<%@ Language=JavaScript %> حمزة الحسن عراق ما بعد 2003

 

 

عراق ما بعد 2003

 

 

حمزة الحسن

 

يبدو ان الصورة القديمة عن عراق ما قبل 2003،
لا تزال راسخة في الثقافة السياسية السائدة،
ومفاهيم مثل" الجماهير، والصراع، والسلطة، والمعارضة، وتحريك الشارع،
والعدالة والتغيير وغيرها" لم تتعرض للانهيار أو المراجعة في الوعي النخبوي كما تعرضت في الواقع.
بل ظلت صلبة في حين ان كل شيء تداعى،
كما لو ان هذا الوعي عاجز عن فهم الواقع الجديد،
ويكتفي بوصفه حسب مصطلحاته القديمة بلغة يقينية حازمة وجازمة،
مع ان لغة السياسة لغة احتمالات وتوقعات ومقاربات.

ما معنى ، مثلا، الكلام عن الجماهير اليوم، كما قبل 2003؟
لم يعد مفهوم الجماهير كواقع هو نفسه بعد ذلك التاريخ،
لأن" الجماهير" اليوم تشظت وتشرذمت وانقسمت،
وصار الكلام عن الجماهير كوحدة منسجمة ومتماسكة نسبياً كما في السابق،
لا يحمل المعنى نفسه في أبسط توصيف،
لأننا اليوم أمام انواع مختلفة من الجمهور العام،
جمهور متناقض في الولاءات والخنادق والعقائد والاهداف والسياسات والاحلام والسلاح والأوهام والمناطق والطوائف،
حتى ان الانقسام العام بين الجمهور القديم وصل الى التكوين الواحد، والبيت الواحد،
والحزب الواحد، والطائفة الواحدة، والاهداف الواحدة.

ولم يعد مفهوم الصراع هو نفسه كما في السابق بين" سلطة" و" شعب"،
يوم كان الصراع السياسي واضحاً، والفرز ممكناً، بل نحن أمام صراعات في كل الاتجاهات بكل ادوات السياسة والحرب والعقائد،
والأمر نفسه ينطبق على مفهوم" الشارع" العراقي وهو من أكثر المفاهيم تضليلاً وخداعاً اليوم في التحليل السياسي،
فما هي ملامح هذا" الشارع" المطلوب تحريكه؟

الشارع العراقي مثل باقي الأمكنة والأحلام والتصورات لم يعد شارعاً واحداً موحداً،
لا في التفكير ولا في النوايا ولا في العقائد ولا في التفسير لمفاهيم العدالة والسلطة والدولة والحرية والقانون،
بل نحن أمام " شوارع" أو مشاريع تدار بالسلاح أو المال او القيم الرمزية،
ولم يعد" الصراع" بين الشارع والسلطة كما قبل 2003 واضحاً في السر أو العلن،
في الواقع أو في الأحلام المخفية في الأعماق النفسية،
بل الصراع اليوم يدور بين شوارع ومناطق وقصبات وعقائد ونظريات وقوى محلية وخارجية بطرق ووسائل مختلفة،
وفقد الشارع الاستقلالية القديمة والتماسك القديم وتحول الى شوارع مختلفة أحياناً،
وفي أخرى متناقضة تناقضاً جذرياً.

وكما تعرض الواقع العراقي الى هزات وعمليات إزاحة وانقلابات جذرية،
حتى تلاشت شرائح أو انتقلت الى مواقع جديدة في الصراع بعد ان كانت في موقع السلطة،
كذلك انتقلت شرائح وفئات من موقع الاقصاء والتهميش والنفي الى مواقع السلطة،
في تبادل عاصف للأدوار،
وانقلاب جذري في البناء الاجتماعي والسياسي والطبقي والمؤسساتي،
صار الجلادون حملة سلاح وضحايا،
وتحول الضحايا الى مطارِدين وزعماء وحملة مشاريع وسلاح ونفوذ ومصالح ومؤسسات:
انهارت المؤسسات القديمة،
وظهرت أخرى مضادة،
سقطت ايديولوجيا وحلت محلها ايديولوجيات،
تداعت سلطة حاكمة وجاءت سلط متعددة المراكز والاهداف،
تحولت ثكنات قديمة الى مأوى لكلاب الليل،
وجاءت أخرى مختلفة الاهداف والتوجهات والمراكز.

مع كل هذا العصف الكياني والوجودي للواقع والافكار والبنى الاجتماعية والشوارع والمناطق والطبقات والأهداف والادوار،
لكن الثقافة السياسية السائدة ولغة التحليل السياسي لم تتبدل في الغالب،
والمفاهيم القديمة عن صراع السلطة والجماهير،
عن الحرية والدولة،
عن الواقع والتغيير، عن الشارع والجمهور،
ظلت كما هي.

الواقع القديم مات أو يتفسخ، والواقع مثل أي كائن حي له دورة حياة وموت،
لكننا نرى ونحلل ونرصد الواقع الجديد بجهاز مفاهيم متفسخ أيضاً.

ما معنى هذا الاشتغال والتنظير اليومي بترهات وثرثرات هذا المسؤول أو ذاك العضو البرلماني الذي سيتخلى بعد دقائق في الاستراحة أو ساعات عن مواقفه بعد صفقة أو تسوية أو مساومة،
بدل الاشتغال على الواقع المضطرب وتحليل خفاياه وظواهره الجديدة وتحديد مفاهيمه؟
السبب لأن التعليق على التصريح والكلام عمل لا يحتاج الى تفكير وهو جزء من ثقافة مشهدية لا ترى غير المرئي،
والجدارية والشعار والحائط،
في حين ان تحليل الواقع المخفي يحتاج الى عقل نقدي مركب وحيوي خارج الأسر والصندوق والكهف.

إننا مثل الفلاح الذي يستعمل أدوات تقليدية بدائية كالمحراث والمسحاة وهو يتعرض بالنقد للسفن الفضائية والليزر وصعود القمر وغيره،
بالادوات نفسها، بالمفاهيم ذاتها،
فكيف يمكن تغيير الواقع دون أي وعي لمفاهيمه الجديدة العاصفة،
بل دون تطوير هذه المفاهيم وتحديث اللغة؟

كيف يمكن للمثقف من نقد الواقع المضطرب دون وعي هذا التداخل وهذا الاضطراب ورصد الإعصار الذي قلب وحرث وعصف بالبنية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والنفسية؟

قبل محاولة" تغيير" هذا الواقع الجديد والملتبس والشائك،
هل فكر المثقف بتغيير أدوات المقاربة والرصد والنقد؟

كيف يمكن اجراء عملية تشريح للدماغ، مثلاً، بسكين صدئ؟
كيف يمكن الكلام عن واقع جديد متحول ومتناقض ومنقلب بلغة قديمة نضالية شعاراتية مطمئنة؟

من المعروف ان العقل النقدي التحليلي هو من يسبق حركة الواقع ومتغيراته وينذر ويحذر ويستبق،
لكن في غياب هذا العقل وسيطرة العقل السياسي الصاخب، وخطابات الصوت العالي،
وهيمنة اللغة السجالية اليقينية الآمنة والواثقة القريبة من لغة السحر والمعجزات رغم القشرة السياسية،
لغة الحلول الجاهزة عن واقع غارب ومتصدع،
سوف يظل الواقع يتحرك خارج أي تحكم وخارج أي عقلانية فكرية كما اليوم:
سيظل الواقع يركض،
ونحن نتكلم عن واقع لم يعد قائماً،
والأخطر أن نركض خلف واقع صار سراباً.

 

حمزة الحسن

 

عن صفحة الكاتب على الفيس بوك :

https://www.facebook.com/hmst.alhasn/posts/10152742239687266

 

02.02.2015

 

  عودة الى الصفحة الرئيسية◄◄

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

02.02.2015

  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4]  | أرشيف المقالات  |  دراسات  |  عمال ونقابات |  فنون وآداب |  كاريكاتير  |  المرأة |  الأطفال | إتصل بنا       

      

لا للتقسيم لا للأقاليم

لا

للأحتلال

لا

لأقتصاد السوق

لا

لتقسيم العراق

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة

من الكتاب والصحفيين العراقيين   

 

                                                                  

                                                                          

  

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org