<%@ Language=JavaScript %> د. حسين سرمك حسن محبرة الخليقة (35) تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع الكبير "جوزف حرب"

 

 

محبرة الخليقة (35)

 

تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع الكبير "جوزف حرب"

 

 

د. حسين سرمك حسن

 بغداد المحروسة

2012 – 2013

 

ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً . 

 

 

الفن الأسود:

الإنسان ذئبُ أخيه الإنسان

-------------------------

(       إنّ الذي ضمّتهُ في ألواحها

  السودِ

       النعوشُ ،

                   وحشٌ تودّعه

                   بمأتمهِ الوحوشُ . )

 

حين تسمع بتعبير "الفن الأسود" ، فلن تكون مخطئاً حين تتزاحم في ذاكرتك صور مفاهيم عن جهود فنّية تصوّر ما هو مخيف ومرعب سواءَ في السينما أو الأدب أو الفن التشكيلي . ستتصوّر مثلاً – وأنت محقٌّ في ذلك – لوحةً فيها غربان سود مخيفة وأشباح مرعبة وبقع دمويّة .. أو حكاية عن دراكولا أو مصاصي دماء آخرين .. أو فيلماً مرعباً على الطريقة الهيتشكوكية . لكن لا يمكن أن يخطر في بالك ولو لمرة عابرة أن يكون تعذيب الإنسان لأخيه الإنسان فنّاً حتى لو كان من النوع الأسود أو الأحمر . هذه من مفاسد العلم بجميع أصنافه .. مفاسد خرّب بها وفيها فطرة الإنسان البسيطة القديمة . ولأننا كنّا نحلّل نصوص جوزف حرب المتعلقة بالغولة الأم في قسم "الحرب" ، فيمكننا أن ننتقل من مساويء العلم والعلماء التافهين فيها ، في الحرب ، إلى مساويء العلم والعلماء التافهين في هذا "الفن الأسود" العجيب ، ولكن بعد حين :

(               تُبقرُ

                بطنُ الجحشْ ،

                يُنزعُ ما فيها ،

                تُصبحُ

                       جوفاءْ .

                وتُقيّدُ

                عذراءْ

                كي لا تقدرَ أن تتحرّكَ . توضعُ

في الجوفِ خلا الرأسِ ، ليشهدَ حاكمُ اثينا

رعبَ ملامحها ، وليُصغي لصراخٍ يملأُ حتى

حجرَ الصوّانِ

                بكاءً .

                ويُشدُّ الجوفُ مع الظهرِ بحبلِ ،

يُحملُ جحشُ الحاكمِ – والعذراءُ بداخلهِ

                فوقَ

                العربهْ .

                يُرمى في وادٍ ،

                حتى يتهرّأَ جسم الجحشْ .

                يبكي دودُ الجحشِ

               على العذراءْ .

               تلبسُ أسودها

               كلّ عصافيرِ الوادي البيضاءْ .

               ويمرُّ

               ولا يلتفتُ الوحشْ . – ص 985 – 987) (نصّ "العذراء") ,

ودعنا نبدأ من خاتمة هذه القصيدة التي يترجم فيها الشاعر -  شعراً - طريقة تعذيب قديمة موثّقة تستطيع أن تراجعها في الكتب المتخصّصة بـ "فن" التعذيب . في خاتمة القصيدة يمرّ الوحش الإنسان الحاكم بلا مبالاة ، ولا يلتفت ليرى تفسّخ جسم العذراء المسكينة . حتى دود الجحش بكى على العذراء ، وأعلنت عليها الحداد عصافير الوادي البيضاء . ولم يتحرّك قلب الإنسان ! وهذه أوّل مفارقة صادمة لنفوسنا المؤمنة بخير الإنسان ، ولعقولنا التي تبرّر سلوكياته العدوانية ، وتصوّره ملاكاً مسكيناً فقد جناحيه فجعل يمشي على الأرض . مفارقة لا تُصدّق أبداً يقدّمها جوزف حرب ، وهي خطيرة على أصحاب القلوب الضعيفة ، وذوي الضمائر البيض الهشّة . فستأتي بعدها سلسة قصائد تضعنا أمام الصورة "النيجاتيف" بعد أن ظهّرتها أنامل الشاعر الجسورة . النيجاتيف المسكوت عنه والمتواطأ عليه ، والذي عملت الأديان والفلسفات قرونا طويلة على منع ظهوره ، وتزيين الصورة المظهرية الخادعة والمخدّرة المناقضة له . سلسلة القصائد هذه مليئة بالدروس والغايات التي وضعها الشاعر – شعوريا أو لاشعوريا ، لا فرق ، فلاشعور الشاعر ، بخلافنا ، هو شعوره – ضمن رسالته التي جاءت ذهنيّة تنقل أفكاراً ، وجمالية مرعبة مشحونة صوراً ، وكأننا أمام فنٍّ أسود شعري يلوب في أحشائه فنٌّ أسود تأريخي . وقد تتساءل – على سبيل المثال لا الحصر – عن مقدار "المصلحة النفسية" التي يجنيها كاتب مثل ميشيل فوكو وهو ينقل لنا ، وبشاعريّة عالية ، أبشع صور التعذيب وطرقه الفظيعة المقزّزة التي مارسها الإنسان في العصور الوسطى في كتابه "المراقبة والمعاقبة" ؟! بمعنى آخر كم هو مقدار التفريج أو الـ "catharsis" حسب الفكرة الأرسطية التي يتيحها لنا الإبداع ، وتوفّرها لنا قراءة نص سردي كالمراقبة والمعاقبة لفوكو ، أو سلسلة نصوص شعرية عن الفن الأسود هذا بمداعبتها لغرائزنا المتوحّشة المكتومة . فصاحب فكرة "العذراء" كطريقة للتعذيب لم يهبط علينا من السماء ، مثلما لم تهبط عليه الفكرة من السماء ، مثلما لم يهبط مقترح المقصلة وتصميم شكلها على رأس "غيوتين" الفرنسي عام 1789 من ملاك طائر . إنني أعتقد أنّ في الأعماق المظلمة للاشعور الإنسان مخزون هائل ومتجدّد ولن ينفد ، استُخلصت منه كل طرق التعذيب القديمة والحاضرة ، وسوف يمّد المستقبل بطرق لم تمر على بال أحد .

وفي سلسلة القصائد المقبلة سينقل لنا الشاعر صوراً شعريّة عن نماذج من طرق التعذيب التي اتبعها الإنسان في تحطيم جسد وروح أخيه الإنسان . ومنذ النصّ الأول التالي "حبلى" تململت فكرة مركزية تتعلق بسيكولوجية التعذيب أثارها في فكري الشاعر ، وهذه من بعض حسناته في فنّه الأسود هذا :

(                    كانت قديماً

                     كرةُ النحاسْ

                     في حجمِ غرفةٍ لها بابٌ ،

     وفتحاتٌ بشكلِ الانفِ ،

                     والشفاهْ .

                     يدخلها

                     المعذّبونْ ،

                     ويُحرقونْ ،

                     فتحْتَها نارٌ ، فتغدو

                     مثلَ بطنِ مقبرهْ ،

                     مُستعرهْ ،

                     حُبلى

                     بميّتينْ ،

                     وكلُّ ميّتٍ فيها

                     جنينْ . – ص 988 و989) .

الفكرة التي تململت في مخيّلتي والتي منشؤها الجنيني الصورة التي نقلها الشاعر عن طريقة تعذيب سمّاها حبلى حالها حال مثات الأفكار بل النظريات التي اكتشفها وأنضج نواها المبدعون ثم جاء العلماء وخصوصاً علماء النفس ليقعّدوها على أسس علمية ويصيغوها في صورة قوانين وقواعد . هذه الفكرة الأوّليّة تقوم على شقّين الأول يتعلق بالأصل ، أصل عملية تعذيب الإنسان لأخيه الإنسان ، والمرعب في تفنّنه بها . هل هذا النزوع يشكّل جزء من خيالات الإنتقام من الأمومة ، بجعل الرحم جحيماً ، وعماءه الهاديء أفاعٍ وغيلاناً ووحوشاً ، وصمته الخالق زعيقاً وحشرجة احتضارات ؟ هل عملية "التمويت" والتقتيل في طرق التعذيب ، وفي فكرته أصلاً هي "مقلوب" عملية الولادة المحيية المنعمة . في أغلب طرق التعذيب ، ومنها الطريقتين السابقتين : العذراء ، وحبلى ، تجد الرحم وقد افرغ بوحشية من محتوياته ، وأقحم فيه الإنسان المعذّب ليتخذ الوضع الجنيني المميت بالقوّة وسط توسّلاته وبكائه  وهذه طريقة "البئر" :

(                    ألبئرُ

                     ملأى بالأفاعيْ .

                     فوهَتها مُلقىً عليها حجرٌ

             من

                     ملحْ

                     له

                     ثقوبْ .

                    وقد تدلّى منهُ حبلٌ يُربطُ

       المعذّبون فيهِ ،

                    ثمّ

                    كالمطرْ

                    يُقطّرُ

                    الماءُ

                    على الحجرْ

                    حتى

                    يذوب . ص 990 و991) (نصّ :البئر") .

وكيفّ سيدفعك الشاعر للتصديق وأنت قد تكون ممن لا يريد أن يكون غاوياً ، ومن الذين يؤمنون بأنه – أي الشاعر  - من الذين في كل واد يهيمون ويقولون ما لا يفعلون مادام سلاحهم الأساس مخيلّتهم التي قد تلقيهم في وادي الأوهام ؟ إذا كنت تجد طريقة "الحبلى" التي تقوم على التعذيب بحرق الإنسان لأخيه الإنسان في كرة نحاسية ، فاسمع ما قاله الثائر المعروف "نلسون مانديلا" لأعضاء أحد الوفود العربية التي زارته للإستفادة من تجربته وتجربة بلاده في قيادة مجتمعها الممزق طائفيا وسياسيا . قال لهم :(صدّقوني .. سُجنت في جزيرة منعزلة أكثر من (20) عاما .. وكنت ، وأنا في الزنزانة ، أرى الحراس يأخذون المعتقلين السياسيين الزنوج من رفاقي ، ويشوونهم ، وهم أحياء ، في فرن حديدي ، وكنت أسمع أصواتهم المستغيثة ، وشوي لحمهم وطقطقة عظامهم ) .

وإذا كنتّ قد اعتقدتَ أن طريقة البئر طريقة قديمة ابتكرها الإنسان القديم القاسي وولّت معه ، فاستمع لما قاله رئيس الأورغواي الذي قال في لقاء مع أعضاء وفد من دول عربية أخرى مبتلاة بالتمزق أيضاً . قال لهم نصا :

"أنتم داخلون في دوامة الثأر والتصفيات، لقد سجنني النظام السابق في بئر- تصوروا في بئر!!- ولمدة (13) سنة .. تصوّروا مسجوناً في بئر لمدة (13) سنة!!!.. وكانوا يعطونني رغيفا واحدا في اليوم ، وكنت أقتسمه مع فأر صغير صار صديقي في البئر..) .

وإذا – وسنستمر في إتعابك ايها القاريء بالتساؤلات ، وهذه من عطايا محبرة جوزف حرب  - لم تكن مستعداً لقبول ما ينقله الشاعر في قصيدة "الإمارة" (ص 992 و993) عن الأخ الأصغر الذي قتل إخوته الأحد عشر للإستيلاء على عرش أبيه الراحل في فارس ، فإن صراع "الأخوة الأعداء" في الحركات الثورية الحديثة في أرجاء المعمورة أشرس من هذا . تقول بعض الإحصائيات أن الرفيق ستالين قتل (50) مليون إنسان سوفيتي خلال فترة حكمه الإشتراكي الساعي نحو الشيوعية . وقد أخرج "بومدين" رفيق نضاله ورئيسه لعقود من ثصر الرئاسة ببجاما النوم ، وخنق أول رئيس وزراء شيوعي في أفغانستان بعد سقوط الملكية ، رئيسه بالمخدّة ! 

وعذراً لأن اختيار أمثلة محدودة قد يثير مشاعر أشخاص مؤمنين بأفكار معينة ، أو بحوادث مغايرة لما نذكره . نحن في الواقع نقوم بـ "تعذيبهم" مادام تعريف التعذيب يتضمن شرط عدم قدرة الضحية على الردّ ودفع الألم .

ولكنني سأعطيكم الحقّ سادتي القرّاء حين تنفعلون وتنكرون حدّ الغثيان ، وأن لا تصدّقوا ما يصوّره الشاعر في قصيدته "صورة لذاكرة الأعمى" :

(               كانَ الوجهانِ مليئينِ دماً

      غطّى

                الجسدينْ

                للطفلينِ

                الهنديينْ .

                فلكيْ لا يريا

                إلّا الأبوينْ ،

                مصلوبينِ

                ومحترقينْ ،

                وبغيرِ أصابعَ

                أو قدمينْ ،

                عادَ الطفلانِ من الساحةِ ،

        بعد الموتِ ،

                بلا عينينْ . – ص 994 و995) .

وسيبلغ غثيانك الإنكاري درجته القصوى في النصف الأوّلِ من قصيدة "غمامة المحبرة" التي تتحدّث عن نمط تعذيبي في الصين ، حيث يقطعون اليد اليمنى للمعاقبِ (وتهمته مشرّفة كما سنرى) ، ثم يده اليسرى ، فلسانه ، ويسملون عينيه ، ويثقبون أذنيه .. وأخيراً يذبحونه .

 

 

24.05.2015

 

صفحة الكاتب والناقد الأدبي العراقي  

د. حسين سرمك حسن

 

 

 

 

  عودة الى الصفحة الرئيسية◄◄

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

24.05.2015

  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4]  | أرشيف المقالات  |  دراسات  |  عمال ونقابات |  فنون وآداب |  كاريكاتير  |  المرأة |  الأطفال | إتصل بنا       

      

لا للتقسيم لا للأقاليم

 

لا

للأحتلال

لا

لأقتصاد السوق

لا

لتقسيم العراق

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة

من الكتاب والصحفيين العرب و العراقيين   

 

                                                                  

                                                                          

  

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org