لم يفسر
حرفي الميم والنون, كما أن مقالة الكاف على ما يبدو لم تصل إليه, دليل هذا أنه
يقول قبل شرحه لمقالة اللام, وبعد أن شرح مقالة الياي (الإيوتا) : (فهذا هو
الذي نجده في ترتيب المقالات التي وصلت إلينا التي هي قبل مقالة اللام, ولسنا
نجد بحسب ترتيب الحروف, مقالة الكاف ولا وصلت إلينا.
 

وعلى ذلك تكون المقالات التي فسرها هي: الألف الصغرى والألف الكبرى
والباء والجيم والدال والهاء والحال والطاء والياء واللام.
 

وهؤلاء هم الذين قالوا إن المبادئ هي التعاليمية والأعداء, وإنما
يعاندهم - أي أرسطو بعض العناد في هذه المقالة - أي مقالة اللازم - ويرجئ تمام
القول في مناقصتهم إلى المقالتين اللتين بعد حرف اللازم وهما مقالة الميم
والنون.
ثم إنه يقول بعد ذلك بقليل: ولما فرغ - أي أرسطو - من رأيه في مبدأ
الكل - موضوع مقالة اللام - عاد إلى معاندة ما قاله من تقدمه في مبادئ الجوهر
وذلك في المقالتين المرسوم عليهما حرف ميم وحرف نون.
 

وإذا رجعنا إلى هاتين المقالتين من ميتافيزيقا أرسطو, تبين لنا صحة
هذا القول: إذ هما في الواقع مقالتان نقديتان تبحثان أساساً في المذاهب التي
تعتقد بالأعداد أو الصور كحقيقة للكون.
 

أما عن درجة اهتمام فيلسوفنا بتفسير مقالة من هذه المقالات الإحدى
عشرة, فيمكننا القول بأن ابن رشد إذا كان قد اهتم اهتماما

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

Rahakmedia - Germany

 

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا