<%@ Language=JavaScript %> حمزة الحسن المسكوت عنه في خطاب الهيمنة

 

 

المسكوت عنه في خطاب الهيمنة

 

 

حمزة الحسن

 

عندما يقول وزير الدفاع الامريكي:
" إن الجيش لم يقاتل في الرمادي ويمكننا ان نقدم له السلاح ولكننا لا يمكن أن نوفر له ارادة القتال،
وهذا الجيش لا فائدة ترتجى منه"،
فهو يخفي من الكلام الكثير على طريقة الخطاب الامريكي في الحجب والسكوت والتستر.

ان اي جيش في العالم يعكس البناء السياسي الحاكم، وان المؤسسة العسكرية تعكس صورة النظام، سلباً أم إيجاباً،
فمن أسس النظام السياسي في العراق؟

وعلى طريقة اهمال المناطق الرمادية في الخطاب الاستعماري الوقح وهو أهم من الكلام المنطوق،
أين هو المسكوت عنه والمختفي وغير المصرح به في كلام الوزير،
وأين هي المساحات المخفية من الاسئلة والاحتمالات الملغية لكي نحشر في التفكير في اطار محدد سلفاً؟

عادة يختزل الخطاب الامريكي الوقائع المتعلقة بالسياسات الامريكية في قضايا العالم في ثنائيات تختزل أوضاعا معقدة تحتمل الكثير من الاراء والشكوك والتفسيرات،
وتبعا لذلك يلجأ ضحايا العنف الامريكي الى التفكير داخل هذه الثنائيات الملفقة،
وهو عنف لغوي لا يقل عنفاً عن غيره،
من دون نتيجة لأنها ثنائيات غير صحيحة ومغلقة للهروب والتبرير،
بحيث يقود التفكير مثلا في عبارات" لم يقاتل في الرمادي"،
و" لا تتوفر فيه ارادة القتال"،
أو " لا يرتجى منه"،

يقود التفكير بحرفيات هذا الكلام بحصر النقاش والجدل في اطار ضيق ومحدود يبسط قضية مركبة في جيش لم يقاتل وبلا ارادة قتال ولا يرتجى منه.
أو كما قال الرئيس الامريكي" أخطاء تكتيكية"،
وكررها العبادي حرفياً،
لكن المحظور من الكلام والأهم بل الادق هو ان هذا الجيش لم يقاتل في الرمادي وربما لم يقاتل في مناطق اخرى بسبب النظام السياسي الهجين والمركب الذي اسسته الولايات المتحدة،
وهو تجمع قسري وخليط من قوى متعادية ومتنافرة ومتربصة بعضها للاخر،
وتراكم صلاحيات وتداخل مؤسسات بحيث يضيع القرار المركزي في قضايا كبرى بل في شؤون أخرى،
وانعكاس السلطة السياسية في صورة ونظام وعمل المؤسسة العسكرية هو أمر متوقع بل منطقي.

وكيف يمكن لهذا الجيش ان يمتلك ارادة قتال؟
لا يمكن عزل ارادة المؤسسة العسكرية عن الارادة السياسية،
واذا كانت الارادة السياسية مصادرة، فمن المنطقي والبديهي ان تتطابق معها الارادة العسكرية،
حتى لو كانت بين تشكيلاتها قوى وطنية حية ونظيفة،
لكن الارادة السياسية العليا قادرة على تعطيلها في الميدان بشتى الطرق.

اذا كانت المؤسسة العسكرية لا يرتجى منها،
ويبدو ان الأمر كذلك،
أليست السلطة السياسية المنتجة لها، وهي بناء أمريكي على شكل متاهة تتداخل فيها الطرق والقرارات والصلاحيات مثل كرة صوف في مخلب قط،
لا يرتجى منها هي الاخرى؟

اذا كانت الولايات المتحدة قلقة من"غياب" ارادة القتال فعلاً،
فلماذا هي قلقة من "حضور" هذه الارادة في الحشد الشعبي؟
السبب المحجوب واضح: الارادة الأولى تتحرك حسب توجيهات أمريكية،
والثانية، ارادة الحشد، خارجها.
واذن ليس المطلوب حضور الارادة بل نوع وهدف واتجاه هذه الارادة حسب البوصلة الامريكية،
كما لو ان ارادة الجيش تتحرك بالتحكم الآلي بمعزل عن كل هذا التشابك والتقاطع والاختلاف والصراع وتأثير الاحتلال والدور الهدام لدول المنطقة في شراء الذمم والعصابات.

مفاهيم الغياب والحضور وغيرها في القاموس الكولونيالي تخضع في الخطاب الامريكي لمعايير المصالح وليس الحقائق،
فما قيمة الحقائق اذا كانت تلحق ضرراً بالمصالح؟

في " ادارة الحرب" وليس وقفها، قدمت الولايات المتحدة تسهيلات عبور ارتال داعش نحو الانبار، لكنها قد تلجأ الى انقاذ العبادي من السخط العام بتقديم تسهيلات واضحة لتحرير الانبار،
لكن بثمن مكلف في الارواح،
وهي تربح في الحالتين لأن سياسة انهاك الجميع هو الهدف الذي ستترتب عليه، يوماً، في خضم صراع شرس، نتائج مريحة عندما تكون كل الاطراف قد استهلكت قواها.

يقول مؤلفو كتاب" ما بعد الكولونيالية" بيل أشكروفيت، جاريت جريفيت، هلين تيفين:
" تفترض الثنائيات الامبريالية دوماً حركة في اتجاه واحد... ولعل من أفجع الأنظمة الثنائية التي خلقتها تلفيق مفهوم العرق واختزال الاختلافات في الثنائيات الجسمانية والثقافية في البلدان المستعمَرة كالابيض والاسود وتحويل مفهوم العرق الى ثنائية بسيطة تظهر منطقها الخاص بشأن القوة والسلطان" وهذا الاقصاء الثنائي " يغلق التنوع الاثني الشاسع والتمازج العرقي".

القاعدة نفسها في التبسيط الثنائي تنطبق على كامل هذا الخطاب الاستعماري، وهو لم يعد حكراً على القوى الاستعمارية، بل ان هذه الثنائية التبسيطية المدمرة انتقلت، في الصراع مع هذا الخطاب، الى تبني منطقه في الحركات الثورية المناهضة للاستعمار وفي النظم ذات التوجهات الاشتراكية الثورية حيث تم اختزال الحركات الاحتجاجية والافراد المختلفين بالمنطق الثنائي كالوطني وغير الوطني والمناضل والمشبوه، والثوري واللاثوري والخ وهلم جرا، مما أغلق الفضاءات الواسعة والغى الاعماق الانسانية الثرية والغنية والمناطق الرمادية الهائلة وخلق من الانسان مركّباً بسيطاً خاضعاً للقياسات والاختزالات المرتجلة مع محو كامل وتلفيقي لكل الثغرات والفجوات والمساحات الواسعة والتناقضات التي يتحرك من خلالها الناس،
وهذا موضوع يحتاج الى بحث آخر عن كيفية تسلل الخطاب الكولونيالي الى الخطابات المضاده له سواء في الادب والفن أو في السياسة، ويعتبر الروائي الترينادي الاصل والهندوسي ف.س. نايبول البريطاني الجنسية الحائز على نوبل نموذجاً في التماهي والتطابق مع الخطاب الكولونيالي رغم انه من بلد عاش القهر الاستعماري.

من شدة تماهي نماذج من مثقفي البلدان الخاضعة للهيمنة وتبنيهم لمقولات القوى المهيمنة الاستعمارية، يبدو الاشخاص الذين يناهضون هذا الخطاب" غريبي الأطوار ومختلي العقول" وقد تجلى ذلك واضحاً في مثال قريب بعد الاحتلال الامريكي للعراق، اذ تداخلت على نحو منحرف ومركب مقولات التحرر والديمقراطية والحرية في الخطاب الامريكي مع مقولات مشابهة من مثقفي البلد حتى صار من الصعب التمييز بينهما وبدا ان مواجهة الخطابين تلوح انحرافاً عن السلوك العام بسبب قوة التيار والمؤسسات الساندة والضباب المسيطر دون ادراك وتبصر للمخاتلة خلف هذا الانهيار الثقافي والاخلاقي أيضاً.

مفهوم الارادة يخضع لهذا المنطق الاختزالي الثنائي مثل كل المفاهيم الاخرى:
ارادة القتال، في اللغة الامريكية، تعني شيئاً مختلفاً هو جزء من الثنائيات المركزية التي تحصر النقاش والتحليل في تقابلات وثنائيات ومضادات مفتعلة مثل غياب ارادة القتال/ حضورها/ يرتجى منه/ لا يرتجى،
لكن بين هذه التضادات مساحات هائلة ملغية ومحذوفة ومحجوبة،
أو ما يعرف في علم تحليل النصوص بــــ " المسكوت عنه"،
فليست كل ارادة مطلوبة بل هناك ارادة مصالح،
وارادة فلاح افغاني او فيتنامي او فلسطيني في الدفاع عن الأرض تتحول الى فعل ارهابي.

الارادة المقصود بها في كلام الوزير الامريكي هي ارادة الجيش الذي تأسس على قواعد وعلاقات وقيادات فرضت بالقوة على السلطة السياسية العراقية من كبار الضباط المتعاونين معها وبعضهم من كبار ضباط النظام السابق الذين لا يسمح لهم تاريخهم بالخروج عن الارادة الامريكية،
ولا يسمح لهم في الوقت نفسه في الاندماج في جيش مؤسس على قواعد جديدة مختلفة،
ومن مصلحة هؤلاء العمل مع كل الاطراف علناً أو سراً،
بل ان بعضهم تعاون مع العصابات الارهابية،
والموضوع ليس موضوع غياب ارادة بل تغييب هذه الارادة،
من خلال مؤسسة عسكرية فاسدة بحاجة الى اعادة هيكلة على شروط جديدة،
ولا يتم ذلك بلا اعادة بناء الهرم السياسي الحاكم الذي تم دق مساميره في البناء الاجتماعي من خلال تشريعات وقوانين ومؤسسات هي الاخرى صورة من صور المؤسسة العسكرية.

لا يمكن لوزير دفاع عريق في السياسة كحصان هرم خبير بالطرق أن يكتشف اليوم، فجأة، طبيعة المؤسسة العسكرية،
لكن هذا هو الشكل التقليدي للخطاب الامريكي في الفشل،
عندما تصبح الضحية مسؤولة عن العار وغياب الارادة،
وليست الدولة الكبرى المؤسسة لهذا الجيش.

يقول كارتر وزير الدفاع : "حتى في حال توفر السلاح،
لكننا لا يمكن أن نوفر ارادة القتال".

يبدو المنطق من الخارج متيناً،
لكنه أجوف من الداخل:
أين هو السلاح الامريكي الذي تعاقدت عليه الدولة في العراق مع الحكومة الامريكية؟ أين السلاح الستراتيجي القادر على تغيير موازين القوى كالطائرات الحربية الحديثة والصواريخ المضادة للدروع ومنظومات الرصد والتجسس والاتصالات وكثير من الاسلحة ذات الثقل النوعي في الحرب الحديثة؟

اذا كان الهدف هو" حضور ارادة القتال" للدفاع عن الانبار وغيرها وتحريرها،
فهذه الارادة كانت حاضرة في الميدان في تشكيلات الحشد الشعبي وجاهزة ولا تكلف الولايات المتحدة رصاصة واحدة،
بل لا تحتاج حتى الغطاء الجوي،
فلماذا غُيبت تلك الارادة؟

لو مضينا مع هذا المنطق الماكر والاجوف،
نكتشف الكثير من المهازل والاعيب الاحتيال:
حسب المنطق الامريكي، اذا كان هذا الجيش بلا ارادة قتال،
ولا يُرتجى منه أي شيء،
فالبديل المخفي هو الجيش الامريكي،
الذي يمتلك" الارادة" المطلوبة،
وليس اعادة بناء النظام السياسي العراقي لكي يُنتج مؤسسة عسكرية وطنية بتقاليد رصينة وقواعد ضبط واعراف،
ومن غير المرغوب فيه ايضاً، بناءً على ذلك، حضور الارادة العراقية في قوى شعبية مسلحة خارج السيطرة الامريكية.

ماذا نفعل، إذن؟
الحل الامريكي هو "ادارة" هذا الصراع المسلح حد الادماء لكل الاطراف،
وهو الهدف الامريكي الخفي،
والحل العراقي الوطني هو انهاء هذا الصراع المسلح قبل أن يخرج عن السيطرة نهائياً ويتجذر مع الوقت والويلات،
بارادة وطنية بصرف النظر عن كل شيء،
وكلما طال الزمن،
يصبح حجم التضحيات فوق الاحتمال.

 

حمزة الحسن

 

عن موقع الكاتب على الفيس بوك

https://www.facebook.com/hmst.alhasn/posts/10152983856857266

 

تاريخ النشر

29.05.2015

 

 

 

  عودة الى الصفحة الرئيسية◄◄

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

29.05.2015

  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4]  | أرشيف المقالات  |  دراسات  |  عمال ونقابات |  فنون وآداب |  كاريكاتير  |  المرأة |  الأطفال | إتصل بنا       

      

لا للتقسيم لا للأقاليم

 

لا

للأحتلال

لا

لأقتصاد السوق

لا

لتقسيم العراق

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة

من الكتاب والصحفيين العرب و العراقيين   

 

                                                                  

                                                                          

  

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org