<%@ Language=JavaScript %> صباح علي الشاهر القصاب ولحم "مانو"

 

 

 

القصاب ولحم "مانو"

 

 

 صباح علي الشاهر

 

 

قلت لإبراهيم القصاب: شكد عندك؟

-ولا قرش

-شلون تريد نروح للإتحاد؟

-رقم إهدعش .. نكطعهه مشي منا لساحة الإندلس .

-من الحرية لساحة الأندلس شنو مجنون أنته؟

لم تنفع إعتراضاتي.. صاحبي مجنون، ويريد مشاركتي له في جنونه.. يقول "أبو تحرير" يلقي قصيدة اليوم في حديقة إتحاد الأدباء، ولابد من أن نسمعها، لم يكن القصاب من المولعين بالأدب، ولا الشعر تحديداً، كان مولعاً بالكتب السياسية، ومن المعجبين بخروشوف، يتابع أخباره، ويحفظ مواقفه التي كانت مثيرة.

لا أدري كيف طاوعته.. لم يكن التعب قد أخذ مني مأخذاً عندما وصلنا الطوبجي، إستضافنا بائع رقي من معارفه، معارف القصاب وليس معارفي . إختار لنا رقية من بين تلة الرقي، شطرها بسكينه.. لغف كل منا شطره، فأرتوينا.. إرتحنا بضعة دقائق ثم واصلنا السير .. في علاوي الحلة إرتشفنا الشاي الذي كان محروقاً، في مقهى على الرصيف، ولم ندفع شيئاً، تبين أن صاحب مقهى الرصيف صديقاً للقصاب.. منيّت النفس، ربما ثمة صاحب مطعم من معارف القصاب فيكون عشاؤنا ببلاش .. لقد طفقت أشعر لا بالتعب ، وإنما بالجوع..

عندما عبرنا جسر الشهداء لم يعد ثمة من يعرفه إبراهيم القصاب.. بدا لي أن معارفه مقتصرون على من هم في الكرخ، حتى لكأن دائرة نشاطه هي الكرخ، والتي جزءا منها مدينة الكاظمية .. كان الطريق بين جسر الشهداء وساحة الأندلس هو الجزء الأطول من المسافة التي علينا إجتيازها، لكن القصاب يؤكد أنه الجزء الأقصر.. كيف؟ لست أدري!

شارع الرشيد يزدحم بالمارة والمتبضعين، والدكاكين على جانبيه في زحمة البيع والشراء..

قلت له: ما رأيك أن نستريح قليلاً في مقهى البرازيلية؟

قال لي: لم يسبق أن جلست فيها، هل المشروب فيها غالي الثمن؟

أجبته: لا يختلف عن غيره إلا قليلاً، لكن المكان رائع، خافت الضوء، ومن دونما ضوضاء، وبارد.

وضع كفيه في جيبيّ بنطلونه، وأخرجهما أمام ناظري.. لم أكن بحاجه لهذه الحركة فأنا أعرف أننا معاً مفلسين..

عندما أصبحنا في فم المقهى أستوقفني صوت، أحسست بأنه جاء من داخل المقهى، نعم من داخل المقهى، وسرعان ما عرفت صاحب الصوت أنه صديقي القديم إبراهيم المعلم .. حقاً إنه يوم إبراهيمي بإمتياز .

دعانا فلبينا الدعوة دونما تأخر..

طلبت قهوة وطلب القصاب ببسي، فهو لا يحب القهوة، ولا يشرب الشاي إلا إذا لم يكن ثمة شيء غيره.

قلت للمعلم : ما الذي جاء بك إلى بغداد.. كيف تركت السماوة ؟

-لقد نقلت إلى بغداد؟

-هل هذا معقول؟ أيمكن لمعلم أن ينتقل من السماوة إلى بغداد؟

قال القصاب: إذا كان لديك معارف فكل شيء ممكن.

-لا.. لم يكن لديّ معارف، لقد نقلت عن طريق "البجايش "، وفوق هذا فقد كان عندي نقاط .

سألته: كيف تركت السماوة؟

-على حطت إيدك، هي هي كما تركتها أنت. لم يعد للشباب مكان يجتمعون فيه سوى كازينو علي زغير..

- يعني مقهى علي زغير المتنفس الوحيد؟

-  مقهى علي زغير والسينما ونادي السماوة الرياضي . السماوة تضيق على ساكنيها.

-  أنتم من لا يعرف فضاء السماوة، يا أخي فليخرج الشباب إلى البساتين، ينسابوا مع الفرات شمالاً وجنوباً، أو ليذهبوا للصحراء.. كنا نذهب مع سكة القطار حتى نصبح على مشارف الخضر.. السماوة ليست الصوب الصغير والصوب الكبير، وليست الشرقي والغربي والحيدرية..

-  ليس الشباب كلهم مثلك ومثل همام وجماعتك، كلما كان مكان تواجدهم أقرب إلى بيوتهم كلما كان أفضل، ومقهى علي زغير قريب من كل البيوت.

بعد أن أكمل القصاب شرب البيبسي أشار إلى ساعته..

إستأذنت من إبراهيم المعلم، وتواعدنا على لقاء آخر، شاءت الظروف أن لا يتم..

وصلنا مقر إتحاد الأدباء متأخرين، حيث كانت الأمسية قد بدأت.. وكان كاظم السماوي ينشد قصيدته التي قيل أنه ألفها بعد خروجه من سجن نقرة السلمان.. البعض يقول أن قاسم عفى عنه، وإنه كان موقوفاً ولم يرسل لنقرة السلمان..

كانت حديقة الإتحاد مكتضة بالحضور.. تدافعنا مع من كان واقفاً حتى أصبح " أبو تحرير" أمامنا كان صوته يصدح، والحضور كأن على رؤسهم الطير.

جرني القصاب من يدي :

-المكان مزدحم، خلينا ندخل للقاعة؟

-إنت مو تريد تسمع القصيدة ؟

-لا.. آنه ردت أشوف "أبو تحرير".. القصائد الفصيحة لا تعجبني، يعجبني الشعر الشعبي .. مظفر النواب ..

مرينه بيكم حمد وإحنه بقطار الليل

وسمعنه دك كهوه وشمينه ريحة هيل

يا ريل صيح بقهر صيحة عشق يا ريل

هذا هو الشعر الذي أطرب له، ويعجبني.. مو الشعر اللي يفسره إلي القاموس ..

قلت له: إذهب للقاعة، آنه باقي هنا لما تخلص القصيدة ..

وما أن إنهيت كلامي حتى أتم الشاعر قصيدته.

قال القصاب: الحمد لله.

سألت القصاب: قطعت كل هذه المسافة حتى تشوف كاظم السماوي فقط.. ليش هو كاظم السماوي مريم فخر الدين؟

- كاظم السماوي شاعر كبير، مناضل من جماعتنا.. رأيته يقرأ قصيدته فشعرت بالفخر.

- لكنك لم تسمعها، ولم تفهمها حتى .

-أكيد كان يقره  إلنه وعنه، ليش هذا مو كافي ؟!

الغريب أني لم أجد القاعة فارغة، حيث كانت مملوءه لنصفها بمن فضل البقاء في القاعة على الوقوف مع الواقفين للإستماع للقصيدة.. أيكون هؤلاء مثل القصاب، جاءوا لنفس الغرض الذي جاء من أجله القصاب؟

لكن بين من كانوا في القاعة رشدي العامل، والفريد سمعان، وهاشم الطعان، وهؤلاء من الذين لا يحتاجون لقاموس ليفهموا شعر السماوي، ولا أي شعر آخر..

نادي الإتحاد ليس ملعبنا، فلا أصدقاء لنا فيه، ولأننا الأصغر سناً فلم يعرنا أي من الحضور أي إهتمام، حتى ولا كاظم السماوي الذي جئنا من أجله. درنا في الحديقة التي رصفت فيها الكراسي على شكل دوائر، لقد بدأ شغل البويات، حيث رتبت المناضد، وبدأت قناني العرق والبيرة وأنواع المزة، اللبلبي والجاجيك خصوصاً، تخرج من حانوت الإتحاد الذي أتخذ جانبا من جوانب الحديقة مقراً له، وفجأة ومن دونما مقدمات بدأ رواد الإتحاد بالحديث، حتى لكأنما ثمة من أوقف المسجل، ثم فتحه فجأة .. كل المصاطب تتحدث، بصوت عال أحياناً، أو واطيء سرعان ما يتعالى..

ردد إبراهيم القصاب: حمام نسوان..

-  إنهم يتحدثون في الأدب

-  ولماذا صوتهم عالي هكذا.. هل الحديث عن الأدب خطابة ؟

-  يا أخي هؤلاء أدباء، أدباء العراق، الكلام شغلتهم .

-  قولها .. بياعو كلام .. 

-  إذا كان الأمر لا يعجبك فدعنا نخرج.

-  نعم لنخرج، لا شيء يعجبني هنا..

شارع النضال شبه معتم.. لماذا لايستعملون إنارة قوية، النيون مثلاً ؟.. ولماذا أعمدة الإنارة متباعدة بهذا الشكل؟

القليل من عابري السبيل الراجلين يتجهون مثلما نتجه صوب ساحة التحرير. لم نر ساحة التحرير ليلاً، ربما هذه هي المرة الأولى التي سنرى فيها نصب الحرية تحت الأنوار الكاشفة..

قطعنا البتاويين.. كانت البيوت غافية، وقلة من البيوت تلك التي وضعت مصباحاً أمام باب الدار، ولكن الضوء كان يندلق من كثير من الشبايبك المطلة على الشارع، ومن الشناشيل التي رصت بإنتظام ودقة .

حديقة الأمة خلف نصب الحرية لجواد سليم ساهرة، تتغامز مصابيحها الملونة، لكن الطريق إلى شارع الرشيد شبه معتم .. كان علينا قطع شارع الرشيد كله تقريباً .. عند سينما الشعب تذكر إبراهيم القصاب "مانو" قال :

- قد نحصل على أكله شهية، فأنا من زبائن "مانو" الدائميين، ولكن هل تراه سيتذكرني .. أنه رجل يخلط، تارة يحدثني كما لو كنت من خلص أصحابه، ومرّة أخرى يسألني من أنت !

- وتريد أن يطعمك مجاناً؟

- ليس مجاناً، ولكن بالدين .. نطلب منه أن نتعشى بالدين، هل سيوافق ؟

-أنا لا أعرف "مانو" ولم يسبق لي أن أكلت في مطعمه.

- مطعمه؟! ليس لمانو مطعم، أنه يضع قدره الكبيرفي رأس الدربونة، ويصف التنكات بموازة الجدار.. هل تسمي هذا مطعماً ؟

- ماذا يبيع ؟

- لحم ومعكرونة.. يضع في الصحن هبرة كبيرة من اللحم المطبوخ، وكمية من المعرونة، وصمونة .

-أي أكلة هذه ؟

-هذه وجبة "مانو" عندما تتذوقها فسوف لن تنساها أبداً .

إنعرجنا مع سينما الشعب، ثم إتجهناً يساراً، وإذا بنا أمام " مانو".

كان مانوا في أحسن حالاته، ما أن رأى إبراهيم القصاب حتى  رحب به بصوت جهوري : هله برهومي، هله بحبيبي برهومي، الليلة تاكل وجبه ما تنساها..

- مانو يمكن الليلة ما أكدر..

- ليش أغاتي ما تكدر؟ توصل يمنه وما تضوك أكلنا؟

- مو القصد.. بس آنه مفلس، ولا فلس بجيبي ..

نظر " مانو" إلى إبراهيم : وصاحبك؟

- همين مفلس ..

- أنت متعشي لو لا؟

- تريد الصدك ما متعشي لا آنه ولا صاحبي .

- وما عندك فلوس؟

- ما عندي فلوس .

- وتريد تتعشى لو لا ؟

- إذا قبلت تعشينا بالدين نكون ممنونين إلك

- ولك شتكول الكدر ومانو بخدمتك برهومي

جلسنا على على تنكتين، ثم غرف "مانو" من القدر الكبيرة غرفة كبيرة، ووضع لكل منا هبرتين كبيرتين، وكمية من المعكرونة، وصمونتين حارتين، وطفقنا نأكل بنهم .

-إبراهيم ما هذا اللحم؟

- ماذا فيه ؟

- لم أذق أطيب منه في حياتي كلها..

- إذا أكملت الأكل سيزيدك "مانو"، هو بالعادة يفعل هذا معي .

- بكم الوجبة ؟

- أرخص من أي مطعم.

- كمية اللحم أكثر مما يجب، ولكن بإعتبارك قصاب ما نوع اللحم هذا ؟

- هو ليس غنم بالتأكيد، ولا بقر، ولا حتى جاموس، ولا بعير.. أنا أعرف جميع أنواع اللحوم .. هذا اللحم ليس من هذه الأنواع .

-إذن من أي نوع هو؟!

- لو لم يكن طيب وطري، ولذيذ، ومستوي جداً، لقلت أنه ربما يكون لحم حصان أو حمار صغير..

توقفت اللقمة بزردومي ..

-لا تخف ربما هو لحم عجل مستورد، يقولون أن البعض أخذ يستورد لحم العجول من الخارج.

- تقول ربما، وربما لا يكون كذلك؟

- ربما لا يكون كذلك، من يدري، ولكن مالذي يهمك طالما اللحم لذيذ ومطبوخ بطريقة عجيبة؟.. 

كادت صحن القصاب تفرغ، فسارع "مانو" لإضافة كمية معتبرة من اللحم إليها، وحاول أن يفعل معي ما فعله مع القصاب، قلت له: لا شكراً، لقد شبعت، وعاشت إيدك على هذا الطبخ ، وهذا الأكل اللذيذ .

في الطريق سألت القصاب: ألست قصابا؟

-  قصاب وابن قصاب.

-  ما نوع اللحم الذي أكلناه.

-  تريد الصدق.. لا أعرف..

- لا تعرف؟ كيف تأكل ما لا تعرفه.

-  لماذا لا، إن كان طيباً ، كلحم "مانو"؟

 

 

تاريخ النشر

28.12.2015

 

 

 

  عودة الى الصفحة الرئيسية◄◄

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

28.12.2015

  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4]  | أرشيف المقالات  |  دراسات  |  عمال ونقابات |  فنون وآداب |  كاريكاتير  |  المرأة |  الأطفال | إتصل بنا       

      

لا للتقسيم لا للأقاليم

 

لا

للأحتلال

لا

لأقتصاد السوق

لا

لتقسيم العراق

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة

من الكتاب والصحفيين العرب و العراقيين   

 

                                                                  

                                                                          

  

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org