<%@ Language=JavaScript %> " التفكير المراوغ" حمزة الحسن

 

 

 

" التفكير المراوغ"

 

 

حمزة الحسن

 

ليس كل ما يُكتب يخضع لعلم تحليل النصوص،
أو علم السياسة أو أي علم آخر
بل هناك من لا يخضع الا لعلم النفس المرضي،
ولا يحتاج الى نقاش بل علاج،
وصفحات التواصل الاجتماعي تقدم ذخيرة هائلة من هذا الجنون المقنّع،
والمموه والمغطى،
لكنها تستعصي على ادراك البعض،
لطبيعتها الالتفافية الماكرة،
وهذه التفاصيل المنسية والمهملة تشغل الروائي أكثر من غيره لأن الحياة الحقيقية في التفاصيل،
وليس في الشعارات الكبرى والبرامج والاعلانات.

بعض ما يكتب يصح القول فيه انه صرخات استغاثة تعكس حالة من القلق النفسي،
والاحتقار الذاتي والعزل رغم انه مموه بوجهة نظر عن الآخرين،
وهو أبعد ما يكون عن ذلك في التحليل العميق.

اسلوب القفز من موقف الى آخر في دقائق من المدح المفرط الى الذم المفرط،
وتبخيس الآخر للاعلاء المبطن من شأن الذات،
أو التفكير السحري كما كتب على صفحتنا أحد هذه النماذج:" اعتقد انك مكلف من مخابرات اجنبية لمطاردتي"،
وكان قد كتب على الصفحة ذاتها قبل ذلك يقول:" مقالاتك تحبس انفاسي ولا استطيع تركها"،
وهو مثال واقعي حدث قبل أيام،
وهي في الأساس رسالة مبطنة، متحايلة، موجهة الى الجمهور العام عن قيمة وهمية لشخص محبط ومنسي وتابوت قديم يبحث عن من يلمع مساميره الصدئة، يحلم ان يكون مطارداً،
ومثل هذه الرسائل المضمرة الملتوية خلف السطور لا تخفى على من قرأ جيداً علم تحليل شفرات الخطاب وما سكت عنه الكلام، اي المسكوت عنه، وهو أهم من ظاهره،
وهذه الرسائل الخفية تعكس مأزقاً نفسياً عميقاً يسلك دروباً متشعبة ملتوية تموه القصد الحقيقي،
أكثر مما توضح شيئاً أو تضيف فكرةً.
الانتقال من موقف الى موقف مضاد تماماً من خواص العقل المشوه معرفياً،
الذي لا يملك حتى صورة ذاتية واضحة عن نفسه،
لأن الذات مهشمة ومتشظية.

من علامات هذا التفكير السحري الضبابي أو بلغة علم النفس التشوه المعرفي،
هو تحويل المرويات والحكايات والوشايات الى حقائق صلبة،
بل الى وثائق لدى هذا الصنف،
وبما ان العزل النفسي والاحتقار الذاتي والفشل يوخز هذه المخلوقات،
فهي لا تبحث في أعماقها عن حلول في مواجهة عقلانية شجاعة مع الذات،
بل تلجأ الى الهروب الى الأمام والبحث عن حلول سحرية لجلب الاحترام والهيبة والمكانة الوهمية،
عن طريق الافراط في المدح أو الافراط في الذم،
والانتقال الفوري من الأول الى الثاني بلا مصدات،
لأن البنية الاصلية للذات مهشمة.

ومن العلامات أيضاً اختلاق اساطير هي أقرب الى الهذيان منها الى الكلام المنطقي،
ومن أبرز علامات هذا الوعي المشوه،
هو حاجة هذا النموذج الى سلطة تطارده حتى لو كانت سلطة وهم،
مع ان هذه النماذج المحطمة لا تشغل بال أية سلطة في العالم،
سواء كانت سلطة سياسة أو سلطة غنم،
بل قد لا يعرفها حتى زبال المنطقة،
إلا من قبل مصح عقلي محلي،
والمصحات العقلية تغص اليوم بهذه النماذج المتقمصة شخصيات نابليون وهتلر ومادونا ومايكل جاكسون أو مطاردة من أشباح.

لكن الويل لمن يعيش مع مثل هذا النموذج،
لأنه لا يعرف بأي رجل يرقص معه،
والنتيجة إما الانهيار أو تقبل العيش والنظر للمصيبة من زاوية مختلفة للتأقلم مع خبير قنعة.

هذا الاعلاء السحري للذات بهذه الفجاجة أمام الآخرين هي رسائل غريق أكثر منها وجهة نظر:

رسائل تتوسل وتستحلب الاحترام المفقود أكثر من أن تحط من كرامة الآخر،
لكن حتى لو حصل هذا النموذج بعض الوقت على تهدئة مشاعر الكآبة والقلق والاهمال عن طريق هذا العنف اللغوي والوقاحة وصنع الاساطير،
فليس هذا سوى الحل المؤقت والعابر،
لأن المسمار الواخز نابت في صميم البناء العضوي النفسي وسرعان ما سيستيقظ بعد لحظات،
لتعاد دورة الاحتقار الذاتي والبحث عن حلول سحرية.

من علامات هذا الوعي المراوغ، أو العقل المراوغ بتعبير الدكتور زكي نجيب محمود،
القابلية على الكذب التلقائي الآلي والافكار الالتفافية،
اي الهروب من موضوع النقاش الجوهري الى قضايا لا تخطر بالبال تتعلق بمحاولات التبخيس من الآخر عن طريق حكايات يتم تصنيعها على عجل،
أو تكون ترهات ومرويات مصنّعة من قبل تم تصعيدها الى مستوى الحقائق المطلقة،
بل الوثائق الدامغة،
أو ما يعرف في علم النفس المعرفي" التفكير التصفوي"،
فالذات التي تعاني من دونية مستترة تحاول التنفيس أو ترحيل المأزق الى آخر،
وهي تعرف كيف تصطاد ضحيتها،
وتختارها بانتقائية مليئة بالقذارة وتعرف ان هذه الضحية، أو كبش فداء المأزق، سوف لن يرد أو يتردد من باب الاحترام الذاتي في الاقل،
وهو ما يسميه فرانز فانون" أقذر سلوك انتقائي بشري" لأن هذا الصنف المعطوب والمشوه نفسياً لا يقترب من ضحية قوية قادرة على الحاق الأذى به،
بسبب جبن عميق وذل معتق يظهر على غير حقيقته على صورة اندفاعية وشراسة كلبية وثقة كاذبة في النفس،
لأن الثقة الحقيقية بالنفس هادئة ووديعة وعفوية كنعاس الأطفال وولادة الأزهار تحت الحيطان المتداعية في الليل.

من علامات التفكير المراوغ أيضاً،
هو خلق صورة ماضوية عن الآخر لا يعرفها الآخر ولا جذور لها في حياته،
وعادة ما تكون هذه الصورة المختلقة تؤدي وظيفتين على درجة عالية من الدهاء والمكر والبلادة الحسية دون مراعاة انعكاس ذلك على مشاعر الاخرين لأن هذا المصاب مفرغ من المشاعر السوية وصفيق:

الأولى: انها تعكس للاخرين سلطة المتكلم كشخص عليم بالأسرار الخفية،
وفي الواقع لا اسرار ولا تبن،
مع ان البحث في أسرار الاخرين، من وجهة نظر المنطق والاخلاق والعقل، تعتبر من الصغائر والعاهات، وقد عشنا سنوات مع شعوب في عمارة سكنية واحدة ومدخل واحد دون أن يعرف أو يهتم أحد من نكون وكيف نعيش وما هي القيم التي نؤمن أو لا نؤمن بها،
وكيف نفكر لأن هناك مساحات حرية مقدسة مع أعراف وتقاليد تحتقر وتعاقب على حشر النفس في حياة الناس بل يعتبر جريمة يعاقب عليها القانون في حال التجاوز.

الثانية: هي وسيلة اخضاع عن طريق اللغة عندما تعجز الحجة والحوار العقلاني عن تحقيق النتائج المرجوة،
وفي مناخ يساعد على تمرير مثل هذه الحيل نظرا للثقافة السياسية السائدة والمسطحة،
فمثل هذا النموذج السيكوباتي قد يعتبر جريئاً وهو الهدف الخفي من تلك الرسائل المضمرة.

عالم النفس الشهير دافيد دي بيرنز أول من اشار الى هذه الحيل والمراوغات في بحثه الشهير عن" التشويه المعرفي" عندما قال ان" تلك الافكار الملتوية" هي محاولة لتهدئة القلق والكآبة والهروب من عار داخلي،
وتحتاج الى " اعادة هيكلة معرفية"،
وكيف تعاد هذه الهيكلة اذا كان البناء العضوي "أعوج" من الأساس؟

بعض كبار علماء النفس يفضلون ترك المصاب يعيش أوهامه كما يحب،
اذا اعترف بها وغالباً ما يعيش حالة" انكار" مزيفة ويتظاهر ان هذا غير صحيح وقد يدخل في صراع مع المعالج،
رغم انه على مستوى الوعي يدرك تماماً عمق مأزقه ويحاول التستر عليه من خلال سيناريوهات طويلة من الغطرسة والتبجح وترحيل العقدة على اخرين،
لذلك يفضل الاطباء تركه يعيش صراعه المزمن في مرثاة حزينة لا تنتهي من الكذب والمباهاة واختلاق الخلافات وكراهية الذات مثل كلب يلعق جرحه بصمت،
خاصة اذا كان المصاب في عمر متقدم،
لأن أي بحث عميق في الأسس سيهدم كل الشخصية المصابة والمعوجة المرتكزة على أساس معطوب كما ينهار منزل بعد زوال العمود الرئيس المنخور.

لكن من يقوم بعملية اعادة صياغة وهيكلة هذا النموذج وهو يظن انه حامل مفاتيح الماضي والحاضر والمستقبل والشرف والحقيقة،
في محيط ثقافة سياسية تطبخ وتحلل وتفسر كل شيء بلغة السياسة في نسختها المسطحة،
وتعتبر هذا الهراء المرضي،
على انه وجهة نظر؟

في واحدة من مسرحيات شكسبير ( كوميديا الاخطاء) يقوم نموذج مراوغ من هذا النوع بالدفاع عن غريمه بدافع الشجاعة في الظاهر ــــ سلوك المرائي ــــ ولكنه في الحقيقة لكي يخزيه ويثبت له انه أكثر شجاعة منه ويدفع حياته ثمن هذا المكر والمراوغة .

هذه النماذج ، يقول عالم النفس الفرنسي بيير داكو، تتواجد في كل المهن، في التعليم والادب والسياسة والكنائس والقانون والسلطة، لكنهم ماهرون في صناعة الاقنعة،
ويسميهم بــــ" مستزفي الطاقة" لأنهم يقضون حياتهم في حيل والعاب ومناورات منهكة لاخفاء عقدة الشعور بالعار،
رغم بقاء المظاهر الخارجية سليمة.

المشكلة في هذا العته الاخلاقي ليس في كونه حالة فردية مرضية ملتوية،
بل في ان نماذجه في السياسة وفي غيرها تحاول تعميم هذا الخبل،
وصبغه بوجهات نظر بل نظريات منقذة.

الأخطر من كل ذلك ان عدم الوعي بهذه الافكار والمراوغات والحيل الالتفافية يعكس مأزقاً أكبر وهو:
هذا السمك يسبح في البركة المناسبة،
فلا غراب يقول لغراب وجهك أسود،
لكنه ينكشف في مواجهة ثقافة مضادة بمعايير وقوانين سوية،
فالأشياء تتوضح بالاضداد،
وهذه البضاعة الفاسدة لا تصرف إلا في أسواق متقبلة لكل شيء،
عندما يتبادل البائع والمشتري المعايير نفسها،
لأن المصيبة التي حلّت بالجميع واحدة.

 

حمزة الحسن

https://www.facebook.com/hmst.alhasn/posts/10152831779807266  

 

 

 

 

17.03.2015

  عودة الى الصفحة الرئيسية◄◄

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

17.03.2015

  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4]  | أرشيف المقالات  |  دراسات  |  عمال ونقابات |  فنون وآداب |  كاريكاتير  |  المرأة |  الأطفال | إتصل بنا       

      

لا للتقسيم لا للأقاليم

 

لا

للأحتلال

لا

لأقتصاد السوق

لا

لتقسيم العراق

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة

من الكتاب والصحفيين العراقيين   

 

                                                                  

                                                                          

  

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org