<%@ Language=JavaScript %> نصير عواد "أبو الصوف"

 

 

 

"أبو الصوف"

 

 

 

نصير عواد

 

للفن والإبداع دور ملموس في تجربة الأنصار الشيوعيّين بكردستان العراق، مثل أية حركة ثورية أخرى، ولكننا بالعموم لا نستطيع الحديث عن مجالات الابداع( مسرح، تشكيل، رواية، أغنية.. وغيرها) على أنها جسّدت بشكل حقيقيّ وكامل تجربة الأنصار الشيوعييّن، خصوصا وإن التجربة كانت بالأساس سياسيّة ــ عسكريّة تشكّلت في ظروف صعبة لمواجهة عنف وقمع ديكتاتورية حزب البعث العربي الاشتراكي. وأن الحزب الشيوعيّ العراقيّ الذي صنع وقاد التجربة كان منشغلا بتقليل الخسائر وانقاذ قاعدته الحزبية من الهلاك ولم تكنْ من أولوياته دعم النشاطات الثقافيّة لغرض تطويرها وتوظيفها في ايصال سياساته لأوسع شريحة ممكنة، الأمر الذي حدّ من توسع تلك النشاطات وصيّرها فردية، غير قادرة على اختراق العزلة التي فُرضت عليها في الجبل.

صحيح أن الأغنية، العاطفيّة أو السياسيّة أو الانتقاديّة، تصل بشكل أسرع وأوسع، قياسا بالفنون الأخرى، إلا أنها تكاد تكون هي الأضعف والأقل حضورا في الجبل، وأن الاسماء التي برزت فيها قليلة جدا ولا تُعد على أصابع اليد الواحدة، لم تستطعْ تشكيل ظاهرة أو فرقة متخصصة بالتأليف والتلحين والغناء. في ظروف أخرى، أعوام الجبهة الوطنية على سبيل المثال، كان لدى الحزب الشيوعي مطربين وفرق موسيقية، تؤدي أغان وطنية رائعة ومعبرة تتناول المناسبات والثورات الوطنية وتتغنى بتاريخ الحزب الشيوعيّ العراقيّ وشهدائه، وما زالت هذه الاغاني حاضرة ويردّدها الشارع العراقيّ في تلك المناسبات. ولكن الأغنيّة الانتقاديّة، الساخرة، التي نحن بصدد التوقف عندها هي بحق وليدة تجربة الأنصار الشيوعيّين في الجبل، وليدة نضالهم ضد الديكتاتور، عبّرت عن معاناتهم وعن مراراتهم وعن أمنياتهم. أغنية وُلدت في الجبل، وصاحبت الأنصار في مناسباتهم وسهراتهم، وتوقفت بتوقف القتال في نهاية الثمانينيات، بعد أن قصفت ديكتاتورية البعث الأنصار البيشمه ركَه بالقنابل الكيمياوية، المحرمة دوليّا، ولم تستطع الأغاني الانتقال من التعبير إلى التأثير والانتشار، ولم يتسنَ لها الوقت للمشاركة في مهرجانات داخل البلاد أو خارجها، بل لم تظهر اسطوانة واحدة تجمع تلك الأغاني، وبقيت تتنفس فقط في حياة الأنصار وفي مناسباتهم القليلة بالمنافي الباردة.

 الفرح قليل في الجبل، كباقي مستلزمات الحياة الأخرى، الأمر الذي صوّر النضال المسلح والسخرية لا يجلسان إلى طاولة واحدة، وأن الأنصار قد قُدّت ملامحهم من حجر وزيت سلاح، وليس لديهم الوقت الكافي للحب والغناء والرقص، ولكن خلف القشرة الرصاصية تسكن أرواح شفافة، وتتكدس غرابة ومرارة قد لا يمكن الوصول إليهما والتعبير عنهما إلا بالسخرية. فالمعاناة حين تُغنى بشكل ساخر ستفتح نوافذ في الروح وتنفس عن احتقان كان مسكوتا عنه.

في الحقيقة لا يمكننا الحديث عن الأغنية الانتقادية في تجربة الأنصار الشيوعيين دون التوقف عند النصير الاعلامي( أبو الصوف\ صفاء حسن العتابي) الذي كتب نصوصا قريبة من حياة الأنصار وغناها بلحن أليف وموسيقى جذابة قادمة من تلك الرقصات المنتشرة في وسط وجنوب العراق. فهو "أبو الصوف" خريج معهد الفنون الجميلة ببغداد في نهاية السبعينيات قسم المسرح، وعمل في مجال الخط والتصميم في الصحافة العراقيّة والاجنبيّة، وأثناء وجوده في الجبل مارس الغناء كهاوٍ ليس لديه الامكانات لتوسيع المشروع وجعله مشروعا فنيا قابلا للانتشار. كان "أبو الصوف" طوال فترة وجوده في الجبل "ناوزنك، بشتأشان" يعمل في مجال الاعلام، وخصوصا اصدار جريدة الحزب المركزية" طريق الشعب"، الذي يتطلب العمل في اخراجها إلى النور جهدا يمتد إلى (14) ساعة في اليوم، ومع ذلك كان "ابو الصوف" بين رفاقه الأنصار يطبخ ويحطّب ويناوب بالحراسة. هذا التواجد اليومي بين الأنصار، في مناخ العمل الجماعي والمبادرات الفردية ومشاكل الثلج وتواجد الاحزاب الكردية على الساحة، ملأ حقيبة سخريته من الحاجات اليومية البسيطة( البغل، المسؤول الحزبي، العدس، الشروال ) وحمّلها هموما سياسيّة واجتماعيّة لمجموعة دراويش صعدوا الجبل لمواجهة أعتى ديكتاتورية في نهاية القرن العشرين، ببنادق عتيقة وقناعات لا تصدأ، قال عنهم في واحدة من أغنياته الخفيفة ...

 شدّيت الرزن مضبوط وللمفرزة اتعنيتي    \   وتيتي تيتي مثل ما رحتي اجيتي

من يستمع لأغاني" أبو الصوف" سيلمس فيها محاكاة سياسيّة، انتقاديّة وساخرة، لأحداث ومواقف ومصادفات يومية وقعت بين الأنصار، وأحيانا يلاحق احلامه الشخصية ويسخر من نفسه ومن تعقيدات حياته في الجبل. ففي مناسبات الأنصار القليلة يبدأ "أبو الصوف" ليلته بأغنية معروفة من أغانيه الساخرة والمعترضة على ما هم فيه ، يخيّل فيها للسامع وكأنه في منجى عن سهام "أبو الصوف"، ثم سرعان ما تتحول كلمات الأغنية إلى متضادات ومتلازمات، وتبقى نهاية القافية مفتوحة على أسماء واحداث طازجة، يصير كل شيء في الأمسية قابل للدخول في مناخ الأغنية. الكلّ يسخر، والابتسامة تعلو وجوه الجميع، دون غيض او أحقاد. نصوص الأغاني قد لا تتعرض للأمم المتحدة أو منظمة أوبك، ولا تأتي على ذكر ازدحام الطرق وانقطاع الكهرباء وغلق المصانع، ولكنها قد تتوقف عند قرار "ملا علي" آمر بتاليون "نه وزنك" الذي أصدر أمرا للأنصار بحلق اللحية، يومها غنى "أبو الصوف" :

زيّن لحيتك زين لا عاد اعاقب  \  ناقش وره التنفيذ واحفظ الواجب

منك ربحنه هواي   منك ربحنه  \  ما ضلتينه غير بس شواربنه

لا نود المبالغة في وضع الأغاني التي أبدعها" أبو الصوف" في خانة الأغنية الوطنية، أو الهادفة والملتزمة.. وألخ، ولا نقارنها بأغانٍ وأسماء فنية أخرى، خصوصا وأنها كانت معزولة، لا نقاد ولا مهرجانات تختبر جودتها. وكذلك لا نستطيع القول أنها هدّدت الديكتاتور القابع ببغداد العاصمة، أو أنها فعلت فعلها، المباشر، في تغيير موازين الصراع على الساحة الكرديّة، بل هي حتى لم تُحسّن كثيرا من طبيعة العلاقة، المليئة بالثقوب، بين النصير ومسؤوله الحزبي في الجبل. ولكن هذه الأغاني ساهمت، وبتواضع، في تعميق وعي الأنصار وفي توسيع مساحة الجرأة على النقد، إضافة إلى التخفيف من الضغوطات الاجتماعيّة والنفسيّة التي كانت تحاصرهم في الجبل. فالجملة القصيرة واللحن الراقص والموقف الساخر أدوات مجربة وقادرة على صنع البهجة وعلى إيصال الفكرة، بأسرع وقت، إلى أوسع جمهور ممكن.

 لقد كُتبت أغاني الأنصار باللغة العراقية الدارجة، تتسرب إليها أحيانا بعض المفردات الكردية. ولُحنت بطريقة بسيطة، إذ لا يوجد في الجبل سوى الدفوف والايقاعات وبعض الآلات الوترية كالغيتار. ومن ثم رددها أنصار بأصوات ليس لها علاقة بمهنة الغناء. أغلب هذه الأغاني تحاكي، فنيا، أغنيات ورقصات (الهيوه، البزخ) المنتشرتان في وسط وجنوب العراق، والتي تستخرج الفرح من الألم والحزن والضرب، برمزية، على بعض أطراف الجسد الحساسة.

الأغاني التي انتشرت بين الأنصار حفظها وردّدها الجميع، عرب وأكراد وتركمان، وإن كان الاكراد احيانا يغنوها بعربية مكسرة. ولا نذيع سرا في قولنا أن هذه الأغاني لم تكنْ كلها من تأليف "أبو الصوف" بل كانت لشعراء آخرين لا يريدون الاصطدام بالحزب وتواروا خلف فوضى وعبث "أبو الصوف" ولكنها نُسبت لاحقا إلى هذا الأخير. على سبيل المثال كانت هناك قصيدة طويلة ساهم في كتابتها الشاعر "عواد ناصر" تقول كلماتها..

ع البطانة انكَلبنه وإنلبسنه   \   خللك شروال صرنه وإنلبسنه

بعد تردون نعتب وإنلبــسنه   \   انخصينه بالنقد والمركزية

النص المار ذكره جزء من قصيدة طويلة، نقدية وساخرة، تنطوي على إيحاءات واضحة لمن عاشوا التجربة. فلقد كانت المشاكل التنظيمية والخلافات السياسية في الحزب واضحة، مثل أية تجربة حيّة، ولكنها تشكو من خلل في إدارتها وتوظيفها. ولذلك فإن مثل هذه الأغاني القادمة من حياة الأنصار اليومية، والتي كُتبت بكلمات بسيطة وعميقة تعكس معاناة النصير وسط دهاليز المؤسسة الحزبية، ولا تُشكّل نشازا أو خرقا غير مألوف بينهم، بل أن الكثير من الأنصار الذين يمتلكون رأيا لا يتماشى وسياسة الحزب ولا يستطيعون إيصاله أو البوح به استعانوا  بتلك الاغاني للتعبير، أو للتنفيس، عنه. ينبغي القول هنا إن كلمات هذه الأغاني، الناقدة والمباشرة، قد لا تكون مقبولة أو ممتعة في أمكنة أخرى وفي ظروف نضالية أخرى غير تلك التي كانت تجري تفاصيلها في الجبل.

أغاني الأنصار كانت تواكب الأحداث وتستشرف المستقبل أحيانا، شأن أي أبداع حقيقي، يحاور فيها النصير مسؤولا سياسيا معروفا في الوسط الأنصاري، ولكن دون الذهاب بعيدا. بعض هذه النصوص حمل في طيّته "نبوءة" انصارية خرافية عن سقوط "صدام حسين" وعن الدور المشبوه لدول الخليج وعن سطوع نجم الملالي وأصحاب العمائم بالعراق. ففي عام (1981) كتب أبو الصوف يحاور ويناغي عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي مهدي عبد الكريم "أبو عباس" بكلمات فيها الكثير من البهجة والأمل والسخرية:

لا تهتم يبو عباس باجر صدام يوّلي   \    طارق حمد اللعبدالله على درب الشردة يدلّي

ونعيش بحكم الآيات ونطيّح حظه المايصلي   \   واللي يرجع لكردستان بس اللي عقّله ترللي

 هذه القصيدة التي غناها "أبو الصوف" بصوته وجُيرت باسمه، لم تتناول الحزب أو المسؤول السياسي بل عبرت هذه المرة إلى دول الجوار ومستقبل المنطقة التي كان من أبرز ظواهرها صعود التيار الديني. وعندما تنتشر الأغنية بين الأنصار، الباحثين عن المتعة والتغيير، ستصقلها الألسن في المناسبات وحوّل المواقد، وسيكون من الصعب اجراء تبديل على متنها. وإنْ حدث تلاعبا في النص الأصلي، فسوف لن يستمر ذلك طويلا، وسرعان ما يعودون إلى النص الأصلي.

النصير " أبو الصوف" كان منفتحا، فرحا، يحب الحياة ولا يشعر بأنه عرضة لمراقبة أحدا في الجبال، وتساوقا مع ذلك نجد لا خطوط حمراء، سياسية أو اجتماعية، حول الأغاني التي يكتبها ويؤديها على الرغم من أنها تناولت أوضاع سياسية معقدة واشارت إلى أسماء معروفة في الوسط الأنصاري. أغاني الأنصار لا تمس المقدس بشكل علنيّ ولا تتضمن كلمات خادشة للحياء ولا تحتوي شتائم مباشرة ضد أسم بعينه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن قلّة النشاطات التي تخفف عن كاهل الأنصار سمحت لهذا النوع من الأغاني بالانتشار والتخفيف عن هموم الأنصار، من جهة ثالثة فأن عمل "أبو الصوف" الاعلامي، القريب من قيادات الحزب، جعله معروفا وأبعد عنه الشبهات وسهّل له الكثير من الأمور. بالمناسبة كان المسؤول الحزبي يضحك، كباقي الأنصار، لسماعه تلك الأغاني، ولكنه لا يشارك في الغناء، وبقيّ جسده متخشب لا يعرف طريقا للرقص والفرح. وقد تردد يومها أن المسؤول العسكري للحزب(أبو عامل) قد أخذ على بعض رفاقه من القادة صمتهم وموافقتهم المبطنة على تلك (التجاوزات) المبثوثة في أغاني "أبو الصوف".

إن الخيط الذي ينتظم أغاني الأنصار هو التعبير عن ظروفهم السياسية والاجتماعية في الجبل، أحزانهم وافراحهم، انتصاراتهم وهزائمهم. وقد لا نأتي بجديد في قولنا أن مجزرة بشتأشان التي ارتكبها حزب الاتحاد الوطني الكردستاني (أوك) ضد الاحزاب الوطنية المتواجدة في الجبل قد أثارت يومها سخط الكثير من الأنصار الشيوعيين، وأدت نتائجها إلى ظهور آثار جانبية مؤلمة كلّفت الحزب الكثير من الجهد والوقت للتخفيف من مضاعفاتها. من بين تلك الآثار مغادرة الكثير من الأنصار إلى خارج البلاد، وتحميل القيادة السياسية مسؤولية ما حدث من مأساة، وخصوصا المكتب العسكري للحزب الذي يطلقون عليه اختصارا اسم (معم). في تلك الظروف الصعبة كانت أغاني "أبو الصوف" تتطور ضمن واقع معاش، مؤلم، تنتقد هنا وتحزن هناك وتشيد ثالثة بالبطولات التي خطّها الأنصار، تستحضر المكان وتبتعد عن استخدام الإيحاء والرمز، بما يتناسب مع ظروف القتال.

يا (معم) يابو البهذله     انته أساس المهزله

بس كَلي شنهو الحققت     بسك تطمطم عارك

بولي تدافع ابشرف     وإشقولكه جابت الهدف

كاسكان تبقى للصبح     محد يعين أنصارها

"أبو الصوف" كان يجيد انتقاء كلمات الأغنية من بساطة وعمق الحياة اليومية، فهي عنده تبدأ بالبغل وتنتهي عند عتبة المسؤول الحزبي، فيها ميّل للنصير المقاتل أكثر منه للمسؤول السياسيّ؛ بمعنى إن هذه الاغنيات جسّدت بالدرجة الأساس موقف "أبو الصوف" من قضاياه الوطنية، وعبّرت عن المزاج العام للأنصار الشيوعيين. اغان ساخرة لا تخلو من الجَد، نلمح فيها لحظة حزن بعيدة، مستترة خلف قسوة الأحداث، صارت معها الأغنية أشبه بطرفة في مقبرة، تنتزع الابتسامة من الوجوه التي لوّحتها المعاناة.     

 

 

تاريخ النشر

22.06.2015

 

 

 

  عودة الى الصفحة الرئيسية◄◄

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

22.06.2015

  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4]  | أرشيف المقالات  |  دراسات  |  عمال ونقابات |  فنون وآداب |  كاريكاتير  |  المرأة |  الأطفال | إتصل بنا       

      

لا للتقسيم لا للأقاليم

 

لا

للأحتلال

لا

لأقتصاد السوق

لا

لتقسيم العراق

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة

من الكتاب والصحفيين العرب و العراقيين   

 

                                                                  

                                                                          

  

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org