<%@ Language=JavaScript %> حمزة الحسن وقاحة اللص، وتردد الكاتب

 

 

وقاحة اللص، وتردد الكاتب

 

 

حمزة الحسن

 

 

يتبادل لصوص المال والسياسة هذه الايام رسائل تهديد متبادلة علنية في نوع فريد من سرديات اللصوص،
عبر رؤوس الناس، كما كانوا يتبادلون الرسائل من خلال المفخخات، وعبر رؤوس الناس ، أيضاً،
كما لو ان رؤوسنا صارت صناديق بريد،
وتجاوزت مهارة هؤلاء في مرويات قاتلة كتّاب الخيال،
وصار الواقع رغم غرابته، بالتكرار، مألوفاً وواقعاً جديداً ،
بعد موت الواقع الانساني.

بل صار عادياً أن يخرج علينا لص عبر وسائل الاعلام ليتحدث عن الوزير او المسؤول او المدير الفلاني وكيف سرق، بالتفاصيل، مليارات أو ملايين الدولارات من المال العام، ويذهب بعض هؤلاء في اعترافات الوقاحة الى سرديات مضحكة عن شركات وعقود وصفقات وهمية يتم التوقيع عليها في طقوس واحتفالات رسمية، كانوا " شهوداً" عليها،
كما لو أننا أمام مسرح مفتوح للصوص،
في حين يتردد كبار الكتاب العرب من سرد حكاية حب صافية،
كيف نفهم هذه الفجيعة العقلية:
مجتمع يصغي لقاتل ولص متبجح وطليق ومسؤول يروي،
في حين يغضب من عاشق يحكي؟

لو ان هذه الاعترافات من شركاء الجريمة جرت في أي بلد معافى يحترم شعبه،
لتم القبض عليهم داخل محطات التلفزة في نهاية المقابلة بتهمة التستر والابتزاز او الشراكة.

كل ذلك يجري أمام جمهور مسروق المال والأمل والمستقبل والحرية،
دون أن يفعل شيئاً سوى تلقي هذه" الرسائل" القاتلة والتعليق عليها،
وبسخرية ايضاً،
كما لو ان العراقي فقد الشعور بالصدمة والدهشة والفضيحة،
لأن وقاحة اللصوص طبّعت الجريمة عبر مسلسل طويل من الاعترافات والاعترافات المضادة،
وتطبيع الجريمة يحدث في التكرار والسخرية والاهمال.

من أين تأتي وقاحة الاعترافات؟
لا يتعلق الأمر بشجاعة لأن الشجاعة ترتبط بالنبل وصفاء الضمير والثقة ونظافة القلب واليد،
والشجاعة هادئة وناعمة ومشعة كظلال نعاس الاطفال،
لكن الوقاحة صاخبة وجارحة حتى لو كانت تلبس رداء الشجاعة،
فهذه طبيعة الصفاقة التي، حسب علماء النفس، ليست مرضا نفسيا بل هي عبارة عن انهيار عضوي في البنية الشخصية الأصلية خلقتها ظروف اجتماعية معوجة تحاول اخفاء الجبن من خلال التبجح والاستعراضية.

على الطرف الآخر يتردد الكاتب، خارج المصالح والتجمعات، كثيرا ويتوقف طويلا عندما يحاول الكتابة في شأن عام،
أو عندما يحاول كتابة الاعترافات الخاصة من خلال سرديات ادبية ولو في قضايا تهم العاطفة والاخفاقات الخاصة او في تجارب شخصية او عند محاولة سرد التاريخ العام والوقائع الكبرى من خلال رؤية ذاتية وهي وظيفة الأدب والفن.

في الحالة الأولى، يخشى تقديم قراءة خاطئة قد تلحق ضرراً بالناس،
وفي الحالة الثانية، اي سرديات الاعتراف الادبي الذاتي، يخشى تقديم مرويات مفتوحة صادقة في مجتمع مغلق يدعم الجريمة العلنية ويتفرج على وقاحة اللص والقاتل في السرد،
لكن هذا المجتمع يقمع ويخاف من شجاعة البوح وجرأة الوضوح.
لص يروي على المكشوف سرقة المال العام يوم كان حاضراً في مسرح الجريمة، إن لم يكن شريكاً،
وضحية صامتة تصغي لشهادة قاتلها.
أين نحن من هذا العالم؟

هنا نعثر على مفارقة غريبة:
مجتمع يصغي بكل حواسه لاعترافات لصوص ومجرمين ويقابلها ، أي يقابل موته ونهبه وتحطيم كرامته بالسخرية،
وهو المجتمع نفسه الذي يواجه اعترافات وسرديات الكاتب بالقمع وهو يقدم قراءته الخاصة للوقائع العامة والخاصة ولو عبر المتخيل،
وهو السبب الذي دفع الكتاب العرب تجنب كتابة السيرة الذاتية،
لأن المكان محجوز لاعترافات وسرديات اللصوص والقتلة والزعماء،
وقد روى هؤلاء تاريخ الماضي والحاضر بطريقة مشوهة.

قال الوزير والرفيق والسفير والجنرال والمقاول والسكرتير العام والدكتاتور شهادتهم الخاصة الملفقة،
فلماذا نرفض شهادات الضحايا؟
لماذا لا يحق للضحية أن تعيش وان تروي أيضا؟
قاتل ولص، يتبجح بسرد حكاياته علناً، شاهداً أو شريكاً،
في حين يخجل العاشق، أو الكاتب، أو المفكر، أو المثقف من سرد مشاعره أو رؤيته للتاريخ العام.

نحن، بكل صدق، امام مجتمع دُجن ورُوض على قبول الجريمة العلنية،
لكنه يرفض قبول سرديات الوضوح والبراءة والبوح الذاتي،
حتى لو كانت مدخلاً خاصاً لقراءة تاريخ الماضي أو الحاضر.

كيف استطاع اللصوص، بتكرار وقاحة الاعتراف، من تدجين الجمهور العام على قبول الجرائم،
في حين عجز الكتّاب من اقناع هذا الجمهور بسرديات ومرويات ذاتية تروي الوقائع بشفافية وعري ووضوح وصدق وتمزج بين الواقع والمتخيل؟

يوم كتبت سيرة روائية ذاتية" الأعزل" تحاول اعادة صياغة نصف قرن من تاريخ العراق السياسي من خلال الدمج بين التاريخ والحب والوثيقة وهو مجال عمل الروائي،
كنت مستعداً مسبقاً لتقبل كل ردود الفعل السلبية المتوقعة من جمهور يصغي للجريمة العلنية المفتوحة بصمت،
لكنه يخاف من سرديات الذات الصافية،
الأمر الذي يضعنا أمام السؤال الذي كررته هنا بلا اجابة:
لماذا نتقبل الجريمة السياسية العلنية،
ونرفض سرديات تفضح الجريمة الاجتماعية السرية الصامتة،
مع ان السلطة منتوج اجتماعي والصمت هنا يقود الى جريمة السياسة هناك؟

الجمهور الذي يصغي لاعترافات قاتله وسارق ماله وكرامته وحريته بصمت وتقبل وانبهار،
ويرفض في الوقت نفسه سرديات البراءة والكشف،
قبول الجريمة ورفض البراءة،
هذا الجمهور عليه دفع الثمن،
مهما كان هذا الثمن.

 

حمزة الحسن

عن موقع الكاتب على الفيس بوك

https://www.facebook.com/hmst.alhasn/posts/10153311334402266 

 

تاريخ النشر

23.10.2015

 

 

 

  عودة الى الصفحة الرئيسية◄◄

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

23.10.2015

  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4]  | أرشيف المقالات  |  دراسات  |  عمال ونقابات |  فنون وآداب |  كاريكاتير  |  المرأة |  الأطفال | إتصل بنا       

      

لا للتقسيم لا للأقاليم

 

لا

للأحتلال

لا

لأقتصاد السوق

لا

لتقسيم العراق

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة

من الكتاب والصحفيين العرب و العراقيين   

 

                                                                  

                                                                          

  

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org