" سرقة النصر العسكري"

 

 

حمزة الحسن

 

أي نصر عسكري قد يُسرق ما لم يتجذر في تقاليد وطنية، ومن حاضنة راعية ومتفهمة وداعمة، ومن نخبة يقظة،
لأن النصر العسكري يصبح بلا معنى، بل عبأً،
اذا لم يفرض شروط السياسة،
وهناك منتصر في الحرب فشل في فرض شروطه السياسية، وعلى العكس هناك مهزوم رفض الاقرار بها،
فالحرب كما هو معروف هي السياسة لكن بوسائل أكثر عنفاً.

لا يستطيع البعض، لأسباب كثيرة، الفصل بين معركة الأرض، ومعركة السلطة، بين أن تكون معترضاً على النظام السياسي،
لكنك مع الثوابت الوطنية كالأرض والثروة والسيادة والحرية والمستقبل،
لأن الثقافة السياسية المتوارثة والوعي المحارب والشقي والصلب والثنائيات المعروفة لا تسمح بمناطق رمادية كثيرة بين الاختلاف وبين التطابق، بين التسليم التام وبين الرفض التام، بل لا تؤمن حتى بالتدرج داخل الموقف الواحد،
وتربط بصورة سحرية بين الفكر والشرف، مع ان الفكر قد يكون صحيحاً اليوم ولا يكون كذلك غداً.

كما تم رفع قواعد القبيلة الى مستوى الشرف،
تم أيضاً رفع القواعد الفكرية الى المستوى نفسه ،
وصار التخلي او حتى تجديد الفكر تخلياً عن الشرف،
لذلك بدأنا ندور حول الزمن كهندوس حول جثة تحترق،
حتى أخذت اللغة والفكر، رغم القشور العصرية، صفات القداسة البشعة.

وكما ان تجديد الفكر الديني يعد خروجا عن المقدس،
كذلك تجديد الفكر السياسي يعد خروجا عن المقدس،
لأننا في الحالتين أمام لحظة تأسيس تاريخية وأمام رموز ونصوص وحوادث مبجلة تُستعاد بصورة مستمرة في نوع من التكرار الطقسي،
في حين ان الحياة في مكان آخر.

لا يمكن التضحية بالأرض من أجل خلافات السياسة،
السياسة متغيرة وزائلة والأرض ثابتة وأبدية.
هل نضحي بالابدي من أجل الزائل؟

بدأت عملية التمهيد للسلب والنهب قبل تحرير تكريت،
وترافقت معها وتصاعدت بعدها،
كنوع من التعبئة الاعلامية والتحريض بل التوجيه أيضاً،
وفي كل الأحوال يجب التعامل معها بقوة وحزم،
خاصة وهناك مدن محتلة قد تتحسب من القادم،
والأمر لم يحسم بعد وهو من اختصاص لجنة تحقيق لأن كل ما نسمعه ونقرأه يصدر من أربيل ومن عمان،
ومن مصادر مجهولة رغم اعتراف الدولة بوقوع تجاوزات من نماذج لا تتردد من سرقة بيوتها اذا وجدت الفرصة.

محاولات سرقة النصر العسكري في تكريت مستمرة ولن تنقطع بل ستتصاعد من قوى محلية انتهازية خلقت البيئة والمناخ للارهاب،
ولا تعيش إلا في مناخ الفوضى والصراع الأهلي المفتعل،
ومن قوى خارجية ليس من مصلحتها رؤية هذا الاصطفاف العراقي المحدود في أرض المعركة،
ولا رؤية الوجه الآخر المشرق للعراقي،
غير الوجه المعصب العينين والراكع والمنتظر أمام ثلاجات الموتى.

لذلك يجب اعادة العراقي الى صورة سلبية،
اذا لم تكن موجودة، يجب خلقها بالصورة الملفقة أو الكلمة الأكثر تشويها،
ومن يفرق اليوم في اعلام حديث بين صورة الواقع الملفق وبين الواقع الحقيقي؟

تنشغل وسائل اعلام عربية بصورة خاصة في التركيز على " انتهاكات" حقوق الانسان في تكريت.
لأول مرة نسمع من هؤلاء ان انسانا يعيش في تكريت،
وان حقوقاً منتهكة،
لقد اخترعوا التتن أو الجص بعد ان كانت تكريت والموصل والانبار وغيرها مسلخاً بشرياً مورست فيه كل أنواع الانتهاكات،
لكن أحداً من هؤلاء لا يرى،
أو كان" يرى" بصورة انتقائية ويُفسر بلغة تبريرية على ان هذه الانتهاكات هي " رد فعل" على سلوك طائفي من السلطة.

ماذا يعني ذلك غير تبرير القتل؟
هل هناك سلوك مهما بلغ من الطائفية والغباء والتخلف يبرر هذه الوحشية؟
واذا كانت الوحشية تُبرر،
لماذا لا نطبق المعيار نفسه على الانتهاكات المفترضة الجديدة في تكريت وفي غيرها؟
كيف نبرر الجنون هنا،
ونرفضه هناك،
مع ان القاعدة في التبرير ــــ رد الفعل ـــ واحدة؟

قبل أيام انشغلوا بخطف عشرات الاشخاص من بلدة "الدور"،
ولم يتوقف مراسل قناة العربية ـ الحدث من أربيل من النباح المسعور،
وخلفه في الصورة فنادق مضاءة وحدائق مشرقة،
أو يجلب ضيفاً من ضيوف" أربيل" الفارين ويختفي خلفه للكلام
عن خطف هؤلاء كما ينبح اليوم عن سرقة وقتل " أبرياء" في تكريت،
ثم ظهر من التحقيق الدقيق ان من بين "مختطفي" الدور الذي اندس بين الناس" مـــــراقب الحسبة" في داعش الذي اعترف في مقابلة مع قناة الميادين انه قتل بيده وذبح 23 شخصاً،
كما" تملي عليه عقيدته" وهو طالب كلية فرع الفيزياء.
وكل ما في الأمر كانت فترة تحقيق قصيرة،
وأُطلق سراح المدنيين في ما بعد،
كما لو ان كل ما حدث في تكريت، وقد وضع البنتاغون في موقف حرج لتخمينات سابقة عن حرب الثلاثين سنة،
لم يكن أكثر من سرقة سيارة أو حرق منزل او تمزيق بنطلون عابر أو سرقة دراجة،
أو محفظة نقود أو ، بايجاز، معركة نشالين،
وليست معركة خارج كل توقعات الشرق والغرب.

من أين يأتي الملاك العراقي بعد كل تلك الحروب والحصار والقمع والارهاب والرعب،
التي لا تخلق الملاك ولا تخلق البشر الطبيعي بل الذئب؟

في كل حروب التاريخ لم يحدث ان دخل جيش الى مدينة ولم تحدث فيها انتهاكات،
بل ان الحرب بذاتها هي انتهاك للحياة البشرية،
والمذابح التي ارتكبها جيش التحرير الفيتنامي بعد سقوط سايغون في نيسان عام 1975 بحق الموالين والمتعاونين مع النظام السابق وصلت مئات الألوف وفي قتل علني في الشوارع،
بل حتى الجيش السوفيتي الأكثر صرامة وعقائدية عند دخوله ألمانيا وغيرها مارس انتهاكات فظيعة لم تكن تلبية لقرار مركزي،
بل هي طبيعة الفوضى والغريزة ومشاعر الانتقام والظفر وغياب القانون والنشوة التي تفرضها ساحات الحروب.

ومن مثال عراقي في الحرب العراقية الايرانية عندما دخل الجيش العراقي منطقة أبو الخصيب العراقية في البصرة،
وتوزع بين جيكور السياب والسيبة قام الجنود بسرقة البيوت المهجورة،
ورأيت بعيني جنوداً يسرقون نوافذ قبر شيخ أو مزار في السيبة.

الانتهاكات التي حصلت في تكريت، قياسا الى صراع معقد ومركب تداخلت فيه السياسة والحقد والخداع والثأر،
هي الحد الأدني، والمرفوض أيضا، من الحوادث التي كان يتوقع أن تكون أكبر من هذا الحجم.

هل نُذكّر بعمليات الانتقام والثأر في البوسنة، في لبنان، اليمن اليوم، في ليبيا؟
في كابول عند سقوط النظام الشيوعي أو سقوط طالبان الاسلامي؟
وهل نذكر، ان نفعت الذكرى المؤمنين وغيرهم، مجزرة باشتاتان بحق الشباب والشابات الشيوعيين الأسرى التي وصلت الى مستوى قطع اصبع مناضلة أسيرة وجريحة بالسكين من أجل الحصول على خاتم خطوبتها؟
وماذا كان مصير الجنود العراقيين في السليمانية الذين قتلوا، بعد الأسر، بدم بارد،
وقام مصور ألماني بتصوير المذبحة عام 1991؟
هل نذكر ايضا بمذبحة سجن قضاء جومان، كلالة، رايات، بحق الجنود والطيارين العراقيين الاسرى بعد الانسحاب في اذار 1975،
ومن بين القتلى المتاضل الكردي فاخر ميركه سوري واخوته بل لم يسلم حتى الأب البالغ من العمر 90 سنة وهو شيخ صوفي،
وحتى أطفاله وأحفاده تمت مطاردتهم في الحقول وقتلوا كالارانب؟

هل هناك أقسى على فتاة مناضلة وهي ترى اصبعها يُقطع ويقطع معه تاريخها العاطفي والسياسي وهي حية أمام عدو ساخر ومتبجح؟

التاريخ لم يبدأ من معركة تكريت ولن ينتهي بها رغم ان هناك من يريد عزل الحوادث وبناء صورة متخيلة عن تاريخ يبدأ قبل دقائق.

الذين كانوا يتحدثون عن طهور الارهاب في العراق بذرائع الاقصاء والتهميش والعزل الطائفي،
كانوا يكذبون،
ويعرفون انهم يكذبون،
وهم يختزلون كل انواع الرفض والاحتجاج على أخطاء أو خطايا السياسة،
بتبرير الذبح الذي لا يُبرر إلا من قاتل محترف،
تقف خلفه لغة تبرير محترفة:

والآن يجري الانتقال من تبرير الذبح،
بذريعة الاقصاء الطائفي،
الى الكلام عن الانتهاكات بالحقد الطائفي،
وبين التبرير والحقد هناك هدف واحد،
رغم تعدد الأدوار والأقنعة،
في ألا نكون شعباً بل قطيع نازحين ومشردين أو قتلى،

 

حمزة الحسن

 

https://www.facebook.com/hmst.alhasn/posts/10152871153807266

 

 

07.04.2015

  عودة الى الصفحة الرئيسية◄◄

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي