<%@ Language=JavaScript %> حمزة الحسن " مقاتلون أم فلاسفة؟"

 

 

" مقاتلون أم فلاسفة؟"

 

رجل مسن من مقاتلي الحشد الشعبي

 

حمزة الحسن

  

من المعروف ان " أسوأ محارب هو الفيلسوف"،
الذي يحتار في طرح الأسئلة،
ويصبح جسده ميدان رمي.

خلال معارك هذه الايام تكثر الانتقادات بسبب الشعارات والاغاني وحمل صور الرموز الدينية والهتافات،
بين مقاتلي الحشد الوطني،
كما لو ان هؤلاء ليسوا في معركة حياة أو موت،
وفي حاجة قصوى لحشد الطاقة في مواجهة لحظات عصيبة،
بل هم في حفل موسيقى أوبرالي يتطلب انتقاء الصور والاغاني والشعارات.

ماذا يعني لغير المحاربين كيف يفكر ويتصرف هؤلاء في مواجهة موت وشيك وقاس؟
الغاية في نتائج المعارك،
في الخطط الحربية،
في الاستثمار السياسي للنصر،
وليس في متخيل المقاتل ومعتقداته الخاصة ومستوى وعيه الثقافي،
ففي تجارب كثيرة مرت بها شعوب الأرض،
ظهر ان المثقفين والادباء لا يمتلكون بصورة عامة جسارة المحارب البسيط الذي لا يضيع في دوامة الاسئلة الوجودية وهي آخر ما تحتاجه المعركة،
رغم الاستثناء القائم في كل ظاهرة بشرية.

في الحرب الاهلية الاسبانية أوائل الثلاثينات بين الجمهوريين وقوات فرانكو الفاشية،
انطلق القطار الأممي من باريس وهو يحمل عددا كبيرا
من كتاب وأدباء وشعراء العالم من بينهم:
الروائي والمفكر الفرنسي اندريه مالرو ــــ وزير الثقافة في عهد ديغول في ما بعد ــــ والروائي البريطاني جورج أورويل والروائي الروسي ايليا أهرنبورغ مؤلف" ذوبان الثلوج" و" سقوط باريس" والشاعر التشيلي بابلو نيرودا الذي انفجر في القطار في وجه شاعر يثرثر بقصيدة لشد الهمم مما جعل نيرودا يقول له" توقف وكل خــــــــــ ..." والروائي الامريكي ارنست همنغواي وعشرات الكتاب من دول العالم.

لكن ماذا حل بهؤلاء العباقرة في تلك المذابح التي لم يكونوا مستعدين لها ذهنيا وجسديا؟
جورج أورويل هرب بمعجزة من الحرب وبعدها كتب" وداعا كتالونيا" مبررا بصدق أسباب الهروب،
وارنست همنغواي بشهادة محارب روسي قضاها في شرب الخمر والبحث عن النساء،
لكنه كتب أروع ملحمة عن الحرب والحب وهي" لمن تقرع الاجراس؟"،
بل حتى ان مقاتلا عند نشر الرواية أقام دعوى قضائية زاعماً ان همنغواي سرق سيرته هو،
وهي دعوى ساذجة لأن الكاتب قد يستعير حياة الناس،
ويبني شخصياته من الواقع عبر المتخيل.

بعض هؤلاء عاش في مقرات ثقافية واعلامية،
وربما يكون الروائي والمفكر مالرو استثناءً نادراً عندما حارب بشجاعة وكان يلقي القنابل على قوات فرانكو من طائرة حربية يقودها بنفسه،
وكتب روايته الشهيرة عن تلك التجربة" الأمل" والغريب انها قوبلت بالترحاب من الطرفين،
الجمهوري والفاشي،
لأن مالرو ركز على قضايا جوهرية عن مصير الانسان والموت الغادر والقدر البشري،
ولم يهتم بالجانب البطولي من الأمر فحسب،
لأن البطولة عند مالرو هي خيار الانسان لمصيره والشراكة في صنعه.
أما نيرودا الشاعر المرهف الغنائي العذب،
فالأخبار المتسربة عنه تقول انه عندما وجد نفسه يوما بين تقاطع نيران حامية،
لعن القطار الأممي الباريسي ومن اقترحه.

قد يكون هناك بالفعل من هؤلاء من قاتل بشجاعة،
لكن عدم قتال البعض لا يلغي الشجاعة أيضاً،
لأن الشجاعة في ساحة قتال تتطلب المران والذهنية والتجربة،
وليست الحماسة فحسب والرغبة.

في الحرب الفيتنامية كانت جبهة التحرير الوطني الفيتنامي وهي الاطار العام لقوى التحرير تضم شيوعيين، وبوذيين، وملاو والخمير الحمير، وبلا دين، قبائل الكنة، والثاي، والبروتستانت، والكاو داي، والهوا هاو، وصينيين، ومسلمين ايضا.
وكان هؤلاء يحملون في ساحات القتال رايات القبائل والاديان والمذاهب والاحزاب التي ينتمون لها،
ومنهم من يحمل تمائم بوذية، وكراسات حرب عصابات ماركسية، وعظام موتى أقرباء للتبرك، وزجاجات خمر، ووشم قبائل، أو صلبانا مسيحية، أو تعاليم بوذا،
لكن كل هذه تختفي عند الهجوم على القواعد والثكنات الحصينة،
وينصهر الجميع في عمل واحد بدقة متناهية،
حتى ان الروائي الامريكي الشهير نيلسون ديميل وهو محارب في فيتنام،
كتب في روايته المذهلة:" أعالي البلاد" اننا قد نهاجم منطقة اطلقت فيها علينا النيران،
لكننا لا نعثر على أحد،
ونستلقي على العشب للراحة او لعب الشطرنج،
فتخرج دبابات الفيتكونغ من تحت الارض العشبية عبر انفاق.

توجد قبائل فيتنامية قاتلت الى جانب القوات الامريكية وساندتها تعيش، الآن، في حالة التهميش والاهمال ومشاعر النبذ ومحرومة من أية مشاركة في السلطة السياسية في كل المستويات وكذلك المناصب الحكومية حتى اليوم،
رغم نهاية الحرب منذ نيسان عام 1975،
كقبائل " المونتـــــــــجنارد" التي تسكن أعالى الجبال.

لم يتوقف الأمر على القوات المشتركة من جيش وحشد والتفكير الرغبي فحسب،
بل تعداه الى قلق الكتاب المستعجلين من " توقف" العمليات،
وغياب التصريحات للقادة الميدانيين،
كما لو ان التغريد اليومي بتفاصيل واسرار الخطط والمعارك هو الحالة السليمة مع انه لم يحدث في التاريخ ان تتحدث قيادة سياسية أو عسكرية عن خطط عسكرية في لحظة اشتباك،
ومن المنطقي ان تتوقف الجيوش عند انجاز الصفحة الاولى من المعركة،
لاعادة تقييم الموقف ووضعية العدو الجديدة وتعويض الخسائر والعتاد والوقود والارزاق،
وقراءة تقارير الاستخبارات وتفاصيل كثيرة قبل الاندفاع نحو الصفحة الثانية.
ان ادمان الكتاب على سماع الخطط العسكرية، وهو سلوك متهور من القادة، جعلهم يتصورون ان هذه التصريحات هي الحالة السوية وليس العكس،
بل ان الصمت التام والغموض القيادي في ساعات الانتظار هو الأقسى على العدو من هذا الوضوح غير المسؤول،
ويتركه يتخبط في توقعات وخطط وتصرفات قد تكون مهلكة له:
نريد محاربين كما نرغب وقادة كما نرغب،
كما لو ان الامر لا يدور في ساحة حرب تتعلق بحياة ومصائر الناس، من المحاربين والمدنيين،
بل أمام سيناريو فيلم حربي تجريبي للنقد والتقويم.

نريد، أيضاً، معركة كما نرغب وليس حسب تقديرات القادة:
تكريت، مثلا، تعتبر "ساقطة" عسكريا، محاصرة، وتحت القصف، ومن الحكمة ترك جيوب داعش الانتحارية تتعفن من القلق والتوقع والانتظار والسهر والاعياء والاستنزاف في العتاد والطعام والرجال عدة أيام،
وليس من الذكاء الدخول في معركة معهم في قمة اليقظة والتأهب.

الذين يريدون مقاتلاً على المزاج لا يغني الا أغانيهم المفضلة،
ولا يرفع الا شعارات الكاتب،
ولا يؤمن بمعتقدات خاصة ولا يقدس رموزاً،
ولا يحمل رايات رمزية،
هؤلاء لا يعرفون الحرب أو في الأقل تجنبوا، محظوظين، هذه التجربة القاسية،
لكن هذا التجنب لا يصلح للتنظير لصورة المحارب الذي يعيش ذهنية خاصة،
ووضعا بشريا استثنائيا.

مازلت أذكر حتى اليوم يوم خرجنا في حرب الخليج الاولى في دورية انصات صغيرة قرب الساتر الايراني شرقي البصرة عام 1982،
وعندما اقتربنا مسافة أمتار من الساتر، تحت جنح الظلام، وفي صمت تام،
في مهمة انصات واستطلاع وليس للقتال،
انفجر لغم تحت أحد الجنود،
فصار يصرخ في تلك اللحظات العصيبة ونحن نحبس الانفاس:
" أريــــــــــــــــد أمـــــــــــي".

حتى إضطر أحد الجنود لوضع نصف ذراعه في فمه ولكن الجعير هذه المرة صار فحيحاً،
وتم كشفنا بالكامل،
ومع مشاعل التنوير انهمر الرصاص كالمطر،
ولم نتمكن من الانسحاب الا بمعجزة،
تحت قتال تراجعي انتحاري وتغطية مدفعية وصواريخ وقنابل دخان،
تاركين الجريح المبتور الرجل في المكان،
دون أن يتحقق حلمه الأخير.

لا يحق لنا أن نفتح حساباً عن أخلاق هؤلاء،
لأنهم ليسوا في الطريق الى حفل عرس،
ولا أن نتدخل في خياراتهم الشخصية في المعركة،
ولا في الاغاني والرموز والشعارات التي تطمئنهم،
هم في الطريق الى الموت.

الحرب ليست ناديا ثقافيا ولا قاعة محاضرات ونصائح،
وليست كتابة أمام حاسوب وفنجان قهوة.
المحارب الملاك لا وجود له،
المحارب المثالي بل الانسان الكامل لا يولد في ظروف ناقصة وتحت انقاض وحروب ومذابح العراق عبر عشرات السنوات.
محاسبة هذا الانسان الخارج من الركام والضيم والذل،
على عواطف وقناعات واخطاء انسانية في زمن يوفر مناخاً لكل الأخطاء،
هو منطق أقرب الى التعذيب ولا يصدر إلا من قصر نظر مروع في فهم الطبيعة البشرية.

أما من ينتظر تحرير الموصل والأراضي الأخرى على يد جيل غير هذا،
ومؤمن بشعارات ورموز وصور غير هذه،
ويلبس ويرقص ويغني عكس اليوم،
وفي مجتمع عراقي لم يظهر بعد،
فسوف لن يعثر يومذاك لا على أرض وعلى بشر،
الا البوم ينعق فوق الانقاض في غسق حزين لا يحمل اسم الغسق العراقي.

في الحرب مشاعر وكوابيس ومعتقدات مختلفة واحلام،
تتصارع مع ارادات أخرى مضادة،
ولا يعرف الانسان كيف سينتج حاصل هذا الخليط من العواطف والافكار والمشاعر،
في مواجهة موت متوقع وقريب وشرس.

 

حمزة الحسن

عن موقع الكاتب على الفيس بوك

https://www.facebook.com/hmst.alhasn/posts/10152829274392266  

 

16.03.2015

  عودة الى الصفحة الرئيسية◄◄

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

16.03.2015

  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4]  | أرشيف المقالات  |  دراسات  |  عمال ونقابات |  فنون وآداب |  كاريكاتير  |  المرأة |  الأطفال | إتصل بنا       

      

لا للتقسيم لا للأقاليم

 

لا

للأحتلال

لا

لأقتصاد السوق

لا

لتقسيم العراق

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة

من الكتاب والصحفيين العراقيين   

 

                                                                  

                                                                          

  

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org