<%@ Language=JavaScript %> حمزة الحسن إرهاب المختل

 

 

 

إرهاب المختل

 

 

حمزة الحسن

 

 

التوصيف الفوري لمحتجز رهائن مكتب بريد باريس،
هو انه مختل عقلياً،
بل ان الرجل نفسه " طمأن " البوليس بوصم يصلح كاريكاتيرا،
في انه ليس" متطرفاً اسلامياً"،
أي لا علاقة له بالارهاب،
لكي تظل الصورة النمطية عن العربي المسلم الارهابي راسخة،
ولا يسرق أحد حق الاحتكار،
وهي صورة ترسخت في الإعلام العربي أيضا كما في الإعلام الغربي،
وصار بعض العرب يتعامل مع نفسه وصورته وتاريخه وثقافته بناء على هذه الصورة المصنّعة المركبة،
ويعاني من عقدة الدونية والاثم بلا أي ذنب حقيقي،
مع انه ضحية منذ قرون للاستغلال الغربي الاستعماري.

لا نعرف ماذا كان يفعل مسخم الوجه داخل مكتب البريد؟
كما لو ان حجز رهائن بسلاح حقيقي أو مزعوم،
وتركهم في حالة ذعر،
واستدعاء قوات خاصة للاقتحام،
وحوامات في الجو فوق المكان،
وتداول الاخبار المرعبة بين الناس،
كل ذلك ليس ارهاباً،
لكي يبقى وصف الارهابي محجوزا للعربي والمسلم،
كما لو انه وشم أو عقار أو مُلكية.

من هو المختل؟ الخاطف أم النظام؟
من الغريب ان هذا المختل عقلياً المفترض الذي بلا شك إختلت في عقله كل الصور والافكار والاحاسيس،
لكن صورته النمطية عن العربي والمسلم ظلت كما هي،
وهو يقنرب منا، في هذه الحالة، فنحن عندما نختل عقليا وسياسيا تختل كل الصور والافكار والاحاسيس،
لكن صورتنا المرتبكة المضطربة عن انفسنا تظل كما هي،
ولا نبحث عن أسباب هذا الاضطراب في علاقات السيطرة والقوة التي فرضها العقل السياسي الغربي،
بل نبحث في التاريخ والثقافة والجينات والهوية عن" جذورنا" الارهابية،
أي أن صورتنا عن أنفسنا ليست نتاج بحث،
بل نتاج فرض وهيمنة مكررة ومنظمة.

الوصف الفوري للرجل جاء عاجلاً ، كمخرج طوارئ، في انه مختل عقليا،
مع ان اطباء النفس في السنوات الاخيرة صاروا يترددون في هذا الوصف كما في وصف الجنون،
ويحتاج الأمر الى جلسات وحوارات مطولة قد تصل أو لا تصل الى نتيجة،
وربما يكون" الاختلال العقلي" من وجهة نظر أخرى طريقة مختلفة في التفكير،
وهو الوصف الذي ألصق بفان كوخ وجان جينيه وبتهوفن وهمنغواي في سنواته الاخيرة وفي سلسلة طويلة من ادباء وفناني أوروبا،
حتى جاءت العلوم والفلسفات الحديثة لتلغي وصف الجنون كنقيض للعقل،
بل ان كتاب ميشيل فوكو المرجعي" تاريخ الجنون" وضع حداً لوصم الجنون التقليدي،
وبعد ذلك صار وضع" العقل" مقابل" الجنون" فكرة ساذجة،
لأن السؤال هو: جنون مقابل أي عقل؟
ففي أي عقل هناك الشطح والتخيل والوهم والاساطير،
وفي أي جنون هناك حكمة ومعرفة واستبصار قد يكون خلاقاً.

هل تخون فرنسا نفسها وثقافتها لصالح السياسة؟
ولماذا لا يتم وصف قتلة الصحفيين وقاتل زبائن المتجر أيضا بالمجانين؟
ما الحد الفاصل بين خطف الناس وتهديدهم بالقتل،
وبين القتل الفعلي اذا كان المبدأ هو احترام القانون والحياة؟

واذا قبلنا وصف الاختلال العقلي للرجل،
كيف استطاع الخاطف تبرئة نفسه من تهمة الارهاب الاسلامي مع ان أفعاله كلها تندرج تحت عنوان الارهاب والجريمة تلويحاً وتهديداً وحجزاً؟

والأخطر من ذلك كيف استطاع هذا" المختل" عقلياً أن يدمج كل ارهاب بالمسلمين،
على الرغم من عدم توازنه النفسي والعقلي والفكري،
ويخرج نفسه من تهمة ارهاب مؤكد؟

هذا الرجل الذي حبس انفاس فرنسا والرهائن،
لا يعد نفسه ارهابياً،
كما ان النظام الفرنسي نفسه لا يصوره كإرهابي،
بل سارع لانقاذه من " الوصم" الارهابي الى ما يشبه العذر،
كما لو انه كان يقود فرقة موسيقية في مكتب البريد،
هذا الرجل ــــ والحدث هو الخلاصة المركزة للعقل السياسي الغربي،
الذي ينظر الى أفعاله من منظومة قيم ومعايير ومفاهيم خاصة به ويبرر أكثر الافعال خطورة ومغامرة وعدواناً،
ويصف الناس الذين يختلفون معه بكل الاوصاف السلبية من أفعال عادية كالدفاع عن الوطن والثروة والسيادة،
وكراهية التدخل المسلح، والاحتلال،
لكنه لا ينظر الى الاخرين من داخل ثقافتهم ونظرتهم للحياة والحرية والكرامة البشرية.

لعل أدق توصيف صدر بعد احداث 11 ايلول عام 2001 هو المقال الذي صار كتاباً للفيلسوف الفرنسي الشهير جان بودريار " روح الارهاب"،
وهو الرجل الذي يباغت النخبة الفرنسية بتحليلاته غبر المتوقعة للاحداث باستقلالية فذة،
ويعتبر من منظري ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية،
عندما قال، بتلخيص مركز، ان انهيار البرجين هو انتحار علني للعقل السياسي الغربي،
للقوة الغاشمة التي لا تريد المنافسة،
فلا صراع حضارات ولا صدمة أديان،
هو" ارهاب ضد الارهاب".

اذا كان النظام الفرنسي قد نظر الى مختطف دائرة البريد اليوم كمختل عقلياً،
واذا كان هو نفسه الخاطف وضع سلطته العقلية فوق سلطة العقل الارهابي الاسلامي،
واستنكر أن يكون واحداً منهم،
واذا كانت الشرطة" إطمأنت" لهذا الوصف،
لأن النظام ، والخاطف، والشرطة، من نظام ثقافي واحد وعقل مركزي واحد يحجز للمختلف صفة الارهاب،
فلاشك أن ارهابيي صحيفة شارلي،
وقاتل المتجر،
قد نظروا أيضاَ للآخرين من المنظار نفسه،
لكن من الجانب المضاد:
هو فعلاً إرهاب ضد الإرهاب،
فلا دين ولا صراع حضارات ولا حضارة مقابل همجية،
ولا حرية مقابل بطيخ.

 

حمزة الحسن

 

17.01.2015

 

 

 

  عودة الى الصفحة الرئيسية◄◄

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

17.01.2015  

  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4]  | أرشيف المقالات  |  دراسات  |  عمال ونقابات |  فنون وآداب |  كاريكاتير  |  المرأة |  الأطفال | إتصل بنا       

      

لا للتقسيم لا للأقاليم

لا

للأحتلال

لا

لأقتصاد السوق

لا

لتقسيم العراق

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة

من الكتاب والصحفيين العراقيين   

 

                                                                  

                                                                          

  

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org