|
|
---|
|
صوت اليسار العراقي
تصدرها مجموعة من الكتاب العراقيين webmaster@saotaliassar.org للمراسلة |
---|
رحلة صيد في نهر (( النمش))
بقلم : حميد الحريزي
الشاعرة فليحة حسن
في هذه الصفحات نحاول إن نجد باب لدخول ملعب نص الشاعرة فليحة حسن والموصوف رواية((نمش ماي)). المكونة من ((37)) صفحة من الحجم المتوسط الصادرة عن دار ينابيع-سورية-دمشق ط1 في 2010.
نرى إن النص يمكن إن يصف معاناة الإنسان العراقي في ظل النظام الديكتاتوري ومعاناته بعد ((التحرير)) في 9-4-2003. أي إن الكاتبة تحاول أن تلقي نور الكشف على كهوف ودهاليز المرحلتين وما جرى داخلها في ثلاثة أجزاء للنص ((الروائي))، ونرى أن الفصل الثاني يبدو فصله واستقلاله هو فعلا قسريا عن مولده الجزء الأول حيث يدور السرد في ظل التسلط الديكتاتوري وماسي نظامه نظام القهر والتسلط ومصادرة الحريات والكرامة الإنسانية. , ولكن الكاتبة لم تغفل أن تصف صورا لحدث قادم يبدو لا علاقة له بسياق السرد حيث وصف حالة الاستسلام المذلة للقوى المحتلة- الفانيلات البيضاء علم استسلام مذل- وإلقاء القبض على الديكتاتور مختبئا في جحر جرذ من الرواية(( لم نجده بعد... وقد فتنا ومازلنا عنه ولم نعثر إلا على جحر جرذ سنفتشه بعد قليل انتهى...))1 فهي حالة ربط بين السبب والنتيجة.
يبدأ الجزء الأول من النص ب(( امتدت كفاه إلى جسدي الغافي بانتظار لمسة احدهم)[1]). فالكاتبة أبدعت حقا مستحضرة روحا شعرية تنث ني منعشا لروح وجسد القارئ، إنها تنطق الحجر الطابوق حيث يتابع القارئ فتاة عاشقة عطشى للمسات الحبيب المتخيل، فتصف خلجات جسمها وردود فعلها لا نأمل الحبيب ، يكاد القارئ يصدم وهو يكتشف إن المتحدثة هي الطابوقة، بحيث أصبحت هذه الطابوقة المأنسنة على يد الكاتبة إلى احد شخصيات وشهود ومتحدثي وساردي النص لا بل أكثرهم رقة وإحساسا مرهفا محملا بالمشاعر النبيلة، تعي وتساؤل عن صيرورتها وتحولاتها على يد الإنسان حيث اقتلعت من منبعها الأول ((الطين)) (( من أنا ألان، لم استيقظ إلا على صوت احدهم وهو يصرخ :- اتركها، لص)) لا تتصوروا شدة فرحتي وهو يضعني إلى جنب صواحبي ويصب علينا(جص) رطبا سرعان ما سرت برودته إلي))[2] ص20 من الرواية(( تقرفصت كجنين وصار حبل أفكاري يضغط علي فلم أجد سوى التوسل بهلام شفاف اسمه القدر))[3] من الرواية واضح من كلام ومشاعر الطابوقة و إنها لم تكن جزاء في بناء دار سكن أو بناية معمل أو مستشفى أو مدرسة بل هي جزء من سيطرة وسور سجن وشاهد موت رجل حر ، فمن خلال مشاعر وإحساسات طابوقة تطالب فليحه النفس الإنسانية أن تعي طموحاتها واستلابها وضياعها ونشوتها وتساميها وتفاهتها وهي وحيدة وهي مع الجماعة فوق أو تحت سواء كانت وسيلة طرد اللص أو سيطرة حكومية تشهد تنمر من فيها من ذوي القبعات الحمر على أبناء وطنهم بينما يصنعون من فانيلاتهم البيضاء علما للنصر المهزوم امام الغازي ((المخلص)). أو تكون جزءا من جدار لسجن الأبرياء وقرابين الفداء ولتكون شاهدا وموثقا لعذابات الإنسان المقيد المقهور، شاهد لخنوعه وصناعته للمستبدين وعدم إدراكه لسبب عبوديته وقهره فيلقي اللوم على القدر واقع مرير ينطق الحجر فما بال الإنسان يظل قابعا في آلة خنوع واستسلام(( القدر يستهدين بنا دائما... يضعنا نطفا في أرحام لا نختارها... ويسحبنا إلى ارض نجهلها... ويسوقنا رجالا إلى مذبحة لا نعي كنه وجودها.... كل الوجوه التي نحيط بك جيء بها وقودا لأتون موت يفور ولا ينطفيء إلا بانتهائنا أجمعين))[4] .
((ما زرعناه سنحصده)).
ببراعة شاعر تصف الكاتبة حالة اللامبالاة لحياة الإنسان المضطهد ، الإنسان المتطلع للحرية والانعتاق والذي يرفض الإحكام الجائرة وصف لمدى وحشية ولامبالاة أجهزة السلطة بحياة الناس ومدى رخص حياة الإنسان المواطن في نظر السلطة وأزلامها وشرطتها، فبعد مقتل الشاب البريء الذي انتخى لقيمه كجار وكانسان يتحلى بقيم الشرف والنخوة والدفاع عن الضعيف، يسال الضابط الجندي الذي أتى بخبر مقتل الشاب الهارب للخلاص من السجن.
((الضابط:- وهل أصاب السور شيء؟؟؟ يجيب الجندي:- لا، لا سيدي فقط سقطت منه ((طابوقة)) رايتها على الأرض بجانب الجثة)[5])!!!
أية مخلوقات هذه التي يهمها سور السجن أكثر من حياة إنسان.
((الحارس النعسان التقط من مكان الطبخ بعض العظام ورماه لهن- الكلاب- وهو يمضغ كلمته المعتادة:
-عفيه..))[6] وهي إشارة تعيد القارئ إلى هذه (العفيه)) التي كانت تعني تكريم((إعطاء عظام)) من قبل الدكتاتور لحراسه و لبنات نظامه وحماته.
تواصل الكاتبة إعادة الحياة للطابوقة حاملة روح وذكرى القتيل والشاهد على مصرع الهارب صوب الحرية والتي ستعيدها أم الضحية النهر رحم الإنسان الأول.....
يتناول الجزء الثاني من الرواية وصفا لمدى قوة وعناد وثبات المرأة العراقية- الأم- وهي تعيش عذابات وإلام أبناءها وذهابهم وقودا لمظالم وحروب السلطات الاستبدادية، تحاول الكاتبة أن تنعش السرد بشيء من عادات وتقاليد العراقي المكافح المقهور البسيط وتربطه بمنبع وجوده الأول حيث تشكو الأم المفجوعة ب(وليدها) للنهر مخاطبة إياه (( يا جاري زينب ردلي وليدي))[7] ص38 ثم ترمي الطابوقة حاملة بقايا ذكرى ومؤتمنة سر وصيته إلى مجرى النهر، هذا النهر الذي يتنمش خده الصافي بجثث ضحايا الانفجار الإرهابي في بغداد في زمن ((التحرير)) حاملا روح الإنسان وجسده مؤتمن سره وحبله السري.
ومن أروع وصف واحتجاج الكاتبة على معاناة مدن العراق في زمن الاحتلال وصفها لشوارع بغداد حيث تقول(( صرنا نتعرق في شوارع تقمطها الاسلاك الشائكة والصبات الكونكريتية التي لم تفلح الرسومات الموشومة عليها بإخفاء قيحها))[8].
إن المتلقي يرى ويسمع صراخ الشارع البغدادي ((الطفل)) وهو يتلوى ألما وقد انغرست مسامير الاسلاك الشائكة في جسمه الطري، ومدى شعوره بالاختناق من هول ثقل الصبات الكونكريتية الجاثمة على صدره، وقد كان اختيار وصف(( مقمط)) ذكيا ورائعا ومكثفا لدرجة المأساة التي يعيشه العراق أرضا وشعبا حيوات وجمادات، إنها لوعة ما بعدها لوعة وشهقة تنتفض لها حتى وحوش الغاب وبرابرة العصور السحيقة، هذا الوصف يرد في الجزء الثالث ، جزء واقع الاحتلال للبلاد والذي هو نتيجة طبيعية لحال الشعوب والبلدان المحكومة من قبل قوى استبدادية شمولية ديكتاتورية تصادر حريات وكرامات وحيوات الناس كما وصفته الكاتبة في الجزء الأول والثاني من النص ((الروائي)).ف((ليست الرواية من عمل الخيال أكثر مما هي انعكاس للواقع: إذ يكمن جوهرها وصفتها الضرورية في الارتباط مابين ما هو واقعي وما هو خيالي))[9].
ومن الملاحظ أيضا أن ((نمش ماي)) حروف بلا نقاط، فقد ظهر النص على خلاف ما اعتدناه في السرد الروائي والقصصي أن نقرا وصف لحركات وسكنات وتعابير وجه الشخصية الروائية وطريقة كلامها في الحزن والفرح والخوف والترقب أو في الجد والهزل في حالات الرفض أو التسول الأخلاقي وما إليه من مشاعر إنسانية، مما لا يترك في ذاكرتنا أية صورة متخيلة للشخصية الروائية تميزه عن غيره من الشخصيات، فهناك صورة باهتة صورة سالبه غير مظهره للسائق والشيخ وللشرطي و..و..و بينما يمكنك إن تتصور حالة الطابوقة وشكلها في فرحها وحزنها في تمددها وتكورها مسترخية أو مخنوقة أي انسنة الجماد وتجميد الإنسان؟؟؟!!!
كذلك فان شخصيات النص لا تعيش أي حوارا أو صراعا داخليا فلا تساؤل ولا استرجاع صور ولا همس داخلي ، باطن آسن ومظهر متحجر، حيث تبدو الكاتبة لا تريد أن تقحم علم النفس وأثره في رسم الشخصية الروائية وهو أمر هام في فهم دواخل ومشاعر وكوامن الشخصيات الروائية ومصباحا ينير دهاليز الشخصية وكهوف لاوعيها.
أرى إن روح الشعر وحسيته هي المسيطرة على أسلوب وطريقة السرد فالكاتبة في نمش ماي تظهر سلوك شخوصها كفعل ورد فعل دون وصف أو فهم للمصنع والمختبر الداخلي الذي خلق وصنع هذا الفعل.
غياب البطل!!
الكاتبة لا تسمي بطلا محوريا ((للرواية)) بل تجعله يعمل ويتمظهر من خلال ثنايا النص فهو فاعل مستتر تقديره الحاكم الفرد المستبد المهيمن يتمثل بأذرعه وأصابعه ولوا مسه القمعية والتنفيذية بمختلف مستوياتها ومراتبها، ذئاب وكلاب بشرية تحركها غريزة الخوف والسادية والتملق والخنوع التام للرئيس والتنمر والفرعنة على المرؤوس ناهيك عن المواطن العادي موضع الشك والتهمة والقصور الدائم امام السلطان، وقد أبانت الكاتبة هذا من خلال سلوكيات ذوي القبعات الحمر في السيطرات ،وسلوك السجان وجنوده تجاه السجناء الأبرياء وتجاه ذويهم.((إن الروائيين الواقعيين بحق اليوم هم علماء اجتماع، فلم يعد يكفي إن يصغوا للبشر لكي يفهموهم بل لابد أن توجه إليهم الأسئلة))[10] .
إن قاريء هذا النص وكما اسماه الأستاذ عبد الإله الصائغ((الرواية القصيرة جدا)) يفتقد أول ما يفتقد لصورة واضحة للبطل كما هو معتاد في الرواية والقصة لغاية الآن كما نعلم وان يكن الصائغ يتحدث عن تجارب من هذا النوع لكتاب آخرين.....
وبذلك استطيع القول إن هذه الرواية القصيرة جدا هي رواية تغوص في واقع عالمي ومحلي ملتبس واقع قبح البطل الفاعل المحرك المهيمن المسيطر على مقدرات العالم والذي يسعى لان يصنع العالم وفق ما يريد ويشتهي، أن يعتصر الإنسان إلى أقصى حد ممكن ليدر عليه بمزيد من الربح والثروة، يملأ العالم ضجيجا وضحايا وبهرج ومسوخ وقرقوزات من كل الأجناس والأشكال والأنواع ، مرتديا مختلف الأقنعة كالدين والديمقراطية والعدل والمساواة وووو لإخفاء وجهه القبيح ممثلا بالعولمة الرأسمالية في دورها الإرهابي هو صورة متطرفة للامبريالية الأمريكية راعية الديكتاتوريات ومصنعة الإرهاب كوسيلة لخنق حريات الشعوب وتخليق عدوا وهميا مسيطر عليه مطلقا على نفسه بالمقاوم لشرور أمريكا، هذا ((الطنطل)) الذي يمكن تسميته بخطاف خيارات الشعوب في الثورة والمقاومة من اجل استرداد حريتها والتمتع بثرواتها(( كالقاعدة وابن لادن وأبو طبر ووو)) قتل واختطاف وحرق أبناء الشعب الأبرياء في مختلف مناطق العراق ومن كل القوميات والطوائف والطبقات والأجناس كل ذلك بدعوى مقاومة الاحتلال!!!!!!
إما غياب البطل الحقيقي المقاوم الفاعل فمرده ، عدم وضوح ونضوج واكتمال ملامح ومعالم وأدوات خياره الجديد ،(( أحلام)) مغتصبة ومقتولة على يد مختار فاسد ومجرم ، وروح متحررة مغامرة تفقد حياتها مقابل إسقاط طابوقة واحدة من سور السلطة الضخم، و((غالب)) مغلوب أمانيه ورسالته متهرئة تائهة لا تعرف طريقها إلى المرسل إليه،((شيخ)) مدعي دين مراهق متصابي، جمع سجين مستسلم لقدره ومصيره، كسير حسير مستكين؟؟؟!!!!!
هل هناك تواطيء بين الكاتب والواقع لإبقاء المهيمن مستورا والمقاوم عاجز مغدور ، هل إن واجب المثقف الأديب والفنان أن لا يتجاوز عمله عمل حامل آلة التصوير ، وهل أن الواجب هو الوصف دون أن يساهم في تصنيع وإنضاج أداة التغيير عن طريق الكشف عن ماهية وصورة البطل المغير والسلطان المدمر. أم انه كف إن يكون نبيا وطليعة ووصيا على عقول وسلوك جمهور مستسلم قطيع يبحث عن راعي وأسير يبحث عن مخلص كما في الروايات والقصص المؤدلجة، وقد اخذ دور المصباح الكاشف عن مظاهر وجواهر الجمال وعن ظواهر القبح والفساد وترك للمتلقي الفطن الخيار...بمعنى احترام عقل المتلقي وسحبه للمشاركة في اختيار طريق الخيار والخلاص من قيود القهر والاسنغلال والإفلات من دائرة ومستنقع القبح إلى فضاء الحرية
فهل نمش ماي ريادة اقتحام أم حالة استسلام لواقع فاسد مرعب ظالم؟؟؟
إن النص باجزاءه الثلاثة يفتقد للبطل، وقد يبدو إن لكل جزء بطله الذي لا تبدو قامته تعلو على من يجاوره من الشخصيات على العكس مما كان في الروايات أو القصص التقليدية حيث كان البطل جبلا عالي الهام واضح المعالم معروف الجذور والانتماء، إما بطل ما سمي ب ((الرواية القصيرة جدا)) فهو غير واضح المعالم يكاد يندمج مع من حوله، يتحاور ويتجاور مع البشر والحيوانات والجمادات التي تشاركه الحدث، نرى إن هذا الغياب سواء بوعي من الكاتبة أو لا فأنه دلالة واضحة على عدم وجود طبقة اجتماعية مهيمنة في مجتمع متشظي مشرذم مستهلك وغير منتج ، حيث أصبحت حالة تداخل الطبقات والفئات بعضها ببعض وانعدام حدودها وعدم وجود تميز هذه الطبقات بعضها عن البعض كما في بلدان العالم الأول، فهذه خاصية ألبلدان التابعة في زمن العولمة الرأسمالية مما كان له انعكاس فاعل في وعي الكتاب والأدباء والفنانين ليتكلموا عن كتل هلامية وخليط غير متجانس وجغرافيا بشرية تضاريسها لا تحتوي على قمم عالية مميزة بل كثبان رملية متحركة سرعان ما تظهر وسرعان ما تختفي في حالة تغير وعدم ثبات بشكل دائم، ومثل هذا الوضع يخدم ((العقل الأكبر)) كنية المتحكم في العالم المتقدم كما اسماه الدكتور عبد الهادي الفرطوسي في رواية(( الزمن الحديدي)) ليبقى متواريا عن الأنظار أو مصنعا عمى الألوان لعدم ألفات النظر لهمجيته وغروره وإجرامه، ونتيجة لذلك ظهرت الشخصيات بدون أسماء وبدون صفات أو مواقع في عملية الإنتاج الاجتماعي فاختلط الحابل بالنابل، اختلط المنتج بغير المنتج والصانع والمبدع بالطفيلي المستهلك، تعدد الإعمال الهامشية وتعدد الهويات، فمرة معلم أو عامل أو بائع مفرد أو سائق تاكسي بما يفقده هويته المهنية وبالتالي يشوش وعيه الطبقي، وهذا ما يراد ترسيخه في عقول وفي وعي ولاوعي اكبر عدد من الفئات والشرائح والطبقات الاجتماعية المقهورة والمستغلة والمستلبة ، وسيكون دور الطبقة المثقفة وخصوصا من الأدباء والفنانين كبيرا في ترسيخ مثل هذه القناعات والرؤى المضللة وان مرت تحت غطاء التجديد والتجريب والتجريد، وكأنها موجة اللا بطل واللا محدد واللا معروف هي حالة تترجم استسلام وخنوع البرجوازية في مرحلة تفسخ الرأسمالية المعولمة وليست تواصلا لرفضها والتمرد عليها كما تمظهرت به المدارس السابقة كالدادائية والسريالية والوجودية.((اللا بطل/ anti- heroاللا أجتماعي والمنغلق – ميال إلى التأمل في قدره الكوني المفروض عليه الذي لا يستطيع منه مهربا))[11] .
وقد افرز هذا الواقع المائع والملتبس وتداخل الطبقات والمفاهيم والصفات بعضها ببعض إلى بروز ظاهرة (( سوبر ماركت الكاتب)) حيث نرى إن العديد من كتابنا يطمح أن يكون شاعرا وناقدا ومحللا سياسيا وكاتب قصة ورواية...الخ وكأنه يماثل سوبر ماركت السلع والبضائع متناسا إن هذه البضائع مؤشر على كل منها مناشئها المختلفة، ومع احترامنا لتعدد المواهب وهو أمر موجود بلاشك ولكننا يجب أن لانستهلك ولا نشتت قدراتنا في أكثر من توجه واختصاص ومجال إبداع وكأننا لا نعرف هويتنا ولا ندرك موهبتنا نقول هذا كي لا نعود لنندب البخت إن لم نحرز نجاحا في أي من هذه الاهتمامات مرددين القول الشائع((سبع صنايع والبخت ضايع)) فهل هو ضياع البخت أو ضياعنا نحن، وكأننا لا نريد أن نترفع على واقع الكثبان المتحركة ولانطمح أن نكون قمما في الشعر أو القصة القصيرة أو الرواية أو النقد الأدبي ، نتمنى للمبدعة الشاعرة فليحه حسن إن توفق في تشييد قممها في الشعر والقصة القصيرة والرواية والنقد(( فعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم)).
الهروب هو الحل، الخارج هو الخلاص!!!
((لا...لا... لن تثبطوا عزيمتي لن أموت قلت لن يقتلوني انظروا إلى هذه الجدران العالية سأتسلقها وسأعبر إلى هناك لن اجعلهم يمسكونني سأهرب خارج الوطن الذي فطمنا من حنانه إلى الأبد.....
-كل أرواحنا تحلم بالخارج، تتوق لضوئه،)) [12].
وهنا نرى مدى الانكسار والإحباط الذي يهيمن على الفرد المقهور في هذا البلد، المفطوم عن حنان وطنه بشكل نهائي وابدي لطول فترة قهره واستغلاله ، فلا يرى حلا إلا بالهروب للخارج لبلاد النور والحرية والخلاص كما يرى بقية سجناء السور فكل أرواحهم تحلم بالخارج للخلاص من الموت الذي يهطل عليهم كهطول المطر وهم يرون في ((... الموت خلاص جميل)) ، فما عساهم يقولون وقد أتاهم الخارج ((المخلص)) ليكون سببا في تناثر جثث ضحاياهم وانكسار جسورهم وأنهارهم حاملة جثث موتاهم بدل أن تكون حاملة للنماء والحياة والفرح... أية دراما سوداء تلف هذا الإنسان العراقي الحائر الذي لا يتحالف الداخل والخارج إلا من اجل قتله وقهره وقتل أحلامه، جرذ يستدعي قط وقط يستدعي كلب... أحداث تداهمك بقسوة مفرطة كما هو حال مشاهد المداهمات وقنابلها الصوتية المفزعة في ظل واقع امني منفلت ومخيف... يلتبس فيه فرز الحامي من ألحرامي، المقاوم من المساوم، الكل ملثم وأنت دائما في دائرة الشك والأسلاك الشائكة.......
ازدواجية السلوك وهيمنة ثقافة الريبة والشك والخوف:-
تلفت الكتبة النظر ولو بومضات ومقاطع قصيرة دالة على تفكك الكونفورميا الاجتماعية الايجابية في عهد الديكتاتورية والاحتلال ...حيث يظهر مدعي التدين الورع على حقيقته من خلال مضايقة المرأة التي شاركها الجلوس على كرسي واحد في السيارة المتجهة صوب مدينة بغداد وهو يتظاهر بالعلم والورع من خلال مسبحته السوداء وقراءته لكتابه الأسود المذهب((إن حركة قدمه التي لا تفتر تحاول الاقتراب ن فريستها الهاربة ))[13] .
مختار السلطة وشرطيها السري... يختار الرذيلة والاعتداء على الأعراض وسلب الأمن والأمان من البيوت بدل أن يكون موطن أسرار الناس ومحل ثقتهم ومثلهم في الأخلاق الفاضلة والالتزام كما هو معروف عنه سابقا، مثل هذه المسوخ التي برعت السلطات الاستبدادية في تصنيعها لخدمة أهدافها ككلاب صيد ضد أبناء الشعب ممن يشاكسون ظلمها وتعسفها واستبدادها ، بالرغم من إن الكاتبة لا تغفل الإشارة إلى وجود بقايا من حملة الكونفورميا الايجابية مثل جار أحلام والطباخ في السجن وبائع الشاي الذي أنقذ المرأة من الموت المحقق على أيدي راكبي الدراجة، ومن تطوع لدفن الامراة العجوز أم الضحية...
ومن ألاشارات والدلائل الهامة في الرواية هي انهيار الجسر بين ضفتي النهر بين ضفة الموت والخراب والدمار وضفة الأمن والسلام حيث تعذر العبور(( بسرعة اركضي ولا تحاولي التوقف الا عند الجانب الآخر من النهر اركضي ليس لك نجاة إلا في الضفة الأخرى....))[14] .
بائع الشاي الذي تظاهر بأنها من عائلته واتت إليه لأنه تأخر اليوم كي يدفع عنها خطر الموت على أيدي راكبي الدراجة القتلة على الهوية.
هشاشة في بناء الحبكة السردية لحدث مقتل ((أحلام))
في واقعة مقتل ((أحلام)) على يد المختار نرى إن هناك هشاشة واضحة في حبكة السرد حيث يبدو الحدث غير مبرر فالمختار طلب المتعة الجنسية من أحلام وليس قاصدا قتلها وان الخطر كان صادرا من الشاب حامل السكين الذي باغت المختار طالبا منه تركها لحالها مهددا إياه بسكين المطبخ، فكان المفترض أن يضرب أو يقتل الشاب الجار وليس أحلام الخائفة المذعورة؟؟؟!!
وتأتي عبارة (( هجم علي وسحب من يدي السكين وأسرع راكضا إليها كانت تقف إلى جانب تقف إلى جانب الباب الموارب وغرسه في بطنها، فخرت على الأرض ميتة، وفتح الباب وخرج راكضا....))[15] .
أولا:- إن طعن البطن بالسكين لا يمكن أن تكون مميتة بالحال كما يمكن أن يكون حينما تكون الطعنة في موضع القلب من صدر الإنسان.
ثانيا:- يفترض أن يكون الباب مفتوحا فمن خلاله دخلت أمه للدار وطلبت منه أن لا يطعن المختار بالسكين مما أدى إلى تراخي قبضته عن السكين واختطافها منه المختار.
ثالثا:- يفترض أن يتجمهر على الدار بقية الجيران والمارة في الشارع حيث أصوات الشجار والصراخ من قبل الشاب ومن قبل الضحية ومن قبل أمه(( استطاعت جارتي أن تفلت منه إلى الباب الذي بدأت طرقاته تصم آذاننا، كانت الطارقة أمي))[16]. فهل هذا الطرق الذي يصم الأذان لم يسمع من قبل الجيران الآخرين؟؟؟!!!
رابعا:- رغم وجوده وأمه والضحية يخرج المختار ويذهب ليخبر الشرطة بالأمر ثم يعود مع الشرطة ويجدوه ممسكا بالسكين في يده باعتباره القاتل وكان الشرطة منتظرة في باب دار الضحية بعلم مسبق ومخطط مسبق للإطاحة بالشاب وإلقاء تبعة الجريمة عليه وهو عكس ما ينبيء به نص الرواية؟؟!!!!.
فكان المفترض بالكاتبة إن تبحث عن تخريجه أكثر معقولية ومنطقية لتوضح مدى فساد السلطة ورموزها وأدواتها وطرق نصبها للفخاخ ضد كل من لا يرضخ لجبروتها وظلمها.
كذلك فان ما يثير التساؤل رسالة((غالب)) التي سلمتها العجوز إلى احد المشيعين لام ((القتيل))؟؟ كيف وصلت إلى العجوز التي يفترض أن تكون في المغتسل؟؟؟ وهل السترة الخاكية له أو لأحد رفاقه من العسكريين طلب منه إيصالها لأهله؟؟؟حيث أخبرته (( كنت أنظف المكان – أي مكان؟؟؟- من ملابسهم -من هم وأين؟؟؟- حين سقطت هذه من جيب احدهم وتاكدت بأنها رسالة...))[17]
في مجمل النص المتداخل والمتشابك من حيث الشخصيات والأمكنة ،والجذاب من حيث المفردة والوصف وسرد الحدث وتواري البطل تبدو الكاتبة كحامل كامرة دوارة ملتقطة صور الظلم والتعسف والحرمان وهشاشة وتآكل القيم في محيط مجتمع محكوم من قبل سلطان جائر يستدعي محتل متغطرس مجرم يكمل مسيرة الخراب والدمار ونزيف الدم لشعب يغط في دوامة الحرائق والانفجاريات وأصوات القتلى والجرحى والسجناء والمرضى والمشردين، أمهات ثكلى تعارك الموت وتجترح المعجزات من اجل الاطمئنان على أبناءهن وبناتهن وسط بحر الموت والخراب وسعير النيران. انه نص من جملة حسناته انه يبعث على التساؤل ولن يفصح عن مكنونه ومضمونه من القراءة الأولى.
إن ((نمش ماي)) بانوراما الحزن والبكاء والصراخ والعويل والحرائق والانفجارات والتزييف والجريمة وأشلاء الضحايا وتآكل القيم، استطاعت الكاتبة إن تسجله بلاقط عالي الحساسية مرهف أ لاحساس وان ترسمه نمش على خد نهر غافي وهي لا تقوى إلا على أن تتقيا مشاهد ومظاهر القبح المأساوية متكئة على ركيزة جسر منكسر.
[1] - = = ص(15)
[2] - = = ص20.
[3] - = = ص17.
[4] - نمش ماي ص27.
[5] نمش ماي ص32.
[6] - نمش ماي ص18.
[7] - نمش ناي ص38.
[8] - نمش ماي ص48.
[9] - مبشيل زيرافا – الأدب القصصي- الرواية والواقع الاجتماعي ص(5) ترجمة سها داود ط1 2005 –دار الشؤون الثقافية
[10] - نفس المصدر ص187.
[11]- بول ويست – الرواية الحديثة- ص6 –دار الرشيد – ترجمة عبد الواحد محمد- 1982.
[12] الرواية نمش ماي ص28.
[13] - نمش ماي ص45.
[14] - نمش ماي ص50.
[15] - نمش ماي ص24.
[16] - نفس الصفحة..
[17] - نمش ماي ص 41.
تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم
جميع الحقوق محفوظة © 2009 صوت اليسار العراقي