<%@ Language=JavaScript %> حمزة الحسن اللّحى والشفرات

 

 

 اللّحى والشفرات

 

 

حمزة الحسن

 

من الحرب الى سجن ايراني في الاهواز:
كان ذلك عام 1988 قبل نهاية الحرب بعدة شهور.

في السجن ، او ما يسمى" بيت الضيوف" للهاربين تمييزاً عن الأسرى،
وجدت اكثر من ثلاثين عراقياً،
لكني استغربت عند الدخول من ان كل من شاهدته كان يمشي في الباحة والصالة وهو يرتل ادعية واللحى طويلة،
فتخيلت بادئ الامر اني في عالم سحري غريب،
شعرت حقيقة بنوع من الصدمة.

كان ان تقدم احد هؤلاء قائلا بلهجة تراثية كما لو اننا في معركة بدر او حنين قائلا:
" مرحبا بك اخي في دار الاسلام".

كان جنديا فارا من الحرب،
جرى اعادة انتاجه في السجن.
السجن نفسه هو منزل جنرال ايراني من جهاز السافك البوليس السري الرهيب هرب بعد الثورة،
فصادروا المنزل:
اول المفارقات ان اهرب من الحرب لكي اسجن في منزل هو نفسه لهارب وجلاد مطارد.

تبادل أدوار: جنرال هارب من المنزل،
وهارب من بلاده يُسجن فيه.
واقعية سحرية: هو هارب من الثورة الاسلامية وانا هارب من الثورة الاشتراكية وخطابات الرئيس وحروبه.
بيت عبارة عن قصر ومسبح كبير وحديقة مزهرة.

تم وضعي في قاعة السجناء لكني لم انسجم مع الوضع العام،
ورفضت تطبيق أي طقوس دينية او غيرها مهما كلف الأمر،
فليس الأمل ان أهرب من دكتاتورية لكي أقع في عصاب ديني،
مع ما يحمل هذا الموقف من مخاطر النقل الى أقفاص الأسرى أو سجن إيفين الرهيب،
وكنت مستعداً لدفع الثمن،
اذا بقي هناك ما يمكن أن يُدفع بعد كل الخسارات.

احد هؤلاء حاول الاقتراب مني وكان لطيفا ومؤدبا وطلب بكل رجاء مراعاة الظروف،
وقال ان اللحية والنزول الى السرداب الارضي وممارسة ما يريدون من مناحة ليس امراً صعباً لأن العواقب وخيمة.

هو الصديق حميد البغدادي ، في كندا اليوم ومعنا على صفحة الفيسبوك، لكني ركبت رأسي ودخلت في سجال مع ادارة " بيت الضيوف" وهم شباب عرب من الاهواز،
وكانوا جميعاً متفهمين،
وتم وضعي في غرفة عزل لكي لا أشكل خطراً على الآخرين،
وكنت سعيداً خاصة وان المنزل يتضمن كتبا تراثية عن التاريخ الاسلامي،
فغرقت بها وفيها.

اتمشى وحدي في الحديقة عندما سمعت أحدهم يوماً يقول لصاحبه بصوت عال لكي اسمع" الحمد لله سنخرج من السجن ونتطوع للجهاد" وقد حدث هذا فعلاً،
ثم التفت الي وقال" ألا تخرج معنا اخ حمزة؟"
قلت" انا ممنوع من الحياة وممنوع من الموت، ممنوع عليّ دخول الحياة ومحظور عليّ دخول الآخرة".

كنت الوحيد الذي تنظم له ادارة السجن زيارات للمدينة بحراسة مرافقة،
ونجلس في مطاعم ونمشي في شوارع وحدائق،
حتى ان احدهم وهو من عشاق مظفر النواب قال لي بالحرف الواحد" يا أخ حمزة، لا تتصور اننا لا نعرف كل شخص. التقارير تصل كل يوم من بعضهم على الآخر،
ونحن نحترمك أكثر..".

مفارقة أخرى ان السجناء يحاصرون سجيناً،
والسجانون يحاولون فك الحصار،
في انقلاب للمعايير خارج المنطق وهو أمر سيتكرر في السجن الباكستاني بعد الهروب عبر الجبال الى الباكستان في رحلة البحث عن وطن مؤقت وحرية عابرة، وسرير نظيف، وغرفة آمنة مضاءة، وصحن حساء ليس أكثر من ذلك حتى اليوم.

كانت معلومات تفصيلية دقيقة للغاية يقولها لي المحققون،
من هو المعلم الاول واسمه،
الحوادث العائلية،
واخطرها اني سجنت مرات في العراق كشيوعي ـــ وهذه مصيبة في ايران ـــ وهذا صحيح مع اني لم اكن شيوعيا منظما لكن الافاً من المثقفين وجدوا انفسهم في سجون العراق الذي تنعدم فيه الخيارات، إما مع أو ضد،
ولم اعرف مصدر تلك المعلومات الخاصة إلا عندما خرجت من السجن الايراني وذهبت لزيارة صديق طفولة كنا بدأنا معاً قراءة الكتب والكتابة،
وكان يسكن في ضاحية في طهران،
وكان أول كلمة قالها لي في الباب قبل السلام" أعرف كل تفاصيل سجنك في الاهواز"،
وأضاف بصراحة أو وقاحة" كانوا يسألونني عنك كثيراً".

لم أعلق لأني عرفت انه يعمل في منظومة استخبارات ايرانية للمساعدة في تقديم معلومات عن الأسرى والفارين لمفاجأتهم بها لكي يشعرون انهم في العراء،
وهي طريقة اسرائيلية في الاستجواب.

عاد الى العراق بعد الاحتلال ونشر رواية لم اطلع عليها لكني قرأت نقدا لها،
وقد وُضع على رأس مؤسسة ثقافية.

بعد عدة شهور تقرر نقلنا الى طهران ،
لكني فوجئت، بعد مقاطعة طويلة وحصار من السجناء ابناء البلد، وكان السجن أرحم، وصار سجوناً،
فوجئت بأحدهم يطرق الباب.
ترددوا في الكلام،
لكن احدهم صار الناطق بلسان الجماعة وقال بعد تردد:
" نعترف ان موقفنا منك غير صحيح، لكن اما اللحى أو أقفاص الأسر أو سجن إيفن الرهيب".

قلت" لا أحتاج للاعتذار لكنهم لم يفرضوا علي ذلك، والمهم ما سبب الزيارة ونحن في منزل واحد بعد شهور المقاطعة؟"

قال" ألم تسمع؟ غداً ننقل الى طهران وهي غير هذا البيت ونحن اصحاب لحى اضطرارية وانت الوحيد الذي تزودك ادارة السجن بالشفرات ونحتاج الى شفرات للتخلص منها"

قلت" طيب لكن بشرط ان تعطوني اللحى بعد الحلق" واتفقنا.

بعد الحلق جمعت اللحى في كيس وفي نهاية آخر لحية،
قلت لهم " انتم استغربتم من طلبي جمع اللحى وستعرفون الآن،
انا لست ضد الدين والعقيدة لأني انا نفسي عندي معتقدات وقناعات خاصة،
لكني ضد التدين الزائف الى حد مقاطعة أخ لكم في بيت واحد وحرب نفسية طوال شهور من الصمت،
ولو كان الامر يتعلق بشخص غيري لا يتحمل العزلة ولا يعشق الكتب ، لأصيب بالجنون"،

في النهاية وضعت اللحى في المرحاض المفتوح الباب أمامهم،
وسكبت فوقها الماء من حنفية،
لكن اللحية الأخيرة لشخص يدعى الكاظمي نزلت منفردة،
لأنه آخر الحالقين المتأخرين،
وكانت اللحية تغطس وتظهر كما لو انها تقاتل.

بعد مئات الكيلومترات الى طهران،
وعبور مدن في الليل، وفي البراري المفتوحة، والوديان،
وصلنا الى ضاحية تسمى كهرزيك وظهر انها سجن،

لكن المباغتة ان الكاظمي الذي كان يجلس في المقعد الامامي من السيارة ـــ وكنت في الوسط ــــ التفت الى الخلف وصرخ:
" هذا الزنديق شتم الامام الخميني"

التفتُ الى الخلف، فصرخ أكثر، قائلاً:
" انت، انت" وكان يلوح لي.

ذهلت لأني الوحيد الذي لم اتكلم مع أحد الا نادراً،
وطلبت من في السيارة الأكثر من ثلاثين قول الحقيقة.
لم يتكلم احد وهذه تهمة خطيرة أمام بوابة سجن تماماًَ،
حتى ناديت من أعرف بالاسماء ان يقولوا الحقيقة،
فلم يتكلم معي أحد،
بل لم يلتفت من أناديه أيضاَ،
وكان ذلك أقسى وأمر من السجن.

نزل جميع السجناء من السيارة الى السجن الواسع وفيه حديقة كبيرة،
واشجار معمرة،
أما أنا فقررت ادارة السجن وضعي في زنزانة،
رافقني فيها الصديق حميد البغدادي كسجين لمدة ثلاثة شهور.

وجدنا في الزنزانة او الغرفة الصغيرة شخصا يسمى" أبو سرمد" نقيب هارب من الحرب،
ولا ندري سبب وجوده.
صرنا ثلاثة.

مرة جاء العقيد بختيار مدير السجن وهو من بقايا النظام القديم وشخص لطيف. قال محرجاً:
" صحيح انا مسؤول عن السجن ولكني لست مسؤولا عنه بالكامل. وصلتني رسالة من الاخ ابو سرمد تقول ان الاخ حميد نظر عبر كوة السجن العليا الى الشارع،
الى امرأة مؤمنة بإشتهاء،
ولا أعرف كيف عرف انها مؤمنة وكيف عرف مشاعره،
وعلى أية حال لست بصدد اتخاذ اي موقف لكن رجائي ألا يتكرر الأمر لأن غيري قد يكون متشدداً وانتم في سجن".
كان من الواضح جداً ان خلف هذه الكلمات مرارة عميقة وتنديداً خفيّاً.

كنت انظر الى السجناء عبر نافذة الزنزانة يركضون ويتسلقون الاشجار،
في حين نتعفن نحن في الغرفة،
تقلص الحلم من الخروج من السجن الى الحرية الى الخروج من الزنزانة الى السجن.
في السجن الباكستاني سيتقلص الحلم أكثر من الحلم من الخروج من السجن الى الحلم بزنزانة أنظف.

مرة شاهدت لحية الكاظمي عبر النافذة وقد طالت،
وفكرت مع نفسي:
" هل علاجها الوحيد هو الشفرة؟"

السؤال مستمر حتى اليوم.

 

حمزة الحسن

 

 

تاريخ النشر

15.08.2015

 

 

 

  عودة الى الصفحة الرئيسية◄◄

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

15.08.2015

  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4]  | أرشيف المقالات  |  دراسات  |  عمال ونقابات |  فنون وآداب |  كاريكاتير  |  المرأة |  الأطفال | إتصل بنا       

      

لا للتقسيم لا للأقاليم

 

لا

للأحتلال

لا

لأقتصاد السوق

لا

لتقسيم العراق

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة

من الكتاب والصحفيين العرب و العراقيين   

 

                                                                  

                                                                          

  

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org