%@ Language=JavaScript %>
لا تثقوا بالولايات المتحدة : (21)
مشروع مارشال: هل كان خطّة استغلال وتآمر أمريكية أم خطة لوجه التنمية ؟
إعداد : د. حسين سرمك حسن
بغداد المحروسة - 2015
تمهيد :
------
عندما يُطرح تاريخ السلوك "التنموي" للولايات المتحدة الأميركية ، يتبادر إلى ذهن المتلقي – من المهتمين بالشأن السياسي وتاريخه خصوصاً – المبادرة الكبرى التي طرحتها الولايات المتحدة لتنمية بلدان أوروبا المُخرّبة التي دمّرتها ويلات الحرب العالمية (الغربية) الثانية ، والتي تمثلت في "مشروع أو خطة مارشال - Marshall Plan" . في هذا المشروع خصّصت حكومة الولايات المتحدة 13 مليار دولار أميركي على النحو التالى : انجلترا : 3.6 مليار دولار - فرنسا: 3.1 مليار دولار - ايطاليا : 1.6مليار دولار - المانيا الغربية : 1.4 مليار دولار - هولندا : مليار دولار - اليونان : 800 مليون دولار - النمسا : 700 مليون دولار بلأضافة الى 2.4 مليار دولار أخرى تم توزيعها على مجموعة دول أوربية أخرى : بلجيكا- الدنمارك - أيرلندا - ايسلندا - يوغوسلافيا - لكسمبورج - النرويج -البرتغال - السويد - سويسرا – تركيا. وقد ساهمت هذة الأموال في إعادة اعمار وتشغيل الاقتصاد والمصانع الاوربية (ويكيبيديا الموسوعة الحرّة) .
وقد خُدع بظاهر هذا المشروع الكثيرون واعتبروه جهداً أمريكياً مخلصاً لوجه التنمية ومساعدة الشعوب وذلك من خلال تطوير دول أوروبا وإعادة بنائها وترميم اقتصادها المُتهالك ، وهو أمرٌ يخالف البناء السيكولوجي العدواني الحديدي لهذه الأمّة الأميركية القائم على قتل الآخر وإلغائه والتشفّي به وإبادته "الضعيف والجريح خصوصاً" ، والتعالي ، والدور المُختار من قبل الإرادة الإلهية ؛ وهذا الإختيار الإلهي مُؤسّسٌ على الروح التوراتية التي قامت عليها "إسرائيل الله الأولى" كما سُمّيت الولايات المتحدة وقت نشوئها . وقد لا يقتنع السيّد القاريء – وهو محق في ذلك - بصورة مباشرة بهذه الرؤية التي سوف نعالجها مستقبلا في حلقات خاصة متعدّدة ، كسبب ينفي وجود النيّة التنموية الخالصة لدى الولايات المتحدة الأميركية من وراء مشروع مارشال ، ولهذا من الضروري أن نتجه في هذه الحلقة إلى التحليل الإجرائي العملي فننقل أوّلاً وجهات نظر مفكّرين ومؤرّخين غربيين حول غايات مشروع مارشال وأهدافه "الخفيّة" . ولكن قبل ذلك لنأخذ لمحة سريعة عن حال أوروبا في شتاء عام 1947 العام الذي طرحت فيها الولايات المتحدة مبادرتها .
# أوروبا في شتاء عام 1947: جوع وبطالة وإفلاس تام.. وموت:
------------------------------------------------------------
كان شتاء عام 1947 في أوروبا طويلاً مرعباً وشديد القسوة . كانت أوروبا مفلسة تماماً . السوق السوداء والقلق الاجتماعي وسلسلة الإضرابات التي تصيب المجتمع بالشلل (وكان معظمها من تدبير وتنفيذ اتحادات العمال الشيوعية) .. سدت أطواق الجليد مجاري الأنهار ، وتجمدت قضبان القطارات المحملة بالمواد التموينية ، وتوقفت السفن وسط بحار الجليد ، وفي أوروبا كلها انهارت خدمات المياه والصرف الصحي ، وهبطت احتباطيات الفحم إلى أقل معدل لها لأن العمال واجهوا صعوبة بالغة في تشغيل آلات الرفع بعد أن تجمدت أسلاكها . كان برد المدن يهاجم الناس مثل وحش ضار ، النوافذ بلا زجاج والجدران مليئة بالشروخ التي يسدها الناس بمزق القماش . وكانوا يدفئون غرفهم بمقاعد خلعوها من الحدائق العامة ، أما كبار السن والمرضى فكانوا يموتون في الفراش بالمئات . وكإجراء طارىء خّصّصت شجرة للتدفئة لكل أسرة . كل ذلك أدى إلى حالة من العوز ومستوى من الحرمان ، مثلما كان الوضع في أسوأ أيام الحرب في ألمانيا . فقدت النقود قيمتها (بثمن 24 علبة سجائر أميركية يكفي لشراء سيارة مرسيدس موديل 1939!) ، أمّأ الشهادات التي كانت تبرّيء حاملها من اية صلة بالنازية ، والتي كانت تسمّى بشهادات البنسلين والبنسلسين (أبيض من البياض) ، فقد وصلت إلى أغلى سعر . وكان من المستحيل الحصول على الدواء والكساء . كانت أسر بكاملها تعيش تحت الأرض في ملاجىء بلا ماء أو كهرباء ، وكانت البنات والصبية الصغار يعرضون أنفسهم على الجنود الأميركيين لممارسة الجنس مقابل قطعة شوكولاته . (فرانسيس ستونور سوندرز : من الذي دفع للزمّار ؟ الحرب الباردة الثقافية).
# تشومسكي : في مشروع مارشال انتقلت المعونة الأميركية من جيب أميركي إلى جيب أميركي آخر :
------------------------------------------------------------
يقول تشومسكي :
(لو ألقيتَ نظرةً على خطة مارشال الشهيرة لوجدتَ أنّ من بين (13) مليار دولار من المعونة التي قدّمتها الخطة ذهب (مليارا دولار) إلى شركات النفط الأميركية بصورة مباشرة ، وكان ذلك جزءا من المسعى لتحويل أوروبا من الاقتصاد المُعتمد على الفحم إلى اقتصاد مُعتمد على النفط ، ولجعل البلدان الأوروبية أكثر اعتمادا على الولايات المتحدة . فأوروبا غنيّة بالفحم لكنها لا تمتلك النفط . إذاً هذان ملياران من الثلاثة عشر مليارا .
وإذا نظرت إلى بقية المعونة تجد أن القليل من المال غادر الولايات المتحدة ، إذ انتقل من جيب إلى آخر ، فالمعونة المُقدمة إلى فرنسا بموجب خطة مارشال لم تكد تغطي تكاليف الجهد الفرنسي لإعادة احتلال الهند الصينية . لذا لم يكن المكلف الأميركي يعيد بناء فرنسا بل كان يدفع للفرنسيين لشراء أسلحة أميركية لسحق سكان الهند الصينية . وكان يدفع إلى هولندا لسحق حركة الاستقلال في إندونيسيا .
لقد حاولت فرنسا بمساعدة مشروع مارشال أن تعاود غزو فيتنام مستعمرتها السابقة فقُتل نصف مليون فيتنامي ، ثم انسحبت فرنسا عام 1954 باتفاقية لفصل القوات وانتخابات ووعد بتوحيد البلاد خلال سنتين ، فاعتبرتها الولايات المتحدة "كارثة") مدوّية وتدخلت لمنع فرنسا من الإنسحاب وتبدأ حرب تدمير فيتنام وإبادة شعبها بجهود الولايات المتحدة . (تشومسكي : أشياء لن تسمع بها أبداً) .
وبما أن الدولار غدا سيّد العملات، فقد نجحت واشنطن في تحقيق سيطرتها عن طريق الاستثمارات وشراء المشروعات القائمة في تلك البلدان، مقابل وعود بالتسديد بالدولار، ومقابل إعطاء الدائنين شهادات بتلك الوعود، فكانت "برامج الإعمار" العملاقة التي جعلت أوروبا واليابان، بمصانعها وشركاتها وأسواقها، بلداناً تابعة يقتسم الاحتكاريون الأميركيون منافعها وأرباحها! غير أنه من الثابت أن المخصصات الأميركية لم تكن تكفي لإعادة الإعمار، بل هي كانت حقاً الجزء الأصغر من التكاليف، أما الجزء الأكبر فقد وقع على عاتق الشعوب في أوروبا واليابان، وحتى الجزء الأميركي الصغير لم يأت من خزائن الاحتكاريين الأميركيين، بل من مدّخرات المودعين والمساهمين الأميركيين الصغار، ومن دافعي الضرائب، ومن بعض المصارف الأميركية، أي أن المرابين الأميركيين الكبار كانوا يسرقون مواطنيهم، فهم بالإجمال لم يوظفوا من جيوبهم ما يستحق الذكر، وجنوا الفوائد الضخمة والأرباح الطائلة التي عزّزت مواقعهم في النظام الربوي الدولي !(موقع المعرفة).
# غارودي : أوّل شروط تنفيذ مشروع مارشال "ديمقراطي" وهو إقصاء الوزراء الشيوعيين عن الحكم في أوروبا :
--------------------------------------------------------------
أمّا الفيلسوف الراحل "روجيه غارودي" فينظر إلى الأهداف الخفيّة لمشروع مارشال من خلال منظور آخر حيث يقول :
(... طُرحت المشكلة بحدة في أوروبا غداة الحرب العالمية الثانية . كان الخطر هنا مضاعفا حسب وكالة المخابرات المركزية التي أكّدت عام ١٩٤٧ أن الخطر الاكبر ، على أمن الولايات المتحدة ، هو خطر الانهيار الاقتصادي في أوروبا الغربية ، وما سيتبعه من وصول عناصر شيوعية إلى السلطة. ولتجنّب مثل هذا الخطر المُضاعف ، أطلق القادة الأمريكيون مشروع " مارشال " الذي هدف حسب قولهم إلى إعادة إعمار أوروبا .
لكن الشروط السياسية كانت صارمة : لابد في البداية من إقصاء الشيوعيين في الحكومات الغربية . وهكذا بدا التدخل الخارجي في هذه البلدان واضحا . فقد أُقصي الوزراء الشيوعيون في الحكومة الفرنسية عن الحكم في ٤ أيار ١٩٤٧، وأُقصى الوزراء الشيوعيون في الحكومة البلجيكية في الشهر نفسه .
وهكذا ، بعد أن تمّت عمليات الإبعاد ، أُعلِن بشكل رسمي عن مشروع مارشال في ٥ حزيران ١٩٤٧ . لقد كانت " المساعدة " هي الهدف الأصغر في خطة مارشال . وقد لاحظت دراسة أُجريت في نيسان ١٩٤٧ ، أن المساعدة الأمريكية ستُكرس بشكل مطلق للبلدان التي تتمتع بأهمية استراتيجية أساسية للولايات المتحدة .. ما عدا حالات نادرة ، التي تبرز فيها مناسبة للولايات المتحدة أن تتلقى استحسانا عمليا بفضل " عمل إنساني واضح جدا".
وقد اتفق "دين اتشيسون" وزير الخارجية ، وعدد من أعضاء مجلس الشيوخ عام 1950. ، أنه لو أُعلنت المجاعة في القارة الصينية ، سيكون على الولايات المتحدة أن تقدم مساعدات غذائية "قليلة" بالقدر الذي لا تُخفف فيه من حدّة المجاعة ، انما تكفي لتسجيل نقطة في سجل الحرب النفسية) .
وفي كتاب "الولايات المتحدة والأبعاد الإستراتيجية لمشروع مارشال" ، للكاتب "ميلغن ليفر" ، جاء ما يلي :
"إن المفهوم الأمريكي للأمن القومي يتضمن ايجاد منطقة نفوذ استراتيجية في قلب نصف الكرة الغربي ، وهي دائرة تتواجد فيها أوروبا بالضرورة ، ولذلك يجب إقصاء نفوذها - يقصد أوروبا - بحيث يشمل النفوذ الاستراتيجي للولايات المتحدة السيطرة الاقتصادية، والهيمنة على المحيط الهادي والأطلسي ، ونظام شامل لبناء قواعد خارجية ، لتوسيع الحدود الاستراتيجية ، وترسيخ السلطة الأمريكية ، ونظام أكثر تركيزا على حقوق الترانزيت كي يسهل تحول القواعد التجارية إلى قواعد عسكرية ، والوصول إلى مصادر الثروة ، وأسواق القسم الاعظم من "أوراسيا "، ومنع أي عدو من الوصول إليها ، وأخيرا تحقيق التفوق النووي" .
ويسمح لنا هذا المفهوم الاستراتيجي ، بفهم آلية الحرب الباردة بعد عام ١٩٤٨ بشكل أفضل . وتلعب سياسة " الإفراط في التسلح " دورا حاسما في هذه البرمجة . قالت مجلة (وول ستريت جورنال) عام ١٩٥١ ) :إنه من الواضح ، وجود إمكانية لإنفاق مستمر على التسلح في هذه البلاد . وتحرّك النفقاتُ العسكرية للولايات المتحدة ، الإنتاجَ الصناعيَ الأوروبي بشكل لا يمكن تجاهله ، كما أن شراء المواد الأولية الاستراتيجية من المستعمرات الأوروبية ، يقلّل من عجز الدولار ، بنسبة تضاهي المساعدة التي قدمها مشروع مارشال لبريطانيا ، والتي عُلّقت عام ١٩٥٠ . بينما وُجد أن النتائج على المدى الطويل كانت عكس ذلك . ففي اليابان لعبت النفقات العسكرية للولايات المتحدة ، وخاصة بسبب الحرب الكورية ، دورا جوهريا في إعادة بناء الصناعة اليابانية بعد الحرب ، واستفادت كوريا الجنوبية من حرب فيتنام ، بنفس الأسلوب ، وبنفس الوقت الذي أفادت منه الدول الحليفة للولايات المتحدة) .(غارودي : الولايات المتحدة طليعة الانحطاط) .
# تسلسل هادىء لحوادث ساخنة :
--------------------------------
في الخامس من يونيو عام 1947 أعلن الجنرال "جورج كاتلت مارشال" (1980 – 1959) رئيس اركان الجيش الأميركي في الحرب والذي اصبح وزير خارجية الرئيس "ترومان" مشروعاً للتعامل مع الأزمة الكبرى . أمّا خطابه الذي استغرق عشر دقائق وألقاه في افتتاح الموسم الدراسي لجامعة هارفارد في السادس والعشرين من يونيو ، فكان لحظة فارقة ولحظة تحوّل في مصير أوروبا بعد الحرب . كان من بين الحاضرين أثناء إلقاء كلمته "روبرت أوبنهايمر" عالم الفييزاء والجنرال "عمر برادلي" القائد العام يوم بدء العلمليات و "تي أس إليوت" كانوا موجودين لاستلام درجات فخرية مثل الجنرال مارشال . حذّر مارشال مُنّبها إلى أن العالم كله وأسلوب الحياة الذي عرفناه قد اصبحا في الميزان بالمعنى الكامل للكلمة . ودعا العالم الجديد لكي يهب من أجل رأب الصدع وتحمل العبء الأكبر ببرنامج عاجل للإقراض المالي والمساعدات المادية على نطاق واسع لكي يمنع الانهيار الكامل للعالم القديم . هناك عدم استقرار واسع وهناك جهود منظمة لتغيير وجه أوروبا بالكامل كما نعرف وبشكل يتناقض مع مصالح العالم الحر والحضارة الحرة . هكذا أعلن مارشال إننا إذا تركناهم يعتمدون على مواردهم فلن يكون هناك مفر من أزمة اقتصادية واسعة واضطرابات اجتماعية عنيفة وارتباك سياسي شديد لدرجة أن الأساس التاريخي للحضارة الغربية الذي يعتبر – بالمعتقد والتراث – جزءا لا يتجزأ منه ، هذا الأساس سيأخذ شكلا جديدا في صورة الاستبداد الذي حاربنا للقضاء عليه في ألمانيا . . ألقى مارشال خطابه أمام شباب هارفارد ، فأولئك هم الرجال المنوط بهم تحقيق قدر أمريكا الجلي ، النخبة التي تواجه تحديا لتنظيم العالم حول قيم كان الظلام الشيوعي – بهدوء – يقوم بطمسها ، وكما أصبح معروفا فإن تحقيق مشروع مارشال كان هو إرثهم .
خطاب مارشال كان مقصده هو تغذية ودعم دعوة الرئيس "ترومان" الأيديولوجية للسلاح قبل أشهر قليلة ، والتي تمّ تبنّيها والالتفاف حولها في الحال باسم "مبدأ ترومان" . وفي خطابه أمام الكونغرس في مايو عام 1947 بخصوص الوضع في اليونان ، والذي كان يُنذر بانقلاب شيوعي ، كان ترومان يدعو بلغة رؤيوية غامضة لعصر جديد للتدخل الأمريكي . في هذه اللحظة من تاريخ العالم ، فإن على كل دولة تقريبا أن تختار بين أساليب بديلة للحياة - هكذا تكلم ترومان - والاختيار ليس حرّا دائما ؛ أحد اساليب الحياة يقوم على إرادة الأغلبية ، الثاني يقوم على إرادة أقلية مفروضة على الأغلبية بالقوة . يعتمد على الإرهاب والظلم ، صحافة وإذاعة تحت الرقابة، انتخابات وهمية وقمع للحريات الشخصية ، وأعتقد أنّ لابد من ان تكون سياسة الولايات المتحدة هي أن تدعم الشعوب الحرة التي تقاوم الخضوع الذي تحاول أن تفرضه عليها قلّة مسلحة ، أو عن طريق الضغط الخارجي ، وأعتقد أننا لابد من أن نساعد الشعوب الحرة على أن تقرّر مصيرها بنفسها . (فرانسيس ستونور سوندرز : من الذي دفع للزمّار ؟).
# وقفة وتساؤل :
----------------
إنّ من يراجع ما قاله الجنرال مارشال في خطاب طرح فكرة المشروع ، وما أعلنه الرئيس ترومان ، سيجد وبوضوح أنّ الرؤية التي طرحاها والتي تمّ تصميم المشروع على ضوئها هي الرؤية التي أشعلت فتيل الحرب الباردة ضد الإتحاد السوفيتي ، ودعت بصورة مكشوفة إلى عزله على الرغم من أنّه قد خرج – وبصورة أكبر من بلدان أوروبا - باقتصاد محطّم وبخسائر بشريّة هائلة كانت هي السبب الرئيسي في الخلاص من السطوة النازية والفاشية على أوروبا . تُقدّر خسائر الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية بأكثر من 20,000,000 قتيل ما بين عسكري ومدني على الرغم من تباين الإحصائيات بصورة كبيرة، ومع ذلك يُقدّر التعداد الحالي لعدد الضحايا وفق الإحصاء الأخير من جانب الحكومة الروسية بقرابة 26.6 مليون قتيل ما بين مدني وعسكري منهم 8.7 مليون من العسكريين. فهل يُكافأ بلد قدّم مثل هذه التضحيات الجسيمة بمثل هذه الحملة العنيفة التي تقرب من الشتائم السياسية ؟! وتضمن التقرير تقييمات بالغة التفصيل للاقتصاد الأوروبي في زمن كانت القدرات الإنتاجية كثيراً ما تعتبر فيه أسراراً قومية. وكان هذا الشرط بتوفر الشفافية المالية من الأسباب التي جعلت الاتحاد السوفياتي يمتنع عن المشاركة في اللجنة. ويبدو أن الأهداف السوفياتية ركزت على برامج لكل دولة بمفردها، لا على تعاون على النطاق الأوروبي، كما أصر السوفيات على استمرار ألمانيا في دفع التعويضات لمساعدة الاقتصاد السوفياتي، الذي كانت الحرب قد دمرته هو أيضا. ويعتبر المؤرخون هذه الاستراتيجية السوفياتية خطأ رئيسياً في الحسابات، ذلك أنه من المؤكد تقريباً أن مشاركة السوفيات كانت ستؤدي إلى امتناع الكونغرس عن اعتماد مخصصات لتمويل خطة مارشال. (موقع المعرفة وموقع ويكيبيديا ) .
# عودة :
مدير مشروع مارشال : مشروعنا لا يخلو من الأنانية :
----------------------------------------------------
وبعد حديث ترومان أخبر دين اتشسون أعضاء الكونغرس لقد وصلنا إلى وضع لا مثيل له منذ القدم . لم يحدث أن كان هناك استقطاب للقوى منذ روما وقرطاج على هذه الأرض بالإضافة إلى أن القوتين العظميين توجد بينهما فجوة لا يمكن تجسيرها . كان جوزف جونز مسؤول وزارة الخارجية والذي كتب مسودة دعوة ترومان للكونغرس كان يدرك الأثر العميق لكلمات الرئيس فقال : "لقد أزيلت معوقات العمل الجريء الواضح ، واصبح هناك شعورا بين صانعي السياسة بأن فصلا جديدا في تاريخ العالم قد بدا . وأنهم كانوا بشرا يشاركون في دراما نادراً ما يحدث مثلها في الحياة الطويلة لأمة عظيمة" .
الشعور الزائد بالأبعاد الطبقية لدور أمريكا بعد الحرب ، والذي اثاره حديث ترومان هو الذي أعطى المضمون البلاغي لحديث الجنرال مارشال بعد ذلك ... كان يقدم رسالة واضحة لا لبس فيها : وهي أن مستقبل أوروبا الغربية – إن كان لها مستقبل – لابد من أن يرتبط بـ "سلام أمريكي" . وفي 17 يونيو هاجمت صحيفة البرافدا اليومية السوفيتية مقترحات مارشال واعتبرتها امتدادا لمخطط "ترومان" للضغط السياسي بالدولارات ، وبأنها برنامج للتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى . وبالرغم من أن السوفيت كانوا مدعوين من قبل مارشال للمساهمة في مشروعه الشامل لإنقاذ أوروبا إلا أن العرض كان "مُخادعا" كما قال جورج كينان . كما أنه قُدّم بطريقة لابد من أن تجعله مرفوضا . فكما كان متوقعا رفض السوفيت أن يكونوا جزءا من المشروع ، ربما كان رفضهم مبالغا فيه ، ولكنهم كانوا مُحقّين في الأساس في الربط بين الدوافع الإنسانية للمشروع وأجندة سياسية أقل وضوحا . وبعيدا عن تصوّر المشروع للتعاون مع الاتحاد السوفيتي ، فإنه كان مُصمما في إطار أجواء وروح حرب باردة تهدف إلى دق إسفين بين موسكو والأنظمة التابعة لها . وفيما بعد كتب "دينيس فيتزجيرالد" الذي خطّط لمشروع مارشال يقول : "كان المفهوم ضمنا هو أهمية ألّا يُعطى السوفيت الفرصة لكي يضربوا بمجدافهم في تلك الأماكن . وكانت هناك دائما محاجة ترى أننا إذا فشلنا في تقدير مطالب x ,y ,z فإن السوفيت سوف يستغلون هذا الموقف لتعزيز مصالحهم . هذه النظرة دعمها "ريتشارد بيسيل" المديرالعام للمشروع بقوله : "حتى قبل نشوب الحرب الكورية ، كان من المفهوم جيدا أن مشروع مارشال لم يكن المقصود أن يكون أمراً يخلو من الأنانية تماما . كان الأمل هو أنه بتقوية اقتصاد أوروبا الغربية تزداد أهميتها كأعضاء في تحالف الـ "ناتو" ، ويكون من نتائج ذلك أن يصبحوا قادرين على تحمل مسؤولية دفاعية تدعم جهود الحرب الباردة . كما كان المتوقع أن تضطلع تلك الدول سرّاً بمسؤوليات أخرى دعما لجهود الحرب الباردة ، وبهذا الهدف سرعان ما بدأ ضخ المعونات المالية ، لتدعيم الصراع الثقافي في الغرب" ). (فرانسيس ستونور سوندرز : من الذي دفع للزمّار ؟).
# أهداف مشروع مارشال مُركّبة :
-------------------------------
إذن ، كانت أهداف خطة مارشال أهدافاً مُركّبة تصب كلّها في مصلحة الولايات المتحدة السياسية والإقتصادية آنيّاً أو على المدى البعيد ، وذلك من خلال "تفادي الفوضى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في أوروبا ، واحتواء الشيوعية (ليس المقصود بذلك هو التدخل السوفيتي بل نجاحات الأحزاب الشيوعية المحلية) ومنع انهيار تجارة التصدير الأمريكية. وانجاز الهدف المتمثل بتعددية الأطراف وتقديم دفع اقتصادي حاسم "للمبادرة الفردية والمشروع الخاص في القارة الأوروبية والولايات المتحدة معا" بشكل يقلل الخوف من "التجارب على المشاريع الإشتراكية والضوابط الحكومية" التي من شأنها أن "تعرض المشروع الخاص للخطر" في الولايات المتحدة أيضا . أيضا "أعدت خطة مارشال الأرضية لكمية ضخمة من الاستثمارات الأمريكية المباشرة في أوروبا" - كما لاحظت وزرة التجارة في عهد ريغان 1984 – واضعةً بصورة مبكرة قاعدة الشركات الحديثة العابرة للقومية التي "ازدهرت وتوسعت بفضل الطلبات التجارية القادمة من وراء البحار والتي كانت أموال خطة مارشال وقودا لها" ، وحامية إياها من "التطوّرات السلبية" عن طريق "مظلّة القوّة الأمريكية" .
لقد ترتب على إضعاف وتدمير الجزء الأكبر من رأس المال الأوروبي والياباني، بسبب الحرب الثانية، إضعاف وتدمير البورجوازيات الأوروبية واليابانية. وكانت مقاومة النازية والفاشية قد نهضت على عاتق الأحزاب التقدمية والنقابات العمالية التي أخذت على عاتقها أيضاً مقاومة الخيانات البورجوازية (كما في فرنسا) فكانت النتيجة أن الحرب انتهت والمقاومة هي سيدة المسرح السياسي، لذلك كان ردّ فعل رأس المال الأميركي، والبورجوازيات الأوروبية واليابانية التي سلمته زمامها، هو التصدّي الفوري لتلك المقاومة وجماهيرها العريضة، للحيلولة دون خروجها من شبكة العلاقات الرأسمالية، فكان مشروع مارشال أول وأهم أساليب التصدّي. (موقع المعرفة) .
# إبتزاز أمريكي في ظل مشروع مارشال :
----------------------------------------
ولم تتورّع الولايات المتحدة عن استخدام المساعدات التي اقرّها مشروع مارشال ، وخصوصاً الغذائية منها - والشعوب الأوربية يفتك بها الجوع آنذاك – لابتزاز السكّان عموماً ، والحركات الثورية خصوصاً . يورد "غوردون توماس" مؤلّف كتاب "الكتاب الأسود لوكالة الاستخبارات الأميركية" : "أنه في سنة ،1947 حذّر السفير الأمريكي في فرنسا جيفيرسون كافري حكومته من أن النفوذ السوفييتي يمكن أن يتمدّد بفضل الحزب الشيوعي الفرنسي وقلعته النقابية المنيعة - CGT (الكونفيدرالية العامة للعمل) . وعبَّر السفير الأمريكي عن حزنه لأنّ المسؤولين النقابيين الذين يتصدّون لسيطرة الشيوعيين على نقابة CGT ليسوا قادرين لأسباب مالية على تنظيم مجموعات معارضة فعّالة. وهكذا ففي سنة 1947 ، وحين دعا الشيوعيون الفرنسيون إلى إضرابات ضد مشروع مارشال الأمريكي، قامت وكالة الاستخبارات بهجومات مضادة سرية. وهكذا قامت، عن طريق الفيدرالية النقابية الأمريكية، بضخّ أموال للاشتراكي "ليون جوهو - Léon Jouhaux" الذي قام بانشقاق، مع "القوة العمالية - Force ouvrière" عن نقابة CGT التي كان يهيمن عليها حينها الحزب الشيوعي الفرنسي”. ويعترف جورج ميني George Meany رئيس الفيدرالية النقابية الأمريكية في ما بعد كيف أنّه موّل انشقاق النقابة التي كانت خاضعة للتأثير الشيوعي: “دفعنا لهم أموالا، أتينا لهم بأموال من النقابات الأمريكية، ونظمنا مكاتبهم وبعثنا لهم بالمعدات”. يبدو الأمر غريباً من كون الأمريكيين يمولون الاشتراكيين، ولكن المؤلف يرى أنه من بين القوى السياسية الثلاث التي كانت قوية آنذاك: الشيوعيون والديغوليون والاشتراكيون، كان الاشتراكيون الأقرب إلى الأمريكيين. يعلّق المدير السابق لقسم الشؤون الدولية في وكالة الاستخبارات الأمريكية على سياسة محاربة اليسار من خلال اليسار بقوله : “ كان الأمر من عمل "جاي لوفيستون" مساعد "دافيد دوبينسكي" في النقابة الدولية لعمال النسيج، وباعتباره زعيم الحزب الشيوعي الأمريكي فإن لوفيستون كان يعرف بشكل كامل عمليات التغلغل والاندساس في الخارج. في سنة 1947 قامت الكونفيدرالية العامة للعمل، وهي شيوعية، بإعلان إضراب أوشك أن يشُلّ الاقتصاد الفرنسي. فكان ثمة تخوف من استيلاء الشيوعيين على السلطة. في هذا السياق التاريخي تدخّل لوغيستون ومساعده إيرفين براون. وبفضل الأموال التي قدّمتها نقابة دوبينسكي تم إنشاء نقابة القوة العمالية، وهي نقابة غير شيوعية. وحين نضبت الأموال، تم الالتجاء إلى وكالة الاستخبارات الأمريكية. هكذا بدأ التمويل السريّ للنقابات الحرة، والذي انتشر بعد فترة وجيزة في إيطاليا. من دون هذا التمويل كان تاريخ ما بعد الحرب سيتخذ مساراً آخر مختلفاً”. وقد سمحت الأموال التي كانت تدفعها وكالة الاستخبارات، والتي تبلغ مليون دولار سنويا، للحزب الاشتراكي بتشكيل قاعدة انتخابية في الوسط العمالي. يورد الكاتب أن التظاهرات العمالية لم تكن عنيفة في باريس قياسا بمدينة مارسيليا، وبالفعل كان حيويا بالنسبة للسياسية الخارجية الأمريكية أن تكون مقبولة في هذه المدينة، رأس الجسر لإمدادات مشروع مارشال نحو أوروبا. وحين قام الناطقون الرسميون باسم الحزب الشيوعي الفرنسي بتحميل "الأخوة غيريني – Guérini" مسؤولية العنف الذي تعرض له المستشارون البلديون، وكذا مقتل عامل من عمال تصنيع المعادن، لم يجد "غاستون ديفير" ، وهو زعيم اشتراكي من مارسيليا، ما يقوله سوى أن “العلمين الأمريكي والبريطاني اللذين كانا يخفقان فوق بلدية مارسيليا تم اقتلاعهما من قبل العصابات الشيوعية، نحن الآن نعرف ما الذي يستطيع الشيوعيون أن يفعلوه”، وبعد أيام قليلة “قام النائب الشيوعي الفرنسي "جون كريستوفول" باتهام عصابة غيريني بكونها تدين بالولاء للحزبين الديغولي والاشتراكي في مارسيليا. وعلى الرغم من تكذيب ديفير للأمر، فقد قام نائب شيوعي آخر بتذكيره بأن قريباً من عائلة غيريني يشتغل مدير تحرير الصحيفة الاشتراكية “لوبروفونسال”. تمخض التعاون ما بين الاشتراكيين ووكالة الاستخبارات الأمريكية عن قيام هذه الأخيرة بإرسال عملائها ومتخصصيها في الحرب النفسية، الذين كانوا يتعاملون بطريقة مباشرة مع زعماء المافيا الكورسيكيين عن طريق الإخوان غيريني. وقد قدم العملاء الأمريكيون السلاح والأموال إلى العصابات الكورسيكية كي تستطيع تكسير الإضراب الذي كانت تقوم به نقابة العمال الشيوعية، وكذلك تهديد الزعماء النقابيين. ووصل الأمر إلى تصفية العديد من العمال. وهنا لعبت الحرب النفسية دورها الكاسح في زعزعة المطالب العمالية : “فقد كان متخصصو الحرب النفسية الأمريكيون يوزّعون منشورات وملصقات وبرامج بروباغاندا في الإذاعات مُوجّهة إلى العمال. ووصل الأمر بالحكومة الأمريكية إلى التهديد باستعادة حمولة 65000 كيس من الطحين (ضمن مشروع مارشال) مُرسلة إلى مارسيليا إذا لم يُوقِف عمال الموانئ إضرابهم على الفور. وقد تسبّب الفقر والعنف في إرغام عمال مارسيليا على وقف إضرابهم ، وهو ما فعله رفاقهم في مدن فرنسية أخرى”. وقد كانت النهاية “السعيدة” لإيقاف الإضراب تتمثل في أنه “في عشية أعياد الميلاد من سنة 1947 وصلت 78 عربة قطار إلى محطة مارسيليا محملة بالطحين والحليب والسكر والفواكه. وكان وصولها وسط تصفيقات من قبل تلاميذ فرنسيين يحملون أعلاما أمريكية”.
# نظرة نقدية متوازنة إلى مشروع مارشال:
-----------------------------------------
تباينت الآراء حول دوافع وأغراض الولايات المتحدة من وراء هذا المشروع، وذلك خلافاً للهدف المُعلن وهو مساعدة أوربا في إعادة الإعمار. ويمكن تلمس هذه الدوافع والأغراض في ضوء ما أفرزته الحرب العالمية الثانية التي انتهت في العام 1945 من نتائج اقتصادية وسياسية واجتماعية على مجتمعات أوربا من جهة، وعلى وضع الولايات المتحدة كطرف مشارك في هذه الحرب من جهة أخرى، على شتى الصعد:
أولاً - على الصعيد الاقتصادي:
دمار اقتصادي وخراب في البنى التحتية لبلدان أوروبا مما جعلها بحاجة إلى استثمارات كبيرة لاستعادة توازنها الاقتصادي وتحقيق الانتعاش من جديد، في حين خرجت الولايات المتحدة من الحرب قوة صناعية مسيطرة في العالم، وجعلت منها أكبر مصدر استثمار، وتوسعت وتجددت صناعتها، وأصبحت تبحث عن أسواق خارجية لتصريف منتجاتها. ولم تكن أوروبا تستطيع الاستجابة , بسبب النقص في قدراتها الشرائية عند انتهاء الحرب ، مما أعطاها مؤشرات لبداية كساد اقتصادي في العام 1947 (شبيه بالكساد الرهيب عام 1929) نتيجة تخفيض مشتريات الدولار في أسواق أوروبا، وخفض الطلب فيما وراء البحار، ولذلك فقد جاء مشروع مارشال استجابة لحاجة الاقتصاد الأمريكي، وضرورة إنعاش وتنشيط الاقتصاد الأوروبي ونمو أسواق أوروبا أمام منتجات الصناعة الأمريكية.
لقد كانت الحرب ونتائجها والدعوة إلى إعمار أوروبا سبباً لاستعادة الاقتصاد الأمريكي عافيته منذ الأزمة المالية التي عصفت به عام 1929.
ثانياً - على الصعيد السياسي:
شهدت نتائج الحرب العالمية الثانية مواجهة بين الغرب الرأسمالي والدول الشيوعية أدت إلى قيام معسكرين متصارعين، ووصلت إلى حد إعلان الحرب الباردة التي أصبحت استراتيجية كلا القطبين في الساحة الدولية، وهذا ما أدّى إلى تقسيم أوروبا إلى رأسمالية متحالفة مع الولايات المتحدة ، واشتراكية متحالفة مع الاتحاد السوڤييتي. وكانت الأحزاب الشيوعية قد حقّقت مواقع قوية ذات تأثير داخل أوروبا الغربية، خاصة في فرنسا وإيطاليا ، ولذلك فقد أدركت الولايات المتحدة أن استمرار الأوضاع الاقتصادية المنهارة سيساعد الحركات الشيوعية، ويجعلها تتقدم في السيطرة على نظم الحكم بطريقة ديمقراطية . وكان المشروع ينطوي على هدف سياسي يتمثّل في إحباط الشيوعية ومحاربة الحركات اليسارية.
ثالثاً - على الصعيد الاجتماعي:
كان هدف المشروع امتصاص البطالة التي يمكن أن تكوّن مناخاً ملائماً لحركات اليسار و الأحزاب الشيوعية كي تنشط وتدعم مواقعها في بلدان أوربا الرأسمالية. كما أن توافر قدرة شرائية وتحويل هذه المجتمعات من مستهلكة إلى منتجة، يحقّق تنافساً قوياً مع أوروبا الإشتراكية.
وكما تباينت الآراء بصدد دوافع هذا المشروع، فإنها تباينت بصدد الآثار والنتائج التي حققها؛ فمنها من رأى أنه حقق نجاحاً في استعادة القدرة الإنتاجية لأوروبا وضبط مخاطر التضخم وإحياء التجارة الحرة بين الدول الأوربية، حيث زاد إنتاجها في نهاية عام 1951، أي نهاية المشروع ، بمقدار الثلث عما كان عليه.
وذهبت آراء أخرى إلى أن مشروع مارشال لم يكن سوى عامل مساعد على تحقيق النمو الاقتصادي إذ إن القدرات الأوروبية الذاتية هي التي أدّت إلى نجاح مشروع إعادة الإعمار وتنشيط النمو الاقتصادي.
فالاستثمارات الأوربية المحلية بلغت 80 -90% من حجم الاستثمارات في معظم هذه الدول ، غير أن المشروع قد دفع باتجاه توجيه التطوّرات الاقتصادية اللاحقة في دول غرب أوروبا نحو حرية التجارة والتعاون الإقليمي, والإسراع بتحرير التجارة وإزالة القيود الجمركية، وبذلك أسهم في وضع أساس النظام الاقتصادي الرأسمالي القائم على حرية التجارة وحرية انتقال رؤوس الأموال، وهذا ما أدى لاحقاً إلى تكوين اتحاد المدفوعات الأوربية ، وتدعيم فكرة التجارة متعددة الأطراف ، والابتعاد عن فكرة المقايضة واتفاقات الدفع.
وقد أدّى تدعيم فكرة التعاون الإقليمي والتنسيق في السياسات المالية والاقتصادية بين الدول الأوربية إلى إنشاء السوق الأوربية المشتركة التي تطوّرت نحو الاتحاد الأوروبي، بفضل التطلع نحو خلق كتلة اقتصادية وسياسية قوية في الساحة الدولية. (موقع المعرفة وويكيبيديا الموسوعة الحرّة) .
مشروع مارشال يُفسد الثقافة ويخدم المخابرات المركزية في الحرب الباردة :
---------------------------------------------------------------
في فصل "مجرد بونبون" تقول "ف . س . سوندرز" مؤلفة كتاب : "من الذي دفع للزمار ؟ الحرب الباردة الثقافية" " :
(كان ذلك أكثر من قدرتنا على الإنفاق ، أذكر أننا التقينا ذات مرة و "ويزنر" ومراقب الحسابات ، صرختُ : يا إلهي ! كيف لنا أن ننفق ذلك كلّه ؟ لم يكن هناك حدود ، ولم يحاسب أحدٌ أحداً .. كان أمراً مذهلاً ! )
"جلبرت جرينواي"
أحد رجال الـ CIA
"كان الحصول على موقع مناسب في سوق الحرب البارد الثقافية يتطلب استثمارا ضخما . حدث في البداية أن كان "آيرفنج براون" هو الذي يقوم بدور قناة توصيل الأموال لبرامج الـ CIA الثقافية . ويتذكر "توم برادن" : كنتُ أعطي أحياناً لـ "براون" 15000 دولارا أو 10000 أو 5000 في المرة الواحدة خارج الميزانية ، ولم أعرف قط ماذا كان يفعل بها ! ولكن تلك المبالغ كانت "فكّة صغيرة " مقارنة بالاعتمادات المالية التي كانت موضوعة تحت تصرفه . بعد ذلك كشف "لورانس دونيفي" عن أن مفتاح ذلك كله كان المبالغ المالية أو الاعتمادات الأخرى "النظيرة". لم يكن أحد في الكونغرس الأمريكي يستطيع أن يقف ليقول : انظر ماذا يفعلون باموال دافعي الضرائب ، فهي لم تكن أموالنا . كانت منتجا فرعيا من منتجات "مشروع مارشال" ! في خطوة مبتكرة في السنوات الأولى من مشروع مارشال كان هناك اقتراح بأن تقوم كل دولة من الدول التي تتلقى المعونة بإيداع مبلغ يعادل المبلغ الممنوح لها من الولايات المتحدة في بنكها المركزي . كان الهدف من ذلك هو أن يؤدي الدعم المالي دورا مزدوجا بعد ذلك يسمح اتفاق مشترك بين الدولة المتلقية للمنحة والولايات المتحدة باستخدام تلك الاعتمادات معا . الجزء الأكبر من الاعتمادات (95%) يظل ملكية قانونية لحكومة الدولة ، بينما تكون (5%) من الوديعة ملكا لحكومة الولايات المتحدة . هذه "الاعتمادات النظيرة" - وكانت تُقدّر بمائتي مليون دولار في السنة – كانت تحت تصرف الـ CIA كخزانة حرب .
في شهر ديسمبر 1950 كان "ريتشارد بيسيل" أستاذ الاقتصاد في جامعة "ييل" في الثلاثييات نائبا لمدير مشروع مارشال . وذات يوم قام "ويزنر" بزيارة بيسل الذي قال : كان يريد أموالاً ، وطلب أن أساعده في تمويل العمليات السرية لمكتب تنسيق السياسات "opc" بتخصيص مبلغ بسيط من الـ (5%) في حساب الاعتمادات النظيرة . ومن الصعب القول إن أحدا كان يلاحظ أن تلك الأموال كانت تساعد عمليات سرية .. كنّا في مشروع مارشال نتعامل بشكل مباشر أو غير مباشر مع عدد كبير من المستفيدين من برنامج العمليات السرية الباكرة للـ CIA .
كانت أموال الاعتمادات النظيرة قد استُخدمت من قبل "هاريمان" لمشروع مارشال بغرض تمويل الحراك المضاد لمكتب تنسيق السياسات "opc" في اليوم العالمي لمقاومة الدكتاتورية والحرب في شهر أبريل عام 1949 . كما لعبت دورا حاسماً في الإنتخابات الإيطالية في عام 1948 . والآن كان آيرفنج براون يستطيع مضاعفة أموال الرشوة الخاصة بالـ CIA بواسطة "بونبون" مشروع مارشال . ومن بين المشروعات السرّية الكثيرة التي تم تمويلها عن طريق براون كانت هناك "منظمة الحرّية الثقافية" في 1951 الذي خصص لنفقاتها الإدارية ما يقرب من مائتي ألف دولار (ما يعادل مليونا ونصف المليون دولار بحساب عام 1999) . من هذا المبلغ دُفعت رواتب الكثير من [المثقفين الغربيين بعلمهم بالمصدر أو بدون علمهم] .. كان الإنفاق الشهري على السكرتارية فقط في ذلك الوقت حوالي خمسة ملايين فرنك . كما كان "برادن" يموّل "أصدقاء الحرية" بمبلغ مماثل تقريبا . وكان قد أودع مبلغ أربعين ألف مارك ألماني في حساب خاص في ألمانيا لصالح مكتب المنظمة هناك لتغطية رواتب الموظفين ومصروفات المكتب . أما المكتب الإيطالي فكان يتلقى حفنة من الدولارات شهريا عن طريق حساب لمحرر في جريدة "نوفا إيطاليا" ، كما كان "مايكل كودوين" سكرتير الجمعية البريطانية للحرية الثقافية يحصل على إعانة قدرها 700 دولار شهريا تودع في حسابه في بنك ويستمنستر .
لم تُحقق منظمة الحرية الثقافية بثمن بسيط على مدى السنوات السبع عشرة التالية . كان على المخابرات المركزية الـ CIA أن تضخ عشرات الملايين لمنظمة الحرية الثقافية والمشروعات المتصلة بها ، وبمثل هذا النوع من الالتزام ، كانت الـ CIA بالفعل وزارة ثقافة لأمريكا .
أخطبوط مرعب سيدوّخ القارىء ! :
أحد الملامح الرئيسية لجهود الوكالة من أجل تعبئة الثقافة كسلاح في الحرب الباردة كان تنظيمها الدقيق لشبكة من الجماعت "المستقلة" أو من "الأصدقاء" في اتحاد غير رسمي كان عبارة عن تحالف "مقاولات" بين مؤسسات خيرية ومؤسسات تجارية وغيرها ، وبين أفراد يعملون مع المخابرات المركزية لتقديم الغطاء وقنوات التوصيل لبرامجها السرية في أوروبا الغربية .
كان "ألن دالاس" هو الذي أوحى بفكرة ذلك "الكونسورتيوم" .. شكّل هو وأخوه "جون فوستر دالاس" اللجنة القومية من أجل اوروبا الحرّة .. كانت ميزانيتها كبيرة وخصصت 10 ملايين دولار لإذاعة أوروبا الحرة التي أسست في برلين عام 1950 تحت رعاية اللجنة . وفي خلال سنوات قليلة أصبح للإذاعة 29 محطة تبث بـ 16 لغة مختلفة وتستخدم كل حيل الخطابة ..
أما الشعبة المسؤولة عن جمع الإعانات والتبرعات للجنة أوروبا الحرة فكانت هي "حملة الحرية" والتي كان المتحدث الرسمي باسمها والمسؤول عن دعايتها ممثل شاب اسمه "رونالد ريغان" الذي سيصبح رئيسا للولايات المتحدة. كانت حملة الحرية تُستخدم كوسيلة لغسيل الأموال المخصصة لإعانة برنامج يديره "بيل كازي" الذي سيصبح مديرا للـ CIA فيما بعد ، وكان ذلك البرنامج يحمل اسم اللجنة الدولية للاجئين في نيويورك والتي يُقال إنها كانت تنسق عمليات التنقية السابقة للنازيين الذين خرجوا من ألمانيا إلى الولايات المتحدة حيث كان من المتوقع أن يساعدوا الحكومة الأميركية في صراعها ضد الشيوعية .
كانت المؤسسات الحقيقية (وليس الوهمية) مثل مؤسسة فورد ومؤسسة كارنيجي ومؤسسة روكفلر تعتبر الغطاء الأفضل للدعم والمقبول ظاهريا . ومن المؤكّد أن ذلك قد مكّن الـ CIA من تمويل عدد لا بأس به من برامج العمل السري الذي كان له تأثيره على التجمعات الشبابية والعمالية والجامعات ودور النشر وغيرها من المؤسسات الخاصة منذ أوائل الخمسينات .
كانت مؤسسة فورد تبدو مجرد امتداد للحكومة الأميركية في ميدان الدعاية الثقافية العالمية . كان للمؤسسة تاريخ من التورط في العمليات السرية في أوروبا ، حيث كانت تعمل بشكل غير مباشر مع مشروع مارشال وبعض المسؤولين في الـ CIA في مشروعات معينة ، هذه العلاقة المتبادلة تم توسيع إطارها عندما جاء "ريتشارد بيسيل" مخطط مشروع مارشال إلى مؤسسة فورد عام 1952 حيث أصبحت "الإعانات النظيرة" تصل بتوقيعه إلى "فرانك ويزنر" (المشرف على منظمة الثقافة الحرة) .. ترك بيسيل مؤسسة فورد فجأة ليلتحق بالـ CIA مساعدا لألن دالاس في يناير 1954 .. كان بيسيل سبق له أن عمل مباشرة تحت رئاسة بول "هوفمان" الذي أصبح رئيسا لمؤسسة فورد في 1950 .. كان هوفمان قد جاء مباشرة من وظيفته كمدير في مشروع مارشال وبذلك حصل على خبرة كاملة نتيجة انغماسه في مشكلات أوروبا .. كانت إحدى المغامرات الأولى لمؤسسة فورد بعد الحرب في مجال الدبلوماسية الثقافية العالمية هي بدء "برنامج النشر المتبادل" بإشراف "جيمس لوفلن" ناشر سلسلة "توجّهات جديدة" (التي أصدرت أعمال جورج أورويل وهنري ميللر) . وبمنحة قدرها نصف مليون دولار بدأ لافلن إصدار مجلة (بيرسبيكتيفز – perespectives) الموجّهة لليسار غير الشيوعي في فرنسا وانجلترا وإيطاليا وألمانيا (وكانت تصدر بتلك اللغات كلها) .. بعد فشل هذه المجلة اتجهت مؤسسة فورد إلى تمويل ودعم مجلة "لاسكي" و "ديرمونات" الألمانية التي أنشأت عام 1948 بتمويل عن طريق "إعانة سرية" من المفوضية الاميركية العليا .. في 21 يناير 1953 عندما شعر ألان دالاس بالقلق على مستقبله السياسي بعد انتخاب إيزنهاور قابل صديقه "ديفيد روكفلر" الذي وعده برئاسة مؤسسة فورد إذا ترك الوكالة .. ظهرت الأخبار بأن دالاس سيكون مديرا للوكالة أما رئيس مؤسسة فورد فهو "جون ماكلوي" الذي سبق له أن عمل وزيرا مساعدا للحربية ورئيسا للبنك الدولي ومفوضا أعلى في ألمانيا ، وفي 1953 رئيسا لبنك تشيزمانهاتن عند آل روكفلر ورئيسا لمجلس العلاقات الخارجية بعد اغتيال جون كينيدي .. وفي أثناء ذلك كله كان محتفظا بعمله كمحام في وول ستريت لشركات النفط السبع الكبرى ومديرا لعدد من المؤسسات . وقد تولّت مؤسسة فورد إنشاء العديد من المشروعات المشتركة منها "صندوق دعم أوروبا الشرقية" وهو واجهة للـ CIA ولعب فيها "جورج كينان" دورا مهما . عقد الصندوق صلات وثيقة مع دار تشيخوف للنشر التي تلقت منه 523000 دولار لشراء أعمال روسية " ممنوعة " ، ومنحت 500000 دولار للجنة الإنقاذ الدولية برئاسة "بيل كيسي" وإعانات مالية لواجهة أخرى لـ CIA هي مجلس الشباب العالمي .. ولمجلس العلاقات الخارجية الأميركية الذي يمارس حتى اليوم نفوذا ضخما على السياسة الخارجية الأميركية .. وبفضل منحة ضخمة من مؤسسة فورد استطاع معهد الفن المعاصر الذي أنشيء في واشنطن عام 1947 أن يوسّع نشاطه .. ومن بين الذين أفادوا من سخاء المؤسسة أيضا "هربرت ريد" و"سلفادور دو مادارياجا" و"ستيفن سبندر" و"بورت لويل" "وروبرت ريتشمان" . وكانوا كلهم زملاء "مجلس قادة الثقافة" التابع للـ CIA . كان ذلك امتدادا لعمل منظمة الحرية الثقافية والذي كان هو نفسه من أكبر الجهات المتلقية لدعم مؤسسة فورد حيث كان قد حصل على 7 مليون دولار في أوائل الستينات . (كتاب : من الذي دفع للزمّار؟)
ملاحظة ختامية :
----------------
ما يهنا هنا هو أن نلفت نظر السادة القرّاء - أوّلاً - إلى هذا "الأخطبوط" الأميركي الرهيب : المالي السياسي الثقافي الاستخباري الذي يدير الحياة في الولايات المتحدة ولا يسلم من أذرعه الخانقة أيّ نشاط حياتي مهما بدا محايداً وبريئاً . وثانيا ، يبدو أن كل شيء يخضع لسيطرة وكالة المخابرات المركزية حتى الأنشطة الفنية والأدبية والعلمية (بالمناسبة شبكة االإنترنت خُلقت في أروقة البنتاغون ووكالة المخابرات) . وثالثاً ، الجميع يشتركون في الهدف النهائي هو عبادة "عجل الذهب" الدولار الذي يُفضّل أن يكون مغمّساً بالدم ليشبع الجوع السادي في الشخصية الأميركية . إنّ مشروعاً ضخماً دخل تاريخ التنمية من اوسع أبوابه هو "مشروع مارشال" قد سوّقته الدعاية الأميركية كمشروع تنموي "بريء" في حين أنه كان غطاء لمزيد من الإثراء الأميركي وتدمير إرادات البشر وإيقاعهم في شرك التبعية والإستلاب . وسنرى قريبا أن حتى الأدوية ولقاحات التطعيم وعلاجات السرطان تُزوّر وتُعطّل وتُدمّر من أجل شيء واحد هو : الربح بالدولار .
# ملاحظة عن هذه الحلقات :
----------------------------
هذه الحلقات تحمل بعض الآراء والتحليلات الشخصية ، لكن أغلب ما فيها من معلومات تاريخية واقتصادية وسياسية مُعدّ ومُقتبس ومُلخّص عن عشرات المصادر من مواقع إنترنت ومقالات ودراسات وموسوعات وصحف وكتب خصوصاً الكتب التالية : ثلاثة عشر كتاباً للمفكّر نعوم تشومسكي هي : (الربح فوق الشعب، الغزو مستمر 501، طموحات امبريالية، الهيمنة أو البقاء، ماذا يريد العم سام؟، النظام الدولي الجديد والقديم، السيطرة على الإعلام، الدول المارقة، الدول الفاشلة، ردع الديمقراطية، أشياء لن تسمع عنها ابداً،11/9) ، كتاب أمريكا المُستبدة لمايكل موردانت ، كتابا جان بركنس : التاريخ السري للامبراطورية الأمريكية ويوميات سفّاح اقتصادي ، أمريكا والعالم د. رأفت الشيخ، تاريخ الولايات المتحدة د. محمود النيرب، كتب : الولايات المتحدة طليعة الإنحطاط ، وحفّارو القبور ، والأصوليات المعاصرة لروجيه غارودي، نهب الفقراء جون ميدلي، حكّام العالم الجُدُد لجون بيلجر، كتب : أمريكا والإبادات الجماعية ، أمريكا والإبادات الجنسية ، أمريكا والإبادات الثقافية ، وتلمود العم سام لمنير العكش ، شوكة في حلق المتحكّمين لآمي جودمان وديفيد جودمان ، كتابا : الإنسان والفلسفة المادية ، والفردوس الأرضي د. عبد الوهاب المسيري، كتاب: من الذي دفع للزمّار ؟ الحرب الباردة الثقافية لفرانسيس ستونور سوندرز : وغيرها الكثير.
تاريخ النشر
04.06.2015
تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم
الصفحة الرئيسية | [2] [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا
جميع الحقوق محفوظة © 2009 صوت اليسار العراقي
الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا |
04.06.2015 |
---|
|
لا للتقسيم لا للأقاليم |
لا للأحتلال لا لأقتصاد السوق لا لتقسيم العراق |
صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العرب و العراقيين
|
|
---|---|---|---|---|
|
||||
للمراسلة webmaster@saotaliassar.org |