%@ Language=JavaScript %>
علي الوردي : (41)
مشكلة اللغة الفراغية (الإستحواذية) في المجتمع العراقي
د. حسين سرمك حسن
بغداد المحروسة - 2015
ما هي اللغة الفراغية ( الاستحواذية) :
يرى الدكتور علي الوردي أن من الأمور المهمة التي ترتّبت على فصل الأدب عن دوره الاجتماعي ، والنظر المتعالي على الطبقات الشعبية وهمومها ، والتي التقطها الوردي بذكاء ، هو ما يمكن أن نصطلح عليه بـ "اللغة الفراغية" . وقد استقى نظرته التشخيصية هذه من الباحث الأمريكي المعروف "فبلن" الذي وصف أفراد الطبقة العليا بمصطلح " الطبقة الاستحواذية - predatory" التي تجاهد كثيرا في سبيل ابتكار الفوارق الاصطناعية التي تميزها عن الطبقات الكادحة :
( ومن أهم هذه الفوارق، في نظره، هي اللغة . فالاستحواذيون يحاولون أن يظهروا أمام الناس بأنهم من أصحاب الفراغ – leisure class ، ولذا تراهم يصرفون وقتا طويلا في تعلّم قواعد النحو العويصة . فإذا تكلموا التزموا تلك القواعد في كلامهم فيعجز الكادحون والفقراء أن يباروهم فيها وبذا يشعرون بالنقص إزاءهم ) .
وهنا تبرز سمة أخرى مهمة من السمات الأسلوبية لدى الوردي وهي ما يمكن أن نسميه باللغة الفصحى الشعبية ، ونقصد بها اللغة البسيطة المُيسّرة ، أو لغة الجريدة كما تُسمّى أحياناً ، أو اللغة الثالثة ، والتي كان دافعها إدراكه الثاقب لأبعاد نظرية "فبلن" والذي يرى أن الكادحين لا يملكون من أوقات الفراغ ما يستطيعون به أن يتعلموا قواعد الصرف والنحو وأفانين اللغة العسيرة . إن لغتهم تكون عادة في منتهى السهولة والاختصار لأنها تُستعمل لديهم كوسيلة لا غاية . ولهذا فهم يظهرون بمظهر الأغبياء والعاجزين تجاه الاستحواذيين الذين يرطنون فيما بينهم بألفاظهم الرنّانة وقواعد نحوهم الصعب .
# اللغة الإستحواذية في العصر العباسي :
ويرى الوردي أن هذا واحد من أهم أسباب الاهتمام المفرط بقواعد الإعراب والنحو والصرف والبديع والبيان في العصر العباسي الذي اتسعت فيه الفجوة الهائلة بين الطبقة الفراغية الاستحواذية وبين الطبقات المسحوقة :
( فكانت الطبقة الاستحواذية في تلك الحضارة تعتني برفع الفاعل ونصب المفعول أكثر مما تعتني بمباديء العدالة الاجتماعية التي جاء بها الاسلام . وكثيرا ما توقف مجلس الدولة عن جميع أعماله لكي يتفرج على النزاع الناشب بين نحوي ومغنية حول نصب كلمة أو جرّها أو رفعها .. أو الانتكاس على رأسها ) (299) .
يُحكى أن جارية كانت تغنّي في مجلس الخليفة "الواثق" ، وكان أحد النحويين حاضرا فأراد أن يُظهر براعته العلمية ، فأعلن بأن الجارية أخطأت في إعراب إحدى الكلمات أثناء الغناء . والظاهر أن الجارية امتعضت من هذا التحدّي ، فالمفروض فيها أن تكون مغنية ونحوية في آن واحد . فحدث من جراء ذلك جدل اشترك فيه الخليفة وحاشيته . ولم يجد الخليفة حلا إلا بأن يستدعي أحد النحويين من البصرة ليجعله حكما في الأمر . وجاء النحوي بعد سفر طويل لكي يحكم فيما إذا كانت الكلمة المتنازع عليها منصوبة أو مرفوعة أو مجرورة أو مجزومة ... أو منتكسة على رأسها ) (300) .
# .. وفي العهد العثماني .. ونشوء الدولة العراقية :
ولم ينقطع هذا الداء العضال في العهود اللاحقة كعهد الاحتلال العثماني للعراق مثلا ، حيث استشرى هذا الداء على أيدي "طبقة الأفندية" التي حذّر منها الوردي في محاضرته الأولى في بغداد بعد عودته من الولايات المتحدة . فآنذاك كان الأفندية يحتقرون الشعب ويتبجحون بلغتهم التركية الفخمة ذات الهدير والخرير . وكانت العوائل المترفة آنذاك ترسل أولادها إلى اسطنبول ليدرسوا في مدارسها العسكرية والمدنية . ويعود الأبناء وهم يتلفظون بمعلومات ومصطلحات غريبة . ثم ولأسباب مرتبطة بحاجة الدولة الجديدة الناشئة ، تضخّم وجود هذه الطبقة بعد تأسيس الدولة العراقية حيث :
( مرّ على البلاد زمان لا يكاد يتخرج فيه الشاب من الدراسة المتوسطة أو الثانوية ، حتى يجد مجاله في دوائر الحكومة رحيبا ، فهو قد تعلم شيئا من ألفباء العلوم ثم رأى نفسه قد أصبح مسموع الكلمة ، وبذا فهو لم ير مانعا يمنعه من الدعاوى العريضة ووضع الخطط لتشييد امبراطورية أو إعادة مجد الأجداد ، وكثيرا ما نجده يلجأ إلى اللغة الفصحى يتنطغ بها عن آماله الامبراطورية ) (301) .
فـ : ( عندما تشكلت الدولة العراقية أخيرا ، وأخذ مجد ( عدنان) و( قحطان ) و(نزار) يحل محل (حكمت) و(حشمت) و(مدحت)، تراجع الأفندية ، وأُسقِط في أيديهم . ذلك أن لغة سيبويه ونفطويه شرعت تأخذ مكان تلك اللغة الهدّارة وتنال قصب السبق عنها ) (302) .
وهناك أيضا البعض من العائدين من الدراسة في الجامعات الغربية ، هذا البعض يملأ حديثه بالمصطلحات وفق دوافع هي نفسها التي تقف وراء زواجه بأجنبية ومجيئه بها متبخترا بين أبناء جلدته . والوردي يحدّد سببا نفسيا مهما لاستشراء اللغة الفراغية بين أناس من عامة الشعب هم من أسماهم " الصعاليك" ويتمثلون في المتعلمين وأنصاف المتعلمين في العراق آنذاك ، ويتمثل في تعويض نقص الإمكانات من ناحية ، وتغطية الشعور بالنقص من ناحية أخرى . فواحدهم ما يكاد يتكلم حتى يملأ كلامه بالمصطلحات الغريبة والمفردات الرنانة ، و :
( ربما جاز القول : إنه كلما قلّت معلومات الشخص وضحلت ثقافته اتجه إلى المصطلحات الغامضة يتفيقه بها في كل مجلس ويقذف بها في كل مكان . إنه يندفع في هذا السبيل اندفاعا لا شعوريا إذ يحاول أن يسد بذلك عقدة كامنة في أغوار نفسه تحفزه دوما نحو التمييز والاستعلاء .. على غير أساس ) (303) .
# .. وفي الوسط الجامعي :
ولكن المشكلة الكبيرة التي واجهها الوردي في هذا المجال هو في انتشار هذه المعضلة في الوسط الجامعي الذي كان يعمل فيه . لقد شخّص هناك ، وحارب ، ظاهرة " الأبراج العاجية " ، والتي سببت له الكثير من المواجهات والمضايقات والاتهامات .( وقد يكون الوردي من بين أوائل المفكرين الذين دعوا إلى التحام الجامعة بهموم المجتمع ومعالجتها لمشكلاته ) . ولكن بقدر تعلق الأمر بشيوع اللغة الاستحواذية في الحياة الأكاديمية الجامعية ، فإن الوردي يشير إلى معاناته بصراحة :
( رأيتُ بعض الأساتذة في كليات بغداد يحاولون أن يجعلوا من غرفة الدرس برجا عاجّيا يتغزلون فيه بضوء القمر ولون الشفق ، ولا يريدون أن ينزلوا إلى بحث المشاكل الإجتماعية التي يعاني الشعب منها ما يعاني . فهم يرون في هذا النزول تسفلا لا يليق برجل الفكر . إنهم يذكروننا بميول الطبقة الاستحواذية التي تحاول ، بكل ما في وسعها من جهد ، أن تختلق الوسائل والفوارق المصطنعة كي تتعالى بها وتتباهى على من دونها من سواد الناس ) (304) .
# الوردي من أوائل من دعوا إلى ربط الجامعة بمشكلات المجنمع ، وعدم تخريج أجيال اللغة الإستحواذية المتحمّسة :
إن انفصال الجامعة عن هموم الشعب وتعاليها على مشكلات المجتمع وسيرها على أساس سياسة بناء الأبراج العاجية يمتد أيضا كظاهرة إلى مناهج التعليم وطريقة التدريس في المدارس التي لا تختلف عنها في الكليات والجامعات ، فهذه المناهج ذات الشكل البلاغي المضخم والمضامين المتحمسة أسهمت في تخريج أجيال شديدة الاندفاع نحو كل ما يوفر له البطولة المظهرية والإنجاز الذكوري من أجل الإنجاز لذاته . وهذا الأمر لم يُدرس حتى الآن بصورة صحيحة ، ويتعلق بالكيفية التي تمت بها تنشئة الأجيال " الإنقلابية" في الحياة السياسية العراقية والتي كان لنشوئها عوامل كثيرة بطبيعة الحال من بينها العملية التربوية والتعليمية التي كانت تجري في المدارس والكليات . يقول الوردي :
( الظاهر أن طريقة التعليم في مدارسنا وكلياتنا المختلفة تساعد ، بصورة غير مباشرة على انتاج هذه الظاهرة الاجتماعية الخبيثة في العراق . فنحن نلقن تلاميذنا معلومات "عاجية" لا صلة لها بحقائق الحياة ومشاكلها . وأننا نعلم تلاميذنا على الحماسة في سبيل الحق والعدل والفضيلة ولكننا لا نبيّن لهم مجاري هذه المباديء المطلقة في الحياة العملية . والتلميذ يتخرج إذن وهو متحمس حماسة مبهمة تكاد تنطبق على أي وجه وتلائم كل فكرة وضدها ، فإذا أمسك بيده زمام القوة بدأت حماسته تظهر في مجال خدمة الأقرباء والأصهار والأعوان ، وأهل التزلف والمديح الرنان . وتجده يتحرق آنذاك في دعوى خدمة الأمة ، ولكنه يقصد في ذلك خدمة المحسوبين والمنسوبين لا غير ) (305) .
إن من السمات السلوكية المتوقعة لمثل هذا الجيل هو سطوة اللغة الإستحواذية على كلامه وكتابته وذائقته القرائية ، حتى لو لم يكن من الطبقة الاستحواذية أصلا .
تاريخ النشر
04.12.2015
تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم
الصفحة الرئيسية | [2] [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا
جميع الحقوق محفوظة © 2009 صوت اليسار العراقي
الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا |
04.12.2015 |
---|
|
لا للتقسيم لا للأقاليم |
لا للأحتلال لا لأقتصاد السوق لا لتقسيم العراق |
صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العرب و العراقيين
|
|
---|---|---|---|---|
|
||||
للمراسلة webmaster@saotaliassar.org |