<%@ Language=JavaScript %> د. حسين سرمك حسن الوردي : (28) مبدأ "الهويّة" الأرسطي عزّز موقف وعّاظ السلاطين

 

 

الوردي : (28)

 

مبدأ "الهويّة" الأرسطي عزّز موقف وعّاظ السلاطين

 

 

د. حسين سرمك حسن

 

# مبدأ الهويّة الأرسطي عزّز موقف وعاظ السلاطين :

----------------------------------------------------

إن رجل الدين عقلي ، ومن عادة العقليين أنهم يعتبرون الخطأ والصواب صنفين متمايزين لا يجوز امتزاجهما في أمر واحد أبدا . فالفكرة أما أن تكون صحيحة كلها أو خاطئة كلها . وليس من المعقول أن تكون صحيحة وخاطئة في وقت واحد . وهذا هو الذي جعلهم يستنكفون من الاعتراف بخطأ فكرة آمنوا بها من قبل . ومصدر هذه النظرة إلى الخطأ والصواب هو ثقتهم بصحة قانون " الهُويّة " الذي يقوم عليه المنطق الشكلي ( الأرسطوطاليسي ) القديم ، والذي يقول أن الشيء هو هو ولا يمكن أن يكون هو ونقيضه في آن واحد ، وهو قانون أثبت المنطق العلمي الحديث بطلانه .

إن الوردي يرى أن وعاظ السلاطين هؤلاء لا يفهمون حتى قول النبي محمد (ص) :

( إختلاف أمتي رحمة ) .

فهم لا يُدركون كيف يكون الاختلاف والنزاع رحمة على الناس  . إنهم يعتبرون جماعة المسلمين مقدسة لا يجوز المساس بها بأي حال من الأحوال . ومن يخرج على جماعة المسلمين يكون في نظرهم زنديقا . ولم يكفهم هذا فمنعوا ، بالإضافة إليه ، كلّ جدلٍ أو تفكير حرّ مخافة أن يؤدي هذا الجدل إلى الشك في التقاليد المقدسة وإلى الاعتراض على جماعة المسلمين . إنهم يرومون الجمود الفكري بكل ما في هذه الكلمة من معنى . والواقع أن الجمود الفكري والخضوع للسلطان أمران مترادفان . فهم يقولون : ( من تمنطق فقد تزندق ) ، ويقولون : ( من خرج على السلطان فقد كفر ) (195) .

لكن الوردي كما قلت لم يكن ملحدا كما اتُهم ، ولم يكن ضد الدين أبدا . لندعْ ، أولا ، ابنه الأكبر الدكتور "حسّان الوردي" يتحدث عن بعض خصال أبيه الراحل المرتبطة بهذا الجانب :

( كانت فرحة أبي كبيرة عند زواجي . ثم كانت أكبر عند قدوم أولادي للحياة .. كان يصرّ على أن يقرأ القرآن على الأطفال في أول يوم من عمرهم ..)

لكن الدليل الأكبر هو ما سطّره الوردي في مؤلفاته من دفاع عن الدين ، الدين النقي الذي يدعوا قرآنه الكريم إلى مقارعة الطغاة والمترفين . هذا ما لم يخلو منه أي فصل من فصول كتابه الشهير ( وعاظ السلاطين ) . خذ على سبيل المثال ما قاله في الصفحة (103) من هذا الكتاب الذي هُدر دم الوردي بسببه من قبل بعض وعاظ السلاطين :

( يقول النبي محمد : ( إذا رأيت أمتي تهاب الظالم أن يقال له : إنك ظالم ، فقد تُودع منها )

وهذا الواجب الإسلامي ، أي واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، واجب غريب يدعو إلى التأمل . فهو يفرض على الناس أن يجابهوا الظالم بالاعتراض والانتقاد وأن يقولوا له في وجهه : ( إنك ظالم ) . ومن يدرس نفسية الظالمين يجد أنهم لا يستسيغون مثل هذه المجابهة اللاذعة . وكثيرا ما يأمرون بقتل من ينتقدهم أو يعرّض بهم . يبدو أن النبي كان يعتبر مثل هذه المجابهة جهادا في سبيل الله ، فهو يقول :

( ما من مسلم يُظلم مظلمة فيقاتل فيقتل إلا قُتل شهيدا ) .

وبهذا أمسى الجهاد في الإسلام نوعين : جهاد العدو الكافر ، وجهاد الظالم المسلم ) (196).

# يجب إنقاذ الدين العظيم من أيدي وعّاظ السلاطين :

---------------------------------------------------

وهذا مثال عملي على فهم الوردي الحقيقي للدين الإسلامي ، وحين يُعلّق على هذا الواجب ، أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكيف تعرّض للتزييف على أيدي وعّاظ السلاطين ، فسنفهم بشكل أعمق موقف الوردي الثوري ضد قوى الطغيان ، وكفاحه من أجل إنقاذ هذا الدين العظيم من أيدي وعاظ السلاطين ، وسندرك سرّ الهجمة الشعواء التي شنها عليه الأخيرون :

( جاء الوعاظ إلى واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي فرضه نبي الإسلام فأوّلوه لكي يلائم فلسفتهم في الخضوع للسلاطين . فهم قد جعلوا هذا الواجب العظيم وظيفة حكومية حقيرة وأطلقوا عليها اسم ( الحسبة ) . وساعدهم السلاطين في ذلك ) (197) .

وحين ينتقل بنا الوردي ليكمل رأيه ، من خلال توظيفه ، كعادته ، لخدمة أفكاره الثورية المرتبطة بمجتمعه وبمرحلته الراهنة آنذاك، فستكتمل صورة موقف الوردي ودعوته إلى تثوير الدين ومقاومة عمليات المسخ والتشويه الذي يجري على أيدي وعّاظ السلاطين :

( فرض النبي واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكي يحرّض أمته على مكافحة الظلم ، فجعله وعّاظ السلاطين سوطا بيد الجلاوزة يسلّطونه على رأس البقّال والحمّال والمُعلّم من أهل السوق المساكين . وفي نظري : إن خير تطبيق لسُنّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذا العصر ، هو استعمال المسلم حقه في الانتخاب وفي التصويت إلى أبعد الحدود ... ولو كنت من أرباب العمائم لأفتيت باعتبار التصويت واجبا دينيا ولجعلت التقاعس عنه ذنبا لا يغتفر  ) (198) .

وفي كتابه اللاحق : ( مهزلة العقل البشري ) نقرأ رده على رأي للشاعر معروف الرصافي ورد في كتاب الأخير : ( آراء الرصافي ) يقول فيه :

( إن الغاية التي ينزع إليها محمد ليست بدينية محضة ، بل يريد أن يحدث نهضة كبرى ، أو موجة عربية كبرى ، تكون اجتماعية سياسية يقوم بها العرب باديء الأمر على أن تكون لهم السيادة على غيرهم من الناس .. وإذا جاز الاعتماد على ما جاء في كتب القوم من الأحاديث المأثورة قلنا أنه كان يريد في نهضته بالعرب أن يكون المُلك والسلطان من ورائها لقريش مباشرة وللعرب بواسطة قريش ) .

ويعلّق الوردي على رأي الرصافي بالقول :

( يؤسفنا أن نرى هذا الشاعر الشعبي الذي كان ثائرا على المترفين طيلة حياته ، يصف رسالة محمد بهذا الوصف المُقذع . والظاهر أن الذي دفعه إلى مثل هذا القول تلك الأحاديث " المأثورة " التي خرجت من مصنع أبي هريرة وأمثاله . فهذه الأحاديث التي أمر بصنعها معاوية وبذل من أجلها أموالا طائلة هي التي صوّرت الإسلام بهذه الصورة البشعة . وجاء المستشرقون من بعد ذلك يعتمدون عليها فيطلقون على محمد اسم ( نبيّ الحرب ) ... ) (199) .

وبخلاف الرصافي ، يرى الوردي أن النبي محمد أجلّ وأسمى من أن يكون من طراز جنكيزخان أو تيمورلنك . إنه ( الثائر العظيم ) .

# دحض آراء ماركس ولينين في الدين :

---------------------------------------

ولكن الموقف الأشمل والأكمل للوردي من موضوعة الدين ودوره في الحياة البشرية جاء في معرض مناقشته رأي كارل ماركس في أن ( الدين افيون الشعوب ) ، وذلك في الجزء الخامس من موسوعته لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث . فقد وصف "ماركس" الدين بأنه أفيون الشعوب وتبعه "أنجلز" في ذلك ، ثم جاء "لينين" بعدهما فشرح هذا الرأي وأفاض فيه . يرى الوردي أن ظاهرة التديّن في المجتمع البشري ليست بمثل هذه البساطة بحيث يمكن الحكم عليها بأنها أفيون .. وكفى . فالتديّن ظاهرة اجتماعية عامة موجودة في جميع الشعوب حتى أشدها بدائية . ولم يجد الباحثون في أية بقعة من بقاع الأرض شعبا ليس له دين . ويُعزى سبب ذلك إلى أن الإنسان مهدّد بالأخطار ومحاط بالمشاكل دائما ، وهو إذن في حاجة إلى عقائد وطقوس دينية تساعده على مواجهة تلك الأخطار والمشاكل وتبعث في نفسه الطمأنينة تجاهها .

ويرى الوردي أيضا أن سبب موقف ماركس هو أنه عاش في بيئة ثقافية كانت نزعة التدين  ضعيفة فيها ، فأدّى ذلك به إلى التصور أن الدين أمره هيّن ، وأن في مقدور البشر الاستغناء عنه . ولكنه يعلّق على ذلك بالقول بأنه إذا جاز لنا أن نقول عن الدين بأنه أفيون الشعوب على نحو ما قال به ماركس ، جاز لنا القول أيضا أنه أفيون ضروري لا يمكن أن تستغني الشعوب عنه . فإذا منعنا الشعوب عنه لجأت إلى مخدر من نوع آخر للاستعانة به على مواجهة الحياة وأخطارها .

ثم يتناول الوردي بالنقد موقف "لينين" من الدين حيث كان موقف الأخير أشدّ تأكيدا من موقف ماركس وأكثر وضوحا، فهو قد شجع الماركسيين على الإلحاد ومكافحة الاتجاهات الدينية بين الناس بصورة واضحة. يقول لينين :

( إن برنامجنا قائم كليا على الفلسفة العلمية المادية الصارمة . إن دعايتنا يجب أن تكون بالضرورة مشتملة على الدعاية للإلحاد . (..) إن الأساس الفلسفي للماركسية ، كما أعلنه ماركس وأنجلز مرارا ، هو المادية الديالكتيكية ... وهي مادية بلا جدال ، مُلحدة ومناهضة بإصرار لجميع الأديان ... إن الدين أفيون الشعوب – هذا القول المأثور لماركس – هو حجر الزاوية لمُجمل وجهة النظر الماركسية حول الدين . لقد نظرت الماركسية دائما إلى الأديان والكنائس وجميع المنظمات الدينية كأدوات بيد الرجعية البرجوازية للدفاع عن الاستغلال ولتسميم عقل الطبقة العاملة ) (إنتهى كلام لينين) .

يرد الوردي على ذلك من خلال مثل محدد يرتبط هذه المرة بالدين الإسلامي تحديدا فيقول :

( يتضح الطابع الثوري للدين في الإسلام بوجه خاص . إذ أن الإسلام كان في بداية أمره ثورة على طبقة المترفين المرابين ، وقد قاومته تلك الطبقة مقاومة شديدة كما هو معروف . وحين نقرأ القرآن نجد الطابع الثوري واضحا في الكثير من آياته ، يكفي أن نذكر هنا واحدة منها هي : ( وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون ) – سورة سبأ – آية 34 . ولكن الدين يفقد بمرور الزمن طبيعته الثورية الأولى ، فينجرف مع الدنيا تحت تأثير السلاطين من جهة ، وتأثير العامة من الجهة الأخرى . ولهذا يصبح رجل الدين مضطرا أن يجاري السلاطين في ترفهم وتعسفهم ، أو يجاري العامة في خرافاتهم . .. إن انحراف الدين عن طبيعته الثورية الأولى ليس عيب الدين ، بل هو عيب رجال الدين ) (200) .

ولكن الوردي سبق له أن طرح معادلة متوازنة عن دور الدين في كتابه ( مهزلة العقل البشري ) حين نقل مقولة نيتشه : ( الدين ثورة العبيد ) ، ومقولة ماركس الشهيرة : ( الدين أفيون الشعوب ) ، وبجمعه الطرفين في استنتاج موضوعي دقيق يقول فيه :

( في الحقيقة إن الدين ثورة وأفيون في آن واحد . فهو عند المترفين أفيون وعند الأنبياء ثورة . وكل دين يبدأ على يد النبي ثورة ثم يستحوذ المترفون عليه بعد ذلك فيحوّلونه إلى أفيون . وعندئذ يظهر نبي جديد فيعيدها ثورة شعواء مرة أخرى ) (201).

 

تاريخ النشر

24.06.2015

 

 

 

  عودة الى الصفحة الرئيسية◄◄

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

24.06.2015

  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4]  | أرشيف المقالات  |  دراسات  |  عمال ونقابات |  فنون وآداب |  كاريكاتير  |  المرأة |  الأطفال | إتصل بنا       

      

لا للتقسيم لا للأقاليم

 

لا

للأحتلال

لا

لأقتصاد السوق

لا

لتقسيم العراق

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة

من الكتاب والصحفيين العرب و العراقيين   

 

                                                                  

                                                                          

  

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org