<%@ Language=JavaScript %> حمزة الحسن هوية اللصوص الجديدة

 

 

هوية اللصوص الجديدة

 

 

حمزة الحسن

 

 

من يعتقد بالمثل القائل:
" اذا اختلف اللصوص، ظهرت السرقة"،
فهو يتحدث عن لصوص المفرد،
وليس طبقة واسعة من اللصوص في مؤسسة حكم،
لأن ما يربط هؤلاء من علاقات وصلات وروابط أكثر مما يفرقهم،
بل ان خلافاتهم لا تحل بكشف السرقات،
لكن بالصفقات والمناورات والحيل والتسويات،
لأن كشف حلقة يعني انكشاف السلسلة،
لذلك هناك تغليس عام عن هذا السطو العلني على مصرف وليس على وطن.

ومن يعتقد ان الهوية ثابتة،
فهو على خطأ أيضاً،
لأن الهوية الانسانية تتضمن جانبين: الأول عضوي يشمل اللون والجلد والعيون والشكل العام والعناصر البيولوجية الاخرى، وهذه لا تتغير،
أما الثاني فهو الجانب الثقافي في الهوية وهو متغير في كثير من الاحوال،
بل يصل أحياناً الى أن يكون انقلاباً على الهوية الثقافية القديمة،
لكن المجتمعات المغلقة تحافظ على الصفات السائدة والشائعة عن الفرد:

من كان نزيها في العرف العام والخيال الشعبي،
يظل نزيها حتى يلفظ انفاسه الأخيرة،
ولو سرق مال اليتامى والارامل والمساكين أو الشواهد الرخامية في المقابر،
فالسمعة الطيبة هي الغطاء المثالي للسرقة وكل أنواع الموبقات.

نحن نعرف في العراق مثلا كيف تُصنع السمعة الطيبة،
وكيف تُصنع السمعة السيئة،
كلاهما يرتكز على الارتجال والقرابة والرفقة وعلى مواقف عابرة،
وعلى الحب والحقد والوشاية والدعاية والخ وهلم جرا.

من سرق حذاءً في صباه وكان حافياً،
يظل لصاً الى الابد ولو تحول الى كاهن أو قديس أو مناضل،
حتى لو أعدم في سبيل الناس أو قضية عادلة،
سيظل اسمه القديس أبو الحذاء أو المناضل الشهيد سارق الاحذية،
فثقافة الوصم لصقة ابدية لا فرار منها حتى لو كانت نكتة عابرة،
أو موقفا عابراً،
والأمر نفسه ينطبق على السمعة الطيبة:
من تبرع بحفنة دراهم لمحتاج ومن مشى في جنازة فقير،
ومن شارك في اطفاء حريق جيران،
يظل هو الانسان الخيّر حتى لو انتقل، في هويته الجديدة، الى مشعل حرائق والى سفاح سياسة والى قاطع طريق،
وحرامي يسرق هاتف طبيبه في غرفة الانعاش المركز.

الويل لمن يقع في خزانات الحفظ سلباً على اثر عطسة أو ريح نتنة في مقهى أو شارع او كلمة عابرة أو ترهات أو وشاية.
الارشيف الارضي الاجتماعي لا يعرف الرحمة والشفقة والسهو والمغفرة،
فهو جيرة بصوف كما يقول المثل،
ونقيض حتى للارشيف الملائكي على الكتفين الذي يترك باب التوبة مفتوحا حتى النفس الاخير.
الذاكرة المغلقة على صور متخيلة او حوادث مرتجلة او حتى على ترهات،
هي ليست ذاكرة بل مقبرة مغلقة لا يخرج منها أحد:
هل هناك مقبرة أعادت ميتاً؟

ذاكرة المجتمعات المغلقة لا تنفتح على التحول،
ولا على النسيان،
ولا تعرف ان الانسان من لحظة اليقظة في الصباح وحتى النوم هو مسلسل تحولات وتغيرات وطفرات وبعضها قد يكون مصيرياً وقد تنقلب الشخصية انقلابا جذريا سلبا أم ايجابا.

اللصوص الجدد في العراق، لصوص السلطة ــــ بالمعنى الواسع للسلطة وليس الحكومة فقط ــــ انتقلوا الى هويات فردية جديدة،
وتعرض كيانهم الداخلي للاهتزاز والانشطار،
ولم يعد باقيا من ماضي الهوية الا ما اختزن في الذاكرة العامة،
وهي ليست ذاكرة بل زنزانة،
لا تفلت من يدخل فيها خيرا أو شرا.

وهذا الغطاء ــــ الذاكرة الصلبة ـــ يوفر مظلة نموذجية للصوص الجدد للسطو على كل شيء،
لأن المواطن أو ما تبقى من مواطن، غير قادر على تغيير صورة راسخة في ذاكرته اولا،
وغير قادر على استيعاب صورة جديدة لأنها تتناقض مع معتقدات وتصورات وتخيلات سابقة راسخة، ثانيا،
وثالثا، ان صورة اللص العامة لم تتبدل في الظاهر،
بل يحاول تعميقها بشعارات أضخم من السابق قبل " التحول" العميق في الهوية الفردية،
وقد يكون هذا " التحول" موجوداً في الماضي وفي جوهر الشخصية لكنه مثل نبتة شر ينتظر الظرف والفرصة السانحة،
فليس من المعقول أن يتحول انسان نظيف الى حرامي بين ليلة وضحاها،
لأن القيم الاخلاقية الداخلية تظل تقاوم التدهور،
وتشكل مصدات وقاية من الانزلاق،
وقد يصاب بالعصاب والقلق بسبب المقاومة النفسية الداخلية،
لكن لن يسقط أو يتدهور أبداً.

أما اللص المتحول ، في ظروف أيام أو شهور، من صورة الرجل المثالي الطيب، صاحب الرسالة الاخلاقية والوطنية،الى لص للمال العام، ونهاب علني أو مستتر،
فهو بلا شك لا يحتاج الى صراع داخلي من خطر الانزلاق،
لأن المصدات الداخلية، المثل العليا، المبادئ، القيم الاخلاقية، الضمير، كانت ملصقةً لصقاً أو حتى غائبة لكن هذا الغياب مغطى بطبقة كثيفة من الشعارات،
لذلك ينزلق نحو كل أنواع الرذائل من دون صراع داخلي،
بل على العكس في تماسك داخلي لأن هذا هو الظرف المُنتظر لكي تظهر هذه الشخصية على حقيقتها بلا قناع.

حتى لو اختلف لصوص اليوم على موقف أو غنيمة أو واقعة،
فلن تظهر السرقة،
هويات اللصوص الجديدة المشتركة كثيرة،
الروابط بينهم لا حصر لها،
وكما يقول المفكر مايك كراغ" المحن والمواقف المشتركة تخلق بين الناس هويات جديدة،
مثل من يشاهد مباريات كرة قدم في قارات مختلفة"،
أو ركاب باخرة على وشك الغرق،
أو طائرة على وشك السقوط أو تعطل مصعد أو جنود في حصار... والخ.

الخوف يخلق هوية مشتركة بين لصوص المال العام،
ليس من مصلحتهم صفاء الاوضاع بل التعكير،
انه أفضل دخان للستر،
ليس من مصلحتهم نهاية صراعات ونزاعات مسلحة لأنها الغطاء المثالي لانشغال الناس،
ليس من مصلحتهم دولة عادلة ومؤسسات لكي لا تنفتح سجلات الخطر والسطو والنهب،
من الأفضل اشغال الناس بعدو حقيقي أو متخيل،
الناس تخاف من العدو،
المال وليس العيال كما هو الشعار،
من الأهم انشغال الناس بالمجاري والصيف والكهرباء والدبق والرطوبة،
ومن الأفضل ظهور ثعابين جديدة بعدة رؤوس أو ذئاب حقيقية تهاجم الناس،
وكم سيكون الحظ رائعاً لو ظهرت ببغاء ترقص رقصا شرقيا لكي نظيف رقما جديدا للعدد الهائل من الببغاوات،
وحكاية جديدة تنسي الناس المال والحلال وسوء الأحوال ومخاوف المآل،
واذا لم تظهر، يخترع اللصوص حكايات في الرعب والسلاح والخطر.

روابط اللصوص الجدد هي: خطر الانفضاح، قرابة المصير، الخوف من القادم، الرعب من الاستقرار والسلم الاهلي وغير ذلك،
أما الكراهيات العلنية والسرية بينهم فلا قيمة لها ولا خطر لأن ما يجمع من روابط مصيرية واقتصادية وسياسية ومستقبلية أقوى من الكراهيات.

نحن لا نعرف مع الاسف ان الشلة تغيرت،
وان قساوسة الامس صاروا لصوصا اليوم،
نحن نحتفظ كصناديق الجدات بصور وخرز وخناجر قديمة وصدئة وعملات بائرة:
المشكلة الأخطر ليست في براعة هؤلاء،
بل في عقلية قائمة على الخزن والحفظ والارشفة رغم تبدل الناس والعالم،
في ذاكرة صلبة لا تتغير بكل الكوارث والمفخخات.

اللصوص يعرفون هذا جيداً لذلك لم يبدلوا الصورة ولا الشعارات،
والمواطن نفسه رغم ان هؤلاء تركوه عارياً بالمعنى العميق للعري،
عري الضمان والامن والخدمات والكرامة والصحة والمستقبل،
الا انه يتوقع يوماً أن يحصل على
"دبس من دبر النمس".

 

حمزة الحسن

https://www.facebook.com/hmst.alhasn/posts/10153146244782266

 

تاريخ النشر

31.07.2015

 

 

 

  عودة الى الصفحة الرئيسية◄◄

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

31.07.2015

  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4]  | أرشيف المقالات  |  دراسات  |  عمال ونقابات |  فنون وآداب |  كاريكاتير  |  المرأة |  الأطفال | إتصل بنا       

      

لا للتقسيم لا للأقاليم

 

لا

للأحتلال

لا

لأقتصاد السوق

لا

لتقسيم العراق

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة

من الكتاب والصحفيين العرب و العراقيين   

 

                                                                  

                                                                          

  

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org