<%@ Language=JavaScript %> مجزرة من أجل تابوت  حمزة الحسن

 

 

 

مجزرة من أجل تابوت

 

 

حمزة الحسن

 

نُشرت رسالة خطية منسوبة للشاعر المرحوم عبد الرزاق عبد الواحد،
الى صديق له تقول الرسالة:
" إدعي ـــ الصحيح إدع ـــ لي ان تنجح الثورة
لأعود الى العراق،
لأنني لا أريد أن أموت في الغربة".

وهذه الرسالة، اذا صحت، تعكس طريقة في تفكير المثقف العراقي،
أو صنف من المثقفين،
ولسنا هنا في مجال محاكمة الشاعر على مواقفه السياسية ولا على منجزه الشعري،
وجثة الرجل لم تبرد بعد في زمن عراقي ملتبس يتحمل الكثير من المواقف والمواقف المضادة حتى اليوم،
لكننا نتعرض لهذه الرسالة، النص، لكي نحاول، فقط، من خلالها التعرف على عالم المثقف الداخلي وكيف يرى المحنة العامة،
ومن أية زاوية ينظر؟

وسواء كتب الشاعر هذه الرسالة أم لا، إلا انها تعكس نمطاً قائماً من التفكير عند شرائح من المثقفين يُعبَّر عنها بطرق مختلفة، كإحتكار الحقيقة والصواب والسلطة والثروة والوطن والصحة واليقين والجمال كعقار وامتياز ومنحة،
ويمكن العثور على أمثال هذا المنطق، بإفراط، كل يوم، بصور مختلفة، رغم طنين الوطنية العالي،
من خلال لغة يقينية جازمة حازمة وثوقية،
مع ان لغة السياسة لغة احتمالات،
وهذا هو مبرر التحليل النقدي لها.

ليس .ع. عبد الواحد في هذا النص استثناءً من شريحة من المثقفين الذين، رغم عشرات السنوات من التجارب المهلكة الخاصة والعامة، لكنهم يتعاطون مع المأزق العام من زاوية الحلم الخاص، الحلم النرجسي،
ومن زاوية ناظور بندقية قنص يرى في الآخرين المختلفين رؤوساً يجب أن تزول،
وهي خاصية الوعي الشقي المحارب الذي لا ينتج معرفة او ثقافة،
بل ينتج الخصومة والمأزق والصخب.

لا أحد يمنع أحداً من حق الحلم،
ولا أحد يحلم وكالة عنه أو يعمم حلمه على الاخرين،
ومن حق المثقف او غيره ألا يريد الموت خارج الوطن ويدفن في الغربة.
مع ان الوطن نفسه صار منفى،
وصارت المنافي وطناً.

لكن مشكلة هذا النص، الحلم، ان المثقف عبد الرزاق يريد ثورة ويخطفنا معه في قطار موت مقبل،
من أجل أن:
يموت ويدفن في الوطن.
يحرق الدار من اجل اشعال سيجارة.

كنت سأكون سعيداً ومبتهجاً لو انه طلب" الدعاء" من أجل ثورة ثقافية وفكرية خاصةً وعبد الواحد ولد منذ ثلاثينات القرن الماضي،
وشهد ولادة احزاب وبرامج ومكانس جديدة ودراجات هوائية وظهور نعال ابو الاصبع،
وانقلابات عسكرية وثورات علمية وانواع من السجائر من لوكس الى سجائر غازي الى علبة سومر الذهبي التي أتحفنا بها الشاعر عريان السيد خلف في زنزانة الامن العامة في ليلة العشرين من مايس 1979 وقد دخل معصوب العينين في تمام اناقته في بدلة الاورزي باك الموحدة في حشر ليساريين ومثقفين مستقلين وشيوعيين منظمين واصحاب فنادق مغفلين استقبلوا في فنادقهم زوارا غرباء من مدن العراق هاربين من حملة بوليسية... والخ.

كما ان الشاعر عبد الواحد عاصر كل أنواع الحكم في العالم من النازية الى الفاشية،
ومن الاشتراكية الى الماوية،
وكل الثورات من العلمية الى الثورة الجنسية،
ومن نهاية زمن المحراث الى المركبة الفضائية،
وعاصر كل انواع الحكم في العراق من الملكية الى الجمهورية،
ومن انقلابات الضباط الى انقلابات رواد المقاهي والحانات وشقاوات الشوارع الخلفية،
وعاش زمن المشانق بعد نهاية زمن الفوانيس،
وعاصر انحسار العكال واليشماغ وظهور العراقي المشروم الساقين بظهور البنطال وكان ذلك حدثاً نادراً في الشكل العام أن ترى عراقياً يمشي وكل ساق معبأة في انبوب من القماش طويل كسيقان اللقلق،
بعد ان كان معبأً في دشداشة مثل كيس تبن او علبة خل.

كل التحولات العاصفة في العالم، في العلوم والسياسة والافكار والنظريات والفلسفات واندثار دول وامبراطوريات وقيام أخرى، لم تترك أثرا في عقل هذه الشرائح من المثقفين، كإنزلاق غيوم على سطح أملس من الصخور والزجاج،
بل العكس من ذلك حين يعتبر البعض هذا الموت العقلي ثباتاً فكرياً،
وعناداً مبدئياً،
ولو كان العناد وغرز الحوافر في الأرض ثباتا وعناداً فكرياُ،
لصار جميع حمير الوطن ثواراً.

رغم كل ذلك وغير ذلك لا يحلم المثقف عبد الواحد بغير" ثورة" من أجل أن يدفن في العراق،
ليست ثورة شعرية فجرها جيله،
وليست ثورة فكرية عجز عنها جيله،
وليست ثورة ثقافية فشل جيله في انجازها،
بل يريد ثورة مسلحة،
ومثل هذه الثورة المسلحة في هذا الظرف العصيب ليست سوى مجزرة كبرى تقضي على الجميع،
من زرع ومن حصد، والرابح لن يأخذ شيئاً.

التقيت المرحوم لأول مرة في مبنى وزارة الثقافة والاعلام عام 1973 يوم كان رئيسا لنادي" التعارف" وربما رئيس تحرير مجلة تراثية قد تكون" التراث الشعبي".
وكان نادي التعارف، ايام الجبهة، واجهة شيوعية من وجهة نظر النظام،
ومن بين حوار طويل مع الشاعر كان يعرب بطريقة اليفة لصحافي شاب قادم من البراري ومندهش من كل ما يراه،
كان يعرب عن رعبه من الموت وكان في منتصف الاربعين تقريباً،
في حين كنت أعاني من رعب الحياة،
وكنا في وضعيتين متقابلتين:
شاعر ومثقف معروف يخاف من الموت،
وكاتب شاب مجهول يخاف من الحياة أو بكلمة أدق من غيوم سود بدأت تظهر في سماء الوطن تنذر بكوارث قادمة.
وهذه الوضعية المضادة مستمرة حتى اليوم.
لكن خوف الشاعر من الموت، وهو خوف وجودي، انتقل ليتحول الى الخوف من موت محدد هو الموت في الغربة والدفن في الغربة،
كما لو ان العراق اليوم هو وطن الجميع،
مع انه ساحة واسعة للاغتراب والنفي.

الخوف من الموت في العراق والدفن فيه تحول الى ظاهرة لشريحة من المثقفين ومن السياسيين،
وهو خوف اضافي بعد الخوف من العيش فيه،
هناك خشية من أن الأعداء يتربصون بهم في المقابر لنبش قبورهم،
وهو سلوك دوني بكل معايير البشر والاديان والاعراف.

لكن هل يسمى العيش في العراق اليوم حياةً؟
وهل يُسمى الموت الطبيعي موتاً؟ أم قتلاً؟
هل العراق وطن أم منفى؟

الوطن الذي لا يحترم كرامة وحياة الانسان ليس وطناً بل منفى،
الولادة والحياة والموت والدفن في الوطن ليست حقوقاً مكتسبة بل طبيعية ولا تخضع للسجال السياسي أو غيره،
والمشكلة أضخم وأعقد وأكبر بالنسبة للكاتب والمثقف،
لأن " الكاتب من لحظة حمل القلم، يدخل في منفى" بتعبير الناقد الفرنسي برنارد فاليت،
وبعد ذلك تأتي المنافي الاخرى، اللغة، والثقافة السائدة، الاحزاب المتعادية، منافي السلطة، سلطة التاريخ وسردياته المتخيلة، سلطة الحاضر ومروياته المرتجلة،
وأهون المنافي بل أرحمها المنفى المكاني.

الروائي بوريس باسترناك مؤلف" الدكتور زيفاغو" وبعد حصوله على نوبل وحملة التشهير الضارية ضده من الحزب في الاتحاد السوفيتي لأنه كشف عن مساوئ تلك المرحلة،
وطرده من اتحاد الكتاب،
انزوى في عزلة في قرية وحيداً،
ويوم مات مشى عدد محدود من قرويي المنطقة في جنازته، تحت المطر، بعد ان استعاروا مسجلاً وشريط كاسيت موسيقى جنائزية للموسيقار باخ،
وبعد الدفن وضعوا شاهدة رخامية كتب عليها بناء على وصيته مقطع قصيدة له يقول:
" الحياة ليست نزهة في حديقة".

 

 

 

تاريخ النشر

15.11.2015

 

 

 

  عودة الى الصفحة الرئيسية◄◄

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

15.11.2015

  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4]  | أرشيف المقالات  |  دراسات  |  عمال ونقابات |  فنون وآداب |  كاريكاتير  |  المرأة |  الأطفال | إتصل بنا       

      

لا للتقسيم لا للأقاليم

 

لا

للأحتلال

لا

لأقتصاد السوق

لا

لتقسيم العراق

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة

من الكتاب والصحفيين العرب و العراقيين   

 

                                                                  

                                                                          

  

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org